كان الحدث الذي شهدته اجتماعات مجلس حقوق الإنسان بمدينة جنيف يوم الجمعة 3 أكتوبر 2009 أقرب إلى اللامعقول السياسي منه إلى الدبلوماسية الدولية، فبعد أن كان من المفترض أن يصوت المجلس على قرار، رعته مجموعة الدول العربية والإسلامية ودول عدم الانحياز، يدين تقاعس الدولة العبرية عن التعاون مع فريق الأممالمتحدة للتحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، الذي قاده القاضي الجنوب إفريقي ريتشارد غولدستون، يتبنى التقرير ويرفعه إلى مجلس الأمن، تقدمت باكستان، نيابة عن الدول الراعية للقرار، بطلب إرجاء التصويت حتى موعد الجلسات العادية التالية في مارس المقبل، وقد برر المندوب الباكستاني الطلب بأن التأجيل سيتيح مزيداً من الوقت من أجل بحث شامل وواسع للتقرير، قلة -بالطبع- تعتقد أن تقرير غولدستون سيجري بحثه في المجلس من جديد، إن ترك الوضع على ما هو عليه، لأن الدوافع خلف التأجيل لا علاقة لها بمزيد من الوقت أو مزيد من البحث، طبقاً لمصادر إسرائيلية وأميركية وفلسطينية، كان التأجيل قراراً فلسطينياً في أصله، الدبلوماسي الفلسطيني بصفة مراقب، المتواجد على هامش اجتماعات مجلس حقوق الإنسان، والذي يفترض أن يكون ممثلاً للضحية، هو الذي طلب تأجيل التصويت على القرار. بمعنى أن الموقف الفلسطيني في المجلس مد يد العون لدولة الاحتلال، وقدم المساهمة الأهم لإنقاذها من الإدانة، بالنظر إلى خطورة الأمر والاهتمام العالمي به، فإن طلب التأجيل الذي تقدم به السفير الفلسطيني لمجموعة الدول الراعية لم يكن بالتأكيد مبادرة أو اجتهاداً شخصياً، ولا بد أن يكون قد صدر مباشرة عن رئيس سلطة الحكم الذاتي محمود عباس. رياض المالكي، وزير خارجية حكومة فياض في رام الله، تحدث عن ضغوط أميركية هائلة خلف قرار التأجيل، الحقيقة، أن سلطة الحكم الذاتي لم تذعن للضغوط الأميركية وحسب، بل وللإسرائيلية أيضاً، قبل أيام من انعقاد مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، كان وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان قد وجه الإنذار المستبطن الأول للسلطة الفلسطينية عندما كشف في حديث صحافي أن السلطة كانت تطالب الإسرائيليين بمواصلة الحرب على قطاع غزة وإطاحة حكومة حماس، ثم جاء دور رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي هدد بأن التصويت على رفع تقرير غولدستون إلى مجلس الأمن سيوجّه ضربة قاضية لمباحثات السلام، إضافة إلى أنه سيؤدي إلى إيقاف الدولة العبرية لترخيص شبكة هاتف محمول فلسطينية جديدة، على مستوى الحسابات السياسية الآنية، تأمل السلطة الفلسطينية، كما الإدارة الأميركية، أن تستأنف عملية التفاوض من جديد، وأن يوفر التفاوض فرصة لتسويةٍ ما ورافعةً سياسيةً للسلطة وقيادتها في التدافع المستمر على روح الشعب الفلسطيني. وعلى مستوى الحسابات السياسية الآنية، لا يمكن النظر إلى الموقف الفلسطيني سوى أنه يمثل خيانة صريحة لمصالح الشعب الوطنية، وتوكيداً على مصداقية اتهامات ليبرمان، بعيداً عن تصريحات عريقات البلهاء حول ما وقع في جنيف، ثمة عدد من أعضاء لجنة فتح المركزية الجدد الذين وصلوا إلى موقعهم القيادي تحت شعار إعادة بناء الحركة ودورها النضالي، وعلى هؤلاء أن يسألوا أنفسهم الآن ما إن كان من المسوَّغ استمرار فتح في تقديم الغطاء لحكومة سلطة الحكم الذاتي وسياستها، وما إن كان من حق اللجنة المركزية أن تحاسب رئيسها. بيد أن التراجع الفلسطيني المخجل في جنيف لا يتعلق بالحسابات السياسية الآنية وحسب، بل أيضاً، وهذا هو الأهم، بالأسس التي أقيمت عليها السلطة، بجوهر الوظيفة التي أوكلها بها اتفاق أوسلو، الحاضنة القانونية الشرعية الوحيدة حتى الآن لسلطة الحكم الذاتي. أوسلو، كما هو معروف، لم يكن اتفاقاً لتوفير الاستقلال الوطني الفلسطيني، لم يكن اتفاقاً لإقامة الدولة الفلسطينية، ولا اتفاقاً لضمان السيادة الفلسطينية، منح أوسلو لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، أو لجزء من هذه القيادة، الحق في إقامة إدارة ذاتية على أجزاء متفرقة من الضفة وقطاع غزة، بمعنى أنه حرر الإسرائيليين من عبء السكان الفلسطينيين ووضع هذا العبء على عاتق الفلسطينيين أنفسهم، ولكن حتى هذه الإدارة لم تُعطَ للفلسطينيين مرة واحدة وعلى كل المناطق التي قرر الإسرائيليون أن تدار ذاتياً، بل خضعت لسياق تفاوضي قاسٍ ومتدرج ومشروط، بدأ كما هو معروف بغزة-أريحا. كما صنفت مناطق الحكم الذاتي إلى عدة أصناف من حيث التواجد الأمني الفلسطيني، والمدى المفترض لصلاحيات الإدارة الفلسطينية، ولأن سيادةً بالمعنى السياسي للحكم والدولة لم تتوفر لهذه الإدارة، فسرعان ما استباحت القوات الإسرائيلية كل مناطق الحكم الذاتي بعد انطلاق الانتفاضة الذاتية، بغض النظر عن التصنيف الذي قُرر لها. طبقاً لأوسلو، تسيطر الدولة العبرية على حدود وفضاء وأرض ومقومات اقتصاد مناطق الحكم الذاتي، ولكن سلطة الحكم الذاتي هي المسؤولة في مناطقها عن إدارة شؤون السكان، وضمان أمن الدولة العبرية، بما في ذلك منع كل توجهات المقاومة الوطنية التي تراها الدولة العبرية مصدر تهديد لأمنها. وتحمل السلطة إضافة إلى ذلك مسؤولية استجداء المجتمع الدولي لجلب المساعدات الضرورية لحياة السكان الواقعين ضمن دائرة إدارتها، على أن تتحكم الدولة العبرية في مستوى تدفق هذه المساعدات، كما في معظم موارد السلطة المالية أيضاً، ولأن لا سيادة للسلطة على أرض وشعب محددين (وهو المقصود بالدولة القومية الحديثة)، فقد صمت أوسلو كليةً عن النشاطات الاستيطانية الإسرائيلية في الضفة الغربية، ولم يتم التطرق للاستيطان إلا بعد أن اكتشف المفاوض الأميركي لخارطة الطريق فداحة التوسع الاستيطاني وتهديده لفكرة الدولة الفلسطينية، التي افترضت الإدارة الأميركية أنها ستكون نتاج الحل النهائي للمسألة الفلسطينية. وقع اتفاق أوسلو في خريف 1993، وبعد 16 عاماً على توقيعه، يبدو واضحاً أن الدولة العبرية حصلت على ما ضمنه لها الاتفاق وزيادة، بينما لم يحصل الجانب الفلسطيني إلا على ما حمّله الاتفاق إياهم من أعباء، منذ توقيع أوسلو، استمر الاستيطان بلا هوادة، وحافظت الدولة العبرية على مستوى تحكمٍ مذلّ بمقدرات الحكم الذاتي، في الجانب الآخر، خاضت سلطة الحكم الذاتي معركةً تلو الأخرى ضد شعبها، بهدف توفير الحماية والأمن والسلام لدولة الاحتلال، ما أسس له اتفاق أوسلو كان إقامة إدارة فلسطينية ملحقة بنظام الاحتلال، إعادة بناءٍ لنظام الاحتلال هذا بحيث تلعب إدارةٌ فلسطينيةٌ وطنية دوراً رئيساً في إدامته وتأمين أهدافه الكلية والنهائية، قيادات السلطة الفلسطينية هي بالطبع قيادات وطنية، ولكن هذه ليست المرة الأولى في تاريخ حركات التحرر الوطني التي تنقلب فيها قيادات وطنية على شعبها ونضاله. وربما من الإنصاف القول إن عرفات، المسؤول الرئيس عن توقيع اتفاق أوسلو، حاول في الانتفاضة الثانية التصدي للخلل الفادح في علاقات القوة التي أسس لها أوسلو بين السلطة ودولة الاحتلال. عباس، المسؤول الرئيس عن التفاوض الذي أوصل إلى الاتفاق، خضع كلية لهذا الخلل وللدور الذي أوكله الاتفاق لسلطة الحكم الذاتي. وتراجع جنيف ليس إلا تعبيراً عن هذا الخضوع.