توقيف شخص متورط في تخريب ممتلكات عمومية بمنطقة اكزناية بعد نشر فيديو يوثّق الحادث    البيضاء.. توقيف مواطن ينحدر من إحدى دول إفريقيا جنوب الصحراء بعد اعتراضه الترامواي عاريا    حركة غير مسبوقة في قنصليات المغرب    الحكومة تحدد المبلغ الأقصى للسلفات الصغيرة وأسقف الأموال المتلقاة من قبل مؤسسات التمويلات الصغيرة    وفاة نجم ليفربول ومنتخب البرتغال في حادث مأساوي    لقجع: نحترم اختيار أمين يامال اللعب لإسبانيا ونتمنى له النجاح كقدوة للشباب المغربي    المواد الطاقية تقود انخفاض أسعار واردات المملكة خلال الفصل الأول من 2025    من الرباط .. خارطة طريق جديدة لمستقبل النظام المالي الإسلامي    مجلس الحكومة يصادق على تعيينات جديدة في مناصب عليا    المصادقة على مشروع إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة    وكالة بيت مال القدس تخصص 2.2 مليون دولار لدعم الفلسطينيين    ارتفاع بنسبة 75% في الأعمال المعادية للمسلمين في فرنسا منذ مطلع العام    التوفيق: معاملاتنا المالية مقبولة شرعا.. والتمويل التشاركي إضافة نوعية للنظام المصرفي    الهلال السعودي يتلقى نبأ سعيدا قبل مواجهة فلومينينسي    ضبط شحنة ضخمة من الحشيش المهرّب من شمال المغرب إلى إسبانيا    غواتيمالا تعتبر مبادرة الحكم الذاتي "الأساس الجاد" لتسوية النزاع حول الصحراء المغربية    الشرطة توقف مشاركين في موكب زفاف بسبب "السياقة الاستعراضية"    تنسيقية مهنيي سيارات الأجرة تستنكر "فوضى التسعيرة"    هلال: المغرب من أوائل الفاعلين في حكامة الذكاء الاصطناعي دوليا    إيران تؤكد التزامها معاهدة حظر الانتشار النووي        وزير الداخلية يترأس حفل تخرج الفوج الستين للسلك العادي لرجال السلطة    دعم 379 مشروعا في قطاع النشر والكتاب بأزيد من 10,9 مليون درهم برسم سنة 2025    الهاكا تسائل القناة الثانية بسبب بثها حفل "طوطو" وترديد كلمات نابية    قناديل البحر تغزو شواطئ الحسيمة مع انطلاق موسم الاصطياف    مطالب للداخلية بتوضيح أسباب الزيادة المفاجئة لأسعار الترامواي وحافلات النقل الحضري بالرباط    مقررة أممية: إسرائيل مسؤولة عن إحدى أقسى جرائم الإبادة بالتاريخ الحديث    "مكتب المطارات" يعيد هيكلة أقطابه لقيادة استراتيجية "مطارات 2030"    كأس العالم للأندية: المهاجم البرازيلي بيدرو يعزز صفوف تشلسي أمام بالميراس    الارتفاع يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    تمديد أجل طلبات الدعم العمومي لقطاع الصحافة والنشر    بعد مراكش وباريس.. باسو يقدم "أتوووووت" لأول مرة في الدار البيضاء    صدمة بشفشاون بسبب تأجيل أقدم مهرجان شعري في المغرب لغياب الدعم اللازم    الرميد ينتقد حفل "طوطو" بموازين: "زمن الهزل يُقدَّم كنجاح ساحق"    بعد فضية 2022.. لبؤات الأطلس يبحثن عن المجد الإفريقي في "كان 2024"    التوفيق: المغرب انضم إلى "المالية الأساسية" على أساس أن المعاملات البنكية الأخرى مقبولة شرعاً    توقعات أحوال الطقس غدا الجمعة    الكاف تزيح الستار عن كأس جديدة لبطولة أمم إفريقيا للسيدات بالمغرب    المغرب من بين الدول الإفريقية الرائدة في جودة الحياة    بتعليمات ملكية سامية.. مؤسسة محمد الخامس للتضامن تطلق العمل ب13 مركزا جديدا في عدد من مدن المملكة    بونو وحكيمي يتألقان ويدخلان التشكيلة المثالية لثمن نهائي مونديال الأندية    الرجوع إلى باريس.. نكهة سياحية وثقافية لا تُنسى    رئيس الاتحاد القبائلي لكرة القدم يكتب: حين تتحوّل المقابلة الصحفية إلى تهمة بالإرهاب في الجزائر    "إبادة غزة".. إسرائيل تقتل 63 فلسطينيا بينهم 31 من منتظري المساعدات    مدينة شفشاون "المغربية" تُولد من جديد في الصين: نسخة مطابقة للمدينة الزرقاء في قلب هاربين    الجزائر تُطبع مع إسبانيا رغم ثبات موقف مدريد من مغربية الصحراء: تراجع تكتيكي أم اعتراف بالعزلة؟    الشرقاوي تعدد تحديات "المرأة العدل"    تصعيد جديد للتقنيين: إضرابات متواصلة ومطالب بإصلاحات عاجلة        تغليف الأغذية بالبلاستيك: دراسة تكشف تسرب جسيمات دقيقة تهدد صحة الإنسان    أخصائية عبر "رسالة 24": توصي بالتدرج والمراقبة في استهلاك فواكه الصيف    دراسة: تأثير منتجات الألبان وعدم تحمل اللاكتوز على حدوث الكوابيس    الراحل محمد بن عيسى يكرم في مصر    جرسيف تقوي التلقيح ضد "بوحمرون"    في لقاء عرف تكريم جريدة الاتحاد الاشتراكي والتنويه بمعالجتها لقضايا الصحة .. أطباء وفاعلون وصحافيون يرفعون تحدي دعم صحة الرضع والأطفال مغربيا وإفريقيا    التوفيق: الظروف التي مر فيها موسم حج 1446ه كانت جيدة بكل المقاييس    عاجل.. بودريقة يشبّه محاكمته بقصة يوسف والمحكمة تحجز الملف للمداولة والنطق بالحكم    طريقة صوفية تستنكر التهجم على "دلائل الخيرات" وتحذّر من "الإفتاء الرقمي"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المفكر العربي الكبير الدكتور/ عبد الوهاب المسيري في حوار شامل: عن الصهيونية والعلمانية والإسلام: الخطاب الصهيوني في أساسه خطاب إبادة واستئصال
نشر في التجديد يوم 30 - 10 - 2002

الدكتور عبد الوهاب المسيري مفكر مصري مرموق، أستاذ الأدب الإنجليزي بكلية بنات عين شمس سابقاً، صدر له كثير من المؤلفات والمترجمات المهمة خلال السنوات العشرين الماضية. وتعد حقبة التسعينات فترة خصب في حياته الفكرية إذ شهدت صدور عدد كبير من المؤلفات المهمة تدور كلها تقريباً حول فكر وتاريخ الجماعات اليهودية في العالم. وقد صدر له العمل الموسوعي الضخم +اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري وتصنيفي جديد؛. وصدر العمل المكوّن من ثمانية مجلدات بعد أن اعتكف حوالي عشرين عاماً لإنجازه ليكون أول علم متكامل في ثقافتنا العربية يتناول الجماعات اليهودية والحركات الصهيونية. وفي عالم المسيري كثير من العلامات الفارقة، إذ صدر له حديثاً عمل يبلغ الغاية في الأهمية هو كتاب +إشكالية التحيز؛ الذي صدر في الولايات المتحدة في مجلدين قام بتحريرهما عبد الوهاب المسيري، وقد أودع الكتاب بذور ما يمكن اعتباره ثورة حقيقية في مناهج البحث عامة ومناهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية بوجه خاص.
وهذه السطور نتيجة حوار شيق مع هذا المفكر العربي الإسلامي المرموق:
شهد الواقع الثقافي المصري خلال العقدين الماضيين مراجعات فكرية مهمة انتقل فيها مفكرون وكتّاب معروفون من معسكر فكري إلى آخر، فأين مكان تجربة الدكتور المسيري من هذا الظاهرة؟
لكي أجيبك عن هذا السؤال أعود بذاكرتي إلى مدينة دمنهور، فقد كنت من أكثر الطلاب في المدرسة الذين يُكثرون من طرح الأسئلة وكانت قضية العدالة تشغلني، وأذكر أن مدرس اللغة العربية طلب منا كتابة موضوع تعبير يصف كل منا فيه حديقة منزله، وناقشت المدرس وأخبرته أن منزلنا ليس به حديقة واشتد النقاش بيننا فاتهمني المدرس بالشيوعية. وكان لقضية المساواة دور كبير في دفعي لاعتناق الفكر الماركسي وقرأت الفكر الماركسي بعمق في هذه الفترة. وقبل أن أسافر إلى الولايات المتحدة كنت أجد التعارض بين ماركسيتي واقتناعي بضرورة الاعتراف بفلسطين، وكانت المسألة في ذهني بسيطة مباشرة: لماذا نعادي إسرائيل ونوقف التاريخ العربي من أجل 1,5 مليون فلسطيني؟ إنهم أقل من سكان حي من أحياء القاهرة.
وعبر عشرين عاماً جربت كل البدائل إلى أن أسلمت، وفترة ما قبل الإسلام كانت مفعمة بالقلق والاضطراب وقد كان علي بعد أن اعتنقت الإسلام كرؤية شاملة ونظام حياة أن أعيد النظر في أشياء كثيرة.
ارتبطت خلال العقدين الماضيين بالدراسات اليهودية وأصدرت عدداً من المؤلفات وتستعد لتتويج جهدك في هذا المجال بموسوعتك المعدة للنشر فما أهم ما خرجت به من رحلتك مع الدراسات اليهودية؟
اسمح لي أولاً أن أكرر ملاحظة طالما أبديتها في هذا السياق لأهميتها، أنا أتحفظ أشد التحفظ على استخدام مصطلح +الدراسات اليهودية؛ فهذا المصطلح يتأسس على درجة كبيرة من التعميم، ومن أخطر عيوب الخطاب العربي تبنيه (عن وعي أو غير وعي) معظم المسلّمات والمقولات التحليلية الغربية التي يتعامل الغرب من خلالها مع العقيدة اليهودية، وتلك المقولات ذات أصل إنجيلي في معظمها وإن كانت قد تمت علمنتها وأفرغت من الأبعاد الدينية وجردت من قداستها، فاليهود في الوجدان الغربي كيان مستقل يتحرك داخل تاريخه المستقل +التاريخ اليهودي؛ والوجدان الغربي يراهم متفردين بوصفهم شعب الله المختار وفي الوقت نفسه ينزع عنهم القداسة بوصفهم قتلة الرب. وهذه الرؤية تشكل جوهر الصهيونية التي ترى اليهود شعباً واحداً ومن هنا يأتي مصطلح +الدراسات اليهودية؛، ولكي نضع مفهوم الوحدة المزعوم على محك الاختبار ننظر إلى يهود أثيوبيا ويهود الولايات المتحدة الأميركية وأعني بهذه المقارنة ضرورة وجود إطار مركب لتفسير مثل هذه الظاهرة التي تتسم هي نفسها بالتركيب وإلا فما العلاقة بين اللغة الجعزية التي يتعبد بها الفلاشا ويعتبرونا لغة مقدسة (وبالمناسبة
هي لغة مقدسة في الكنيسة الأثيوبية!!) وبين مَن يعتبرون اليديشية أو الآرامية أو العبرية لغة مقدسة؟ وبعدد المجتمعات التي وجدت فيها جماعات يهودية توجد تواريخ يهودية، ومن هنا فإنني أقترح أن نطلق على مثل هذه الدراسات +دراسات في الجماعات اليهودية؛. ونحن باستخدام هذا المصطلح نؤكد التعددية وغياب التجانس والتركيب في مقابل الرؤية العلمانية المادية الأحادية الصهيونية التي استوردناها دون نقد أو إبداع واستوردنا معها القيم الصهيونية الكامنة فيها.
فما أهم انعكاسات هذا الفكر المستورد في رؤيتنا للظاهرة الصهيونية؟
هذا الخضوع لإمبريالية المقولات الغربية أدى إلى أن أصبح العقل العربي يميل هو الآخر إلى النظر لأعضاء الجماعات اليهودية خارج السياق التاريخي الإنساني، وعندما يتم إسقاط هذا البعد التاريخي الإنساني للظواهر اليهودية يبدأ الباحثون في التعامل مع اليهود ككل باعتبارهم ظاهرة واحدة في كل زمان ومكان، وهو ما يؤدي إلى ظهور اتجاهات مثل الاتجاه التآمري الذي ينسب لليهود قوى عجائبية ويزعم أن يدهم الخفية توجد في كل مكان وأنهم يستطيعون التأثير في القرار في كل مكان تقريباً، بل يذهب أنصار هذا الاتجاه إلى القول بوجود مؤامرة يهودية عالمية كبرى تهدف للهيمنة على العالم، والأثر بطبيعة الحال يتجاوز دوائر البحث والفكر إلى الواقع السياسي فكثير من الدول تغازل إسرائيل وتحاول أن تخطب ودها لأن حكام هذه الدول يتبنون النموذج التآمري في التفسير. والفكر التآمري قد يعبئ الناس في البداية ولكن ينتهي بهم إلى الهزيمة الداخلية والاستسلام.
هذه الرؤية البديلة التي تطرحونها تدفعني لطرح سؤال عن علاقة السياسي بالمعرفي كما خبرها الدكتور عبد الوهاب المسيري عبر عشرين عاماً من دراسة الجماعات اليهودية؟
هذا السؤال يعيدني مرة أخرى إلى تجربتي مع النموذج الأميركي، فعندما ذهبت إلى الولايات المتحدة كان توجهي علمانياً أممياً تماماً وبالتالي كان حل القضية الفلسطينية في نظري هو تحالف الطبقة العاملة العربية مع الطبقة العاملة الإسرائيلية فتنتهي المشكلة. لكن حين ذهبت إلى الولايات المتحدة الأميركية بدأت أكتشف أميركا كمجتمع استيطاني قائم على أسطورة صهيونية وبدأت السمات المشتركة بين أميركا والمجتمع الصهيوني تظهر فالإبادة والأرض الخالية من البشر مرتكزان أساسيان، وهذا جوهر الصهيونية لذلك وجدت أن المواجهة على المستوى المعرفي تبلغ الغاية في الأهمية، فالإنسان في المنظومة الصهيونية ينكر التاريخ وبالتالي ينكر الطبيعة المركبة التي تتسم بها النفس الإنسانية، وهو نموذج معرفي ينظر للواقع كصفحة بيضاء. وهذا النموذج المعرفي الذي أعتقد أنه بدأ في عصر النهضة أفرز النموذج الصهيوني والنموذج الأميركي.
دخل المشروع الصهيوني المئوية الثانية منذ قليل وطرحت تصورات عديدة لمستقبل الصهيونية، فكيف ترون مستقبل الصهيونية وما تم إنجازه خلال القرن الماضي من عمرها؟
رغم الأحاديث المستمرة عن الانتصارات الإسرائيلية الساحقة والتقدم الاقتصادي والقوة العسكرية فإن الانتصار عقيم على حد تعبير مؤرخ إسرائيلي والوجه الآخر الذي لا ندركه من الظاهرة الصهيونية يبلغ الغاية في الأهمية، وأولى المشاكل التي يدركها الإسرائيليون جيداً أن فلسطين ليست +أرضاً بلا شعب؛ كما زعمت الدعاية الصهيونية وهذا الإدراك يدمر شرعية الوجود الصهيوني وينسف أساسه فالفلسطينيون بانتفاضتهم المباركة أكدوا أن الكيان الصهيوني يستند إلى أكذوبة وأنهم يملكون أن يغضبوا ويثوروا ويستطيعون تبديد وهم الأمن. ووجودهم الكثيف في كل مجالات الحياة الاقتصادية للكيان الصهيوني وخاصة الأرض. وتلخص النكات التي يطلقها الإسرائيليون أنفسهم عمق الأزمة فالدولة التي عملوا لإنشائها أصبحت مجتمع ال 3 +7؛ أي الفولفو والفيديو والفيلا، ويعبر أحد الصهاينة عن واقع المواطن الإسرائيلي بقوله: +إنهم يعملون مثل شعوب أميركا اللاتينية (أي لا يعملون) ويعيشون مثل شعوب أميركا الشمالية (أي يستمتعون بالرفاهية) ويدفعون الضرائب مثل الإيطاليين (أي يتهربون منها)؛.
وبسبب عمق إحساسهم بحاجتهم المذلة للدعم الأميركي يتحدثون عن إسرائيل بوصفها كلب حراسة رأسه في واشنطن وذيله في تل أبيب بل لقد اقترحت جيئولا كوهين عضو الكنيست وضع صورة إبراهام لنكولن على العملة الإسرائيلية وتدريس التاريخ الأميركي للطلاب بدلاً من التاريخ اليهودي، ورغم الضجة التي أثيرت حول هجرة يهود الاتحاد السوفيتي إلى إسرائيل فإن عزوف أكبر الجماعات اليهودية في العالم عن الهجرة لإسرائيل تشكل فشلاً ذريعاً للمشروع الصهيوني ويعبر الإسرائيليون عن هذه المشكلة بقولهم: +إن أهم دولة يهودية في العالم هي دولة نيويورك اليهودية؛.
وعلى الجانب الآخر ينظر كثير من يهود الولايات المتحدة إلى إسرائيل بوصفها ديزني لاند يهودية أو متحف قومي يهودي يستمدون من زيارته بعض الحماس الوطني ثم يعودون إلى أوطانهم الحقيقية، وأحد المثقفين اليهود لخص هذه العلاقة بأن وصف إسرائيل بأنها +فندق صهيون؛ حيث يحضر يهود العالم إليها فقط عندما يكون الجو حسناً في الربيع والصيف بينما يغلق الفندق أبوابه في الخريف والشتاء لإجراء الصيانة والتجديد.
ومنذ وقت مبكر انقسم الصهاينة إلى استيطانيين هاجروا إلى فلسطين واحتلوها بالقوة وصهاينة توطينيين رفضوا الهجرة واكتفوا بالتبرع للمهاجرين وهؤلاء يطلق عليهم يهود دفتر الشيكات، وفي تعبير ساخر يوصف الصهيوني بأنه يهودي يجمع المال من يهودي ثاني لإرسال يهودي ثالث إلى أرض الميعاد. والشكل الوحيد من الهجرة اليهودية التي تخرج من أميركا قاصدة إسرائيل هي هجرة الموتى حيث يحرص اليهود على أن يدفنوا في إسرائيل وهو دليل قاطع على أن وجودهم الزمني مرتبط بالولايات المتحدة الأميركية وعندما يتصل الأمر بالموت فإنهم يهاجرون إلى إسرائيل. إن الصهيونية وضعت المستوطنين الصهاينة في ورطة تاريخية.
أين إذن تضع أزمة الهوية اليهودية داخل هذه الرؤية الشاملة لأزمة الصهيونية؟
لقد أفردت لهذه القضية كتاباً عنوانه: +مَن هو اليهودي؛ صدر حديثاً وقد لفت نظري كما أشرت في مقدمة الكتاب إلى أن وكالات الأنباء بثت أخباراً متعددة خلال فترة قصيرة كلها تدور حول تصدعات يشهدها المجتمع الصهيوني بسبب الصراع حول الهوية، بل أن السلطات الإسرائيلية توقعت حدوث اشتباكات في القدس بين اليهود المتدينين واليهود العلمانيين، كما أدى تهجير الفلاشا من أثيوبيا إلى تفجر هذه المشكلة بدرجة مخيفة حيث توالت حوادث انتحار جنود الجيش الإسرائيلي المهجرين من أثيوبيا (الفلاشا) وأصبحت هذه الأخبار نمطاً ألفه القرّاء.
وأزمة الهوية ليست قاصرة على اليهود المستوطنين فأعضاء الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة الأميركية ظهرت بينهم ما تسمى +الهوية اليهودية الجديدة؛ وتسمح هذه الهوية بوجود حاخامات من النساء وتسمح بالزواج المختلط بين اليهود وغير اليهود، بل يوجد الآن حاخامات من الشواذ جنسياً من الجنسين ومدارس دينية عليا تخرج هؤلاء الحاخامات الشواذ. ويأخذ الإيمان الديني في هذه الهوية الجديدة شكل الإيمان ببعض الأفكار الغامضة عن الإله وبعض المبادئ الأخلاقية تتسم بالعمومية الشديدة، أما الشعائر الدينية اليومية والأسبوعية والشهرية فقد اختفت ولم يعد يقيم شعائر السبت سوى 5 بالمئة من يهود أميركا وكثير من يهود أميركا لا يدخلون المعبد اليهودي إلا مرة أو مرتين كل عام. ومع كل إحصاء يتم إجراؤه بين اليهود تدق أجراس الإنذار محذرة من أن زواج اليهود من غير اليهود يهدد باختفاء الجماعة اليهودية خلال عقود قليلة.
كيف يمكننا التوفيق بين ما طرحته في إجابتك عن السؤالين السابقين وبين النفوذ الضخم الذي يتمتع به اللوبي الصهيوني في الغرب وبخاصة في الولايات المتحدة الأميركية؟
الديمقراطية الأميركية هي ديمقراطية جماعات الضغط، وتوجد فيها جماعات ضغط عديدة معظمها يمارس نشاطه في العلن وإن كان وجود جوانب خفية في عمل هذه الجماعات أمراً مفهوماً كأن ترشو أحد المسؤولين أو تهدده بنشر ما يسيء إليه. ويتمتع اللوبي الصهيوني بعضوية كبيرة وجهاز إداري متميز. وفي مجال الدعاية والتأثير على الرأي العام الأميركي فإن اللوبي الصهيوني نجح في جعل الرأي العام موالياً لإسرائيل، ولا يعمل اللوبي الصهيوني بشكل مستقل عن الحركة الصهيونية وإنما ينسق معها.
وأنا أطرح مفهوماً للوبي الصهيوني غير شائع فهو لا يتكون من عناصر يهودية وحسب بل يضم عناصر غير يهودية أيضاً، وهو يضم كل أصحاب المصالح الاقتصادية الذين يرون أن تفتيت العالم العربي والإسلامي يخدم مصالحهم، وأعضاء النخبة العسكرية والسياسية ممن يتبنون هذه الرؤية، ويضم أيضاً كثيراً من الليبراليين ممن كانوا يدعون إلى سياسة نشطة ضد الاتحاد السوفيتي والتيار المحافظ الذي يرى إسرائيل قاعدة للحضارة الغربية والمصالح الغربية وجماعات الأصوليين المؤمنين بالتفسير الحرفي للتوراة ممن يؤمنون بأن دولة إسرائيل من بشارات الخلاص.
نأتي بعد ذلك إلى الافتراض الكامن في كثير من الأدبيات العربية والتي تدور حول سيطرة اللوبي الصهيوني على مراكز صنع القرار في الولايات المتحدة الأميركية وينسب البعض إلى اللوبي الصهيوني قدرات رهيبة. وهذا يعني طبعاً أن اللوبي الصهيوني هو لوبي يهودي وأن اليهود يشكلون قوة سياسية موحدة خاضعة للسيطرة الصهيونية، أي أن 2 بالمئة من الشعب الأميركي يستطيعون التحكم في سياسة إمبراطورية عظمى في حجم الولايات المتحدة، وأن تأييد أميركا لإسرائيل هو نتيجة ضغط يقوم به اللوبي الصهيوني. وهذا غير صحيح، ويكفي لنسف هذا البناء التآمري أن أذكر أن الولايات المتحدة الأميركية اعترفت بإسرائيل فور إعلانها عام 1948 رغم أن اللوبي الصهيوني لم يكن قوياً حينئذ باعتراف من يروّجون أسطورته، وهو ما يعني أن مسارعة الولايات المتحدة للاعتراف بإسرائيل لا يمكن تفسيره إلا على أساس المصالح الأميركية ولا علاقة له بضغوط أو حملات إعلامية.
فماذا عن العلمانية في واقعنا العربي؟
أنا أفرق بين العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة ومعظم مَن يطلق عليهم العلمانيون العرب يؤمنون بالعلمانية الجزئية أي علمنة السياسة فقط وبعضهم يؤمن بالقيم الأخلاقية والدينية، بينما العلمانية الشاملة تطالب بعلمنة الحياة كلها وهو الشكل المنتشر في الغرب، وهناك رقعة مشتركة كبيرة بين العلمانيين والدينيين، ويصبح المشترك هو المرجعية النهائية وبهذا يمكن تأسيس عقد اجتماعي جديد. وعلى سبيل المثال يطرح محمد عابد الجابري استخدام مصطلحي الديمقراطية والعقلانية كبديل عن العلمانية ويرى أنهما لا يؤديان إلى استبعاد الإسلام، وهذا الطرح المركب للقضية يجعلنا نفهم ما يحدث في تركيا وإيران وقد يفتح لنا كوة من النور نتجاوز من خلاله الاستقطاب الحاد الذي يسمم الحياة الثقافية في بلادنا. وإذا نجحنا في ذلك أصبح في إمكاننا العمل لبناء الوطن وحمايته من دعاة العولمة والهيمنة الغربية في الداخل والخارج.
إذن أنت تعتبر الموقف من العولمة والهيمنة الغربية قاعدة لتحالف محتمل بين العلمانيين والدينيين؟
نحن أمام مرحلة جديدة من الاستعمار في الشكل والآليات وهذا يتطلب تغييراً في المواجهة. الإنسان الغربي بدا يفقد ثقته بنفسه والمجتمعات الغربية مفتتة لأن الإنسان الغربي أصبح محاصراً بالشذوذ والانحلال والإباحية ويواكب هذا تزايد نصيب تشكيلات حضارية أخرى من الاقتصاد العالمي فأمريكا مثلاً حجم إسهامها تناقص من 60 بالمئة إلى 25 بالمئة والجيوش أصابتها أمراض الشره الاستهلاكي بحالة من العجز عن الدخول في مواجهة حقيقية بدءاً من فيتنام وانتهاءً بالصومال، والمرحلة القادمة من الهجوم تستهدف كل القيم والمطلقات. وقد تنبأت قبل توقيع اتفاق غزة أريحا بأن النخبة العربية التي تمت علمنتها تماماً سوف لا يكون لديها ما يمنعها من التعامل مع الصهاينة.
لقد اكتشف الغرب أن المواجهة مع الجماهير الإسلامية مواجهة فاشلة واكتشف في الوقت نفسه إمكان التحالف مع النخبة إذا تمت علمنتها تماماً، فأصبح يلجأ إلى التفكيك. وأتوقع أن تخلع إسرائيل نفسها الزي اليهودي والجيل القادم من الصهاينة مثل الرمال المتحركة مستوعب في المنظومة العلمانية التي لا تعرف الخير ولا الشر.
إن الهيمنة الغربية التي أرشحها قاعدة للتحالف قادرة على جمع الصفوف فالصراع داخل الحضارة الغربية نفسها أسفر عن هزيمة كل ما هو نبيل فيها وانتصار كل ما هو قبيح، والعلمانيون العرب بإيمانهم بالعلمانية الجزئية سوف يجدون صعوبة شديدة في التفكير من داخل المنظومة الغربي في ثوبها الجديد.
في إطار رؤيتكم الشاملة للظاهرة الصهيونية كيف تفسرون التباينات التي تطرأ على الموقف الإسرائيلي بين بيريز ونتنياهو؟
الخطاب الصهيوني في الأصل خطاب إبادي لا يختلف عن الخطاب الاستيطاني الغربي الذي قام عليه المجتمع الأميركي والتجارب الأخرى في استراليا وغيرها، ولكن ترسخ فكرة القانون الدولي والمؤسسات الدولية جعل إنجاز مهمة الإبادة أمراً عسيراً بالنسبة للفلسطينيين، وبفضل التماسك الحضاري والزيادة السكانية التي أصبح الصهاينة يصفونها بأدبيات من نوع +القنبلة البيولوجية؛ نشأت مشكلة فلسطينية لا يمكن حلها. ولذا كان على الإسرائيليين أن يبحثوا عن حلول مؤقتة وبخاصة بعد الانتفاضة وهنا ظهر اتجاهان الأول يمثله بيرس ويسعى إلى إنشاء نظام فصل عنصري بمعنى الكلمة يستند إلى مجموعة من الطرق الالتفافية تضمن حصار مناطق الفلسطينيين وتصل بين مناطق المستوطنين الصهاينة، مقابل ترويج خدعة حل المشكلة، على أن تخرج إسرائيل من عزلتها لتقود المنطقة اقتصادياً في إطار المشروع الشرق أوسطي، وداخل المؤسسة الصهيونية نفسها نشأت اتجاهات تعارض هذا الحل. فأي كيان فلسطيني قد يتحول على المدى البعيد إلى دولة تحرر بقية أرض فلسطين، أما التغلغل في العالم العربي اقتصادياً فهو محفوف بالمخاطر لأن العالم العربي في حالة عدم استقرار ومن الأفضل أن تظل
إسرائيل بعيداً عن العالم العربي مع الاحتفاظ بعلاقات خاصة مع بعض الأنظمة العربية.
وقد جاء انتخاب نتنياهو ليحسم هذا التنافس، إذ يقوم تصوره على تحويل إسرائيل إلى جيتو نووي يقبض على الفلسطينيين بيد من حديد ويقوم بدور الحارس للمصالح الأميركية، وقد يكون المزاج السياسي الأميركي في هذه المرحلة أكثر ميلاً إلى تصور نتنياهو. والأرجح أن الولايات المتحدة هي التي ستحسم هذا التأرجح وليس إسرائيل.
سؤال أخير: بعد رحلتك الطويلة مع الفكر الغربي كيف تفسر العداء للإسلام في الغرب وبخاصة في الآونة الأخيرة؟
أحكي لك قصة طريفة أثناء كتابة الموسوعة لاحظت تكرار كلمة مسلم في الموسوعة اليهودية، في مقال عن التدرج الاجتماعي في معسكر أوشفتس النازي وبعد الرجوع إلى عدة مراجع تبين لي أنهم كانوا يسمون اليهود وهم يقودونهم لأفران الغاز +ميزلمان؛ أي مسلم، أي أن العقل الغربي وهو يدمر ضحاياه كان يرى فيهم الآخر والآخر منذ الحروب الصليبية هو المسلم. وفي الحقيقة يتميز العالم الإسلامي بشيء مهم جداً هو أن المنظومة الإيمانية مازالت حيّة، وهذا من أسرار عداء الغرب للعالم الإسلامي فالمنظومة الإيمانية تتحداه، فالانتفاضة تقوم باسم الإسلام والجهاد يقوم باسم الإسلام، واستمرار تمسك العالم الإسلامي بهذه المنظومة يذكّر أعداء الإسلام بالماضي النبيل والإنسانية التي يقتلونها في العالم. فالطالب المسلم يؤدي فروض ينه ويلتزم بالآداب الإسلامية، أما الطالب في الغرب فيدمن المخدرات وينزلق إلى الشذوذ وينتحر.
عن قدس بريس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.