العالم في حالة إعادة نظر إلى إسرائيل.. في عكس اتجاه إعادة النظر العربية إليها. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فما هو تفسير كل ما يجري في العالم في هذا الاتجاه: قافلة شريان الحياة وما تعبر عنه، تقرير لجنة غولدستون واتهاماتها وإداناتها الصريحة ضد إسرائيل، المظاهرات التي عمت العالم إبان حرب إسرائيل على غزة، التقرير الذي أصدره الاتحاد الأوربي مؤخراً عن القدس والدولة الفلسطينية على الرغم مما شابه من تردد أو تراجع، بروز أوجه كانت خافية من حركة اليهود المناهضين للصهيونية في الولاياتالمتحدة حيث تعيش أكبر الجاليات اليهودية في العالم وحيث النفوذ الصهيوني في أقصاه... وما إلى ذلك من مظاهر وظواهر التأييد لحقوق الفلسطينيين والنقد المباشر لسياسات الدولة الصهيونية وتجاوزاتها، بل وجرائمها؟ شيئان أساسيان يحولان دون إدراكنا وإدراك العالم كافة لحقائق هذه التحولات باتجاه إعادة النظر تجاه إسرائيل، الدولة الصهيونية: أولهما: التراجع الرسمي العربي أمام هجمات إسرائيل الشرسة العسكرية والسياسية والدبلوماسية... إلى حد لم تعد معه حكومات العرب التقليدية تصلح لمواجهة الصهيونية في مرحلة تراجعها وانكسار جدار الثقة بها عالمياً. وثانيهما: إصرار إسرائيل الصهيونية حتى الآن على أنها تمثل كل اليهود في العالم وليس اليهود معتنقي الصهيونية وحدهم. وهو ادّعاء لم يواجَه بما يكفي من رفض أو تحد إلى الدرجة التي تعطي صدقية كافية ليهود العالم الذين لا يريدون أن يرضخوا للصهيونية عقيدة وإيديولوجية أو حركة سياسية، تستند إلى تحالف قوي مع الرأسمالية العالمية والأمبريالية الأمريكية. بطبيعة الحال، فإن هناك عوامل أخرى تضاف إلى هذين العاملين الأساسيين، ولكن من المؤكد أنها ليست إلا عوامل مساعدة تتعلق بها إسرائيل وإن كانت قابلة للزوال مع مرور الزمن، وإن كانت إسرائيل تشعر، من تبدل الأحوال حولها، بأن العالم أخذ في إعادة النظر إليها. فبالإضافة إلى عامل الضعف العربي إلى حد يقترب فيه من الاستسلام وعامل الإصرار الصهيوني الإسرائيلي على احتواء كل يهود العالم، هناك عوامل مثل اختفاء الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية العالمية من طريق مواجهة إسرائيل باعتبارها قوة متحالفة مع الأمبريالية الأمريكية، وهو الذي كان يعلن اقتناعه بضرورة تحرير اليهود من هيمنة الصهيونية. وهناك أيضا عامل ارتباط مصالح المجموعة الصهيونية التي تحكم إسرائيل بمصالح الرأسمالية العالمية وقوتها المالية التي تلعب فيها رؤوس الأموال اليهودية دوراً أساسيا لا يمكن إنكاره. وبتفكك الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، خسرت قضية تحرير اليهود من الصهيونية حليفاً قوياً. وهناك عامل مساعد آخر يتمثل في ارتكاز الصهيونية العالمية على مزاعم مقاومة تيارات العداء للسامية التي تتمثل، في آخر صورها، في «الإرهاب الإسلامي» أو «الإسلام الإرهابي»، إذ لا يمكن إنكار حقيقة أن الحوادث الإرهابية التي تقوم بها عناصر تنسب نفسها إلى الإسلام قد مكنت الأمبريالية الأمريكية ومكنت حليفتها الصهيونية العالمية من جني ثمار الادعاء بأنهما تواجهان خطراً هو نفسه الخطر الوجودي الذي يواجه دولة إسرائيل. ومع أن العمليات الإرهابية على صعيد العالم كله لا تعدو أن تكون حوادث متفرقة لا ترقى إلى مستوى خطر عالمي داهم، فإن الأمبريالية والصهيونية العالمية بقيادة دولة إسرائيل تستخدمانها ذريعة للتحالف ضد التحرر العربي بكافة أشكاله وأساليبه. إنما يبقى العاملان الأساسيان وراء عرقلة صعود حركة عالمية للتحرر من الصهيونية العالمية، ومن أدواتها الرئيسية دولة إسرائيل، هما الضعف العربي الذي يبدو مزمناً ومندفعاً باتجاه الاقتراب من تحالف مع الصهيونية كنتيجة للتحالف العربي مع الأمبريالية الأمريكية، وثانيهما تمسك إسرائيل بكونها الممثل الشرعي والوحيد ليهود العالم... وافقوا على ذلك أو لم يوافقوا. وبينما تبدو حوادث العداء للسامية قليلة وضئيلة بالقياس إلى ماضيها في التاريخ ابتداءً من العالم القديم الفرعوني والروماني إلى العصور الوسطى الأوربية ثم القيصرية الروسية والنازية الألمانية فإن الصهيونية العالمية بقيادة إسرائيل تبذل أقصى جهودها لتصوير العداء للسامية على أنه تيار جارف خطير. وإذا لم يبد كذلك بشكل كاف فإنها تدعمه وتدّعيه وتمارس أقصى أساليب المخابرات لافتعاله، ليبقى ذريعة لوجود العقيدة الصهيونية وممارساتها المتطرفة. ولقد حاولت الحركة الصهيونية، منذ بداياتها الأولى في أوائل القرن التاسع عشر، أن تدّعي أنها المقاومة الوحيدة لتيارات العداء للسامية، مع أن ذلك لم يكن صحيحاً في أي وقت، بل لقد أثبتت أبحاث جادة كثيرة كان بعض القائمين بها من اليهود أن عناصر صهيونية قيادية لعبت أدوارا مهمة في مساعدة القوى المعادية للسامية، على اضطهاد اليهود وتوجيه ضربات قاتلة إليهم، خاصة في الحقبة النازية، كمبرر للحركة الصهيونية وسياساتها. ووصلت في هذا إلى حد الادّعاء بأن العداء للسامية مرض لا شفاء منه وسيبقى موجوداً ما بقي يهود في الشتات، أي خارج إسرائيل. في الوقت نفسه، فإن قوة إسرائيل «العالمية» استندت دائماً إلى الزعم العنصري الفاضح بأن اليهود شعب مختار وكل من عداهم دونهم في التركيب البيولوجي وفي العقيدة الدينية وفي التركيبة الاجتماعية. ولقد وجد هذا الزعم تطبيقه في سياسات دولة إسرائيل وحكوماتها المتتالية وأحزابها (عدا قلة من الأحزاب اليسارية التي تقف خارج الإطار الصهيوني أصلاً) التي تجعل من هذه الدولة، في التطبيق، كياناً فوق القانون الدولي وحتى فوق الأديان. تشهد على ذلك مواقف إسرائيل ضد أية اتهامات بالعنصرية وجهت إلى العقيدة الصهيونية، وضد أية اتهامات وجهت إلى إسرائيل وجيشها بارتكاب جرائم الحرب. زعمت الصهيونية كعقيدة وبصفة دائمة أن ثمة هوة سحيقة لا يمكن عبورها بين اليهود وغير اليهود... وبدلاً من أن تدان بالعنصرية لهذا السبب، كما حدث في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة (1973) فإنها بُرئت منه بعد ذلك في الجمعية العامة نفسها (1990). ولم يكن صحيحاً قبل قيام إسرائيل على أرض فلسطين، بل قبل صدور وعد بالفور (1917)، أن كان هناك إجماعا بين اليهود على أن وطنهم القومي لا بد أن يقوم في فلسطين. إن هيرتزل نفسه، مؤسس الصهيونية، فكرة وحركة، كان مستعداً للتباحث مع البريطانيين في إقامة وطن لليهود في الأرجنتين أو في أوغندا. إنما اعتبارات التحالف مع الأمبريالية والعلاقة الحميمة بين الرأسماليين الصهاينة والرأسمالية العالمية هي التي جعلت فلسطين تبدو لهؤلاء جميعاً أنسب من غيرها. كان زعماء الحركة الصهيونية، منذ البداية، حريصين على أن تكون دولتهم في حضن الأمبريالية العالمية... في البداية بريطانيا، وبعدها الولاياتالمتحدة. وبينما كان هدف الصهيونية، كما تحدد في المؤتمر الصهيوني الأول (1897)، «أن يخلق للشعب اليهودي وطن في أرض إسرائيل»، فإن المؤتمر الصهيوني الثالث والعشرين، الذي عقد بعد تأسيس إسرائيل، قد عدل هذا الهدف فأصبح «هدف الصهيونية هو تعزيز دولة إسرائيل والملتقى الداخلي للمنافي في أرض إسرائيل ودعم وحدة الشعب اليهودي». اعتبرت الصهيونية اليهود أغراباً في البلدان التي يعيشون فيها وأعلنت أنها تسعى إلى سحبهم منها وسحبهم من الصراع من أجل الديمقراطية والتقدم في تلك البلدان، لأنه ليس لهذا الصراع أية نتائج بالنسبة إليهم كيهود. ولعل أغرب ما يواجه العرب اليوم بسبب هذه العقيدة التي تضعها الصهيونية العالمية موضع التنفيذ بواسطة إسرائيل وبواسطة الضعف العربي المزمن هو أنهم يجدون أنفسهم قد تبادلوا المواقع مع اليهود قبل الحركة الصهيونية: مستضعفين ومضطهدين وينظر إليهم من قبل العالم على أنهم عنصر خاص لا يمكن الامتزاج به أو الثقة به. ستون عاما وأكثر من عمر دولة إسرائيل حولت العرب إلى موقف الضعف الراهن غير قادرين على وقف إسرائيل عند حد... حتى في وقت يعيد فيه العالم النظر إلى إسرائيل التي تبناها وأيدها وأمدها بالمال والسلاح والدعم السياسي والدبلوماسي... وإذا بها تتحول إلى قوة غاشمة تبطش بالضعفاء الذين وضعتهم الأقدار في طريقها. تصور العرب، على مدى أكثر من ستين عاماً، أن النضال ضد إسرائيل والصهيونية لا يعدو أن يكون سوى عمل رسمي لحكومات تتولاه الجيوش والدبلوماسيون الرسميون، فكانت النتيجة هزائم عسكرية لهم وانتصارات عسكرية وسياسية إسرائيلية متوالية، واحتراماً تبديه القوى الأمبريالية للدولة الصهيونية. لم يفكر العرب لوقت كاف في أن النضال ضد الصهيونية نضال جماهيري واسع... عمل أشبه ما يكون بما قامت به القوى التي شكلت الحركة الصهيونية قبل أن يتاح لها التوفر على جيش قوي. الآن والعالم يبدو في حالة إعادة نظر إلى إسرائيل والعقيدة الصهيونية والحركة الصهيونية العالمية، آن الأوان للعرب أن يدركوا أن نضالهم ضد هذا كله من أجل حقوقهم وحقوق قوى التحرر بما في ذلك حقوق اليهود الذين يرفضون الصهيونية مبدأ أو عقيدة تُفرض عليهم لا بد أن يتحول إلى حركة عالمية، مسموعة الصوت مرئية في كل مكان. الآن، لا بد أن نبدأ صراعاً من نوع جديد ضد الصهيونية، يبدأ من مركز قوتها الرئيسي في الولاياتالمتحدة... حيث الحركة اليهودية المناهضة للصهيونية أقوى منها في أي مكان آخر في العالم، على الرغم من كل ما نعرفه من قوة اللوبي الصهيوني هناك. الآن، لا بد أن يهدف النضال العربي بداية إلى تفكيك تلك العلاقة الزائفة التي خلقتها الصهيونية بالزعم بأن كل يهودي في العالم صهيوني بالضرورة. إن التأييد والدعم اليهودي للحركة الصهيونية ودولتها بين اليهود آخذ في التراجع، وتراجعه أوسع وأقوى بين غير اليهود بعد كل ما اتضح من انفلات السياسات الإسرائيلية من أية ضوابط قانونية أو أخلاقية أو إنسانية. إن طلب إسرائيل اللاعقلاني لنيل تأييد كل اليهود وكل غير اليهود لسياسات علاماتها الرئيسية هي التطرف والطغيان إلى حدود تستعيد معها ممارسات النازية، يقابل الآن بمقاومة إيجابية من جموع كبيرة من الأمريكيين والأوربيين. وقد لا تنعكس هذه المقاومة في الكونغرس أو في البيت الأبيض أو الخارجية أو البنتاغون، ولكن الدلائل تشير إلى أنها ستنعكس يوما. وهو ما يمكن الاستدلال عليه بما جرى إبان نشوء الحركة الصهيونية نفسها. لقد قوبلت في البداية بمقاومة وصلت إلى حدود الرفض، ولكنها لم تلبث أن نجحت وإن استغرق الأمر سنوات. الآن، لا بد أن تبدأ المعركة ضد فكرة إسرائيل باعتبارها دولة كل يهود العالم، وستجد من يخوضها من اليهود وغير اليهود. الآن، لا بد أن تبدأ معركة أرض فلسطين باعتبارها الأرض التي يعيش فيها، بالتساوي والتسامح والتعاون، الفلسطينيون واليهود في دولة واحدة. الآن، لا بد أن يصبح النضال نضال نزع الطابع الصهيوني وأهداف الصهيونية وأساليبها لتصبح فلسطين دولة ديمقراطية واحدة لعربها ويهودها. الآن، لا بد أن تنهض منظمات عربية وعالمية بهذا الجانب من النضال لتخطي عقبات الضعف العربي وتخطي عقبات التحالف الصهيوني الأمبريالي. الآن، لا بد أن يزال النفوذ الصهيوني في إسرائيل وأمريكا وأوربا من أجل اتخاذ خطوة كبيرة نحو اليهود تكون هي نفسها خطوة كبيرة نحو الفلسطينيين والعرب من أجل دولة ديمقراطية واحدة تجمعهم في فلسطين. دولة متحررة من العنصرية تقيم السلام والرخاء لمن يرضيهم أن يكونوا فيها من دون استعلاء عنصري أو عقائدي. ليس هذا مستحيلاً مهما بدا صعباً.. خاصة والعالم يعيد النظر إلى إسرائيل وإلى الصهيونية. والصهيونية كانت في وضع أصعب من هذا الوضع عندما بدأت.