بين من يسميها “ثورة الياسمين" ومن يسميها “ثورة الحرية والكرامة" ومن يسميها “ثورة 14 يناير 2011 تبقى التسمية الأكثر إنصافا للثورة التونسية، هي “فاتحة الربيع العربي". الثورة التونسية تدخل عامها الثالث، ورغم أهمية هذه الذكرى في تاريخ تونس الحديث، فإن الأجواء المصاحبة لها لا تعكس حماسا ولا ابتهاجا، بل عكست احتقانا وتوترا واضطرابات واحتجاجات شعبية، وسط حالة من الإحباط واليأس تجاوزت رجل الشارع لتشمل النخب السياسية والفكرية،والمراقبين من الخارج. الأخبار تطل على الواقع السياسي لتونس ما بعد الثورة من خلال هذا الحوار الحصري مع الشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية وعضو مجلس الإرشاد العالمي لجماعة الإخوان المسلمين. حاورته: نعيمة لحروري ............................... نعيمة لحروري: الشيخ راشد،أين تتجه تونس الآن بعد أن دخلت البلاد في منعطف يبدو خطيرا إثر اغتيال شكري بلعيد؟ الشيخ راشد الغنوشي: بسم الله الرحمان الرحيم، تحية لكم وللشعب المغربي الشقيق، لا شك أن اغتيال الفقيد شكري بلعيد يشكل منعطفا خطيرا، يهدف لاستدراج البلاد إلى دوامة العنف، بدليل أن أصواتا كثيرة تعالت بعد هذه الحادثة مباشرة تتهم طرفا سياسيا دون بينة، بما يعني التحفز و التشجيع على الانتقام. و لكن طبيعة هذه الجرمة السياسية لا تنسجم مع ثقافة التونسيين لذلك لم تجد تلك الأصوات آذانا صاغية في انتظار ما سيسفر عنه التحقيق، وهو ما يعني أن البلاد تجاوزت المخطط الجهنمي الذي دبر لها بحمد لله، وهي تتجه نحو توسيع الشراكة السياسية لحكومة الائتلاف بما يحقق أرضية كبرى للتوافق بين الأطراف السياسية، وبذلك تكون جريمة الاغتيال قد أدت إلى عكس غاية من يقف وراءها، بفضل ذكاء التونسيين و حرصهم على أمن و سلامة وطنهم و نجاح ثورتهم. نعيمة لحروري: هل يمكن القول أن الثورة التونسية تنزلق نحو الفوضى؟ الشيخ راشد الغنوشي: ذكرت سابقا أن ذلك كان هدف عملية الاغتيال، و لكن ذلك لم يتحقق بحمد لله بفضل فطنة التونسيين و حرصهم على بناء الوحدة الوطنية لمواجهة كل المؤامرات التي تستهدف ثورتهم. نعيمة لحروري: ألم تكن حكومة التكنوقراط أو حكومة الكفاءات، التي أرادها حمادي جبالي أصلح للبلاد في ظل الظروف الراهنة؟ لماذا عارضتم الأمر؟ الشيخ راشد الغنوشي: أولا أريد شكر الأخ حمادي الجبالي على ما أداه خلال فتره توليه لرئاسة الحكومة في السنة الماضية في ظل ظروف صعبة تمر بها البلاد والمنطقة. الأستاذ الجبالي هو أميننا العام في النهضة ويبقى أحد أهم قياداتنا. أما عن حكومة التكنوقراط, فهي اجتهاد سياسي لتجاوز حالة الاستقطاب التي تشهدها الساحة السياسية وللخروج من البلاد من أجواء التوتر التي عاشتها بعد اغتيال المناضل شكري بلعيد. و لذلك فقد تفهمت مؤسسات الحركة وعلى رأسها مجلس الشورى دواعي هذا الاقتراح لحكومة تكنوقراط، ولكن خيار مؤسسات الحركة قدر أن أي حكومة بعد الثورة في حاجة إلى دعم سياسي واسع لمساندتها و دعمها في جهود تحقيق أهداف الثورة، هذه الجهود التي تواجهها قوى الثورة المضادة بقوة، و لذلك فإن الحكومة لها أهداف سياسية و هي تحقيق أهداف الثورة في فتح ملفات الفساد و خفض نسبة البطالة و تحقيق التوازن بين الجهات، وكل هذه الملفات لا يمكن التعامل معها بحيادية التكنوقراط. كذلك يصعب في تونس في الوقت الحالي وجود تكنوقراط ليست لهم ميولات سياسية، وتجربة حكومة ما قبل انتخابات 23 اكتوبر كشفت أن أغلب الوزراء التكنوقراط انضموا الى أحزاب سياسية مباشرة بعد خروجهم من الحكم. إن تشكيل حكومة تكنوقراط يعد التفافا على نتائج الانتخابات التي منحت الثقة لأطراف سياسية حصلت على غالبية أصوات الناخبين فكيف نبعد الذين أفرزتهم الانتخابات لنكلف من لم يتم انتخابهم؟ أليس ذلك انقلابا على شرعية صندوق الانتخاب؟ ومع ذلك فإنه لا مانع من وجود كفاءات مستقلة إلى جانب الكفاءات السياسية تقوم على بعض الوزارات التقنية. نعيمة لحروري: هل هناك بوادر انشقاق داخل حركة النهضة؟ الشيخ راشد الغنوشي: حركة النهضة حافظت على وحدتها في أشد المحن التي واجهتها، و توزع أبناؤها على أكثر من 50 دولة في العالم، وتفكك تنظيمها في الداخل بفعل الحملة الاستئصالية التي تعرض لها، فاستقبلت السجون قيادات الحركة و أنصارها، وبمجرد قيام الثورة استعادت الحركة عافيتها، و أدهشت المتابعين في سرعة عودتها وتشكلها بما أهلها للفوز في الانتخابات، و بالتالي الحديث عن انشقاق داخل الحركة يعني عدم دراية أصحابه بعناصر قوة هذه الحركة التي تستند إلى الشورى و لا تضيق بالحوار وتحتكم إلى مؤسسات شرعية منتخبة، إن التنوع و الاختلاف عنصر ثراء و قوة في حركتنا. نعيمة لحروري: هل ممارسة السياسة جعلتكم تقومون بمراجعات معينة في فكركم السياسي الإسلامي ؟ الشيخ راشد الغنوشي: فكرنا السياسي قائم على الاعتراف بالتعددية و القبول بنتائج الانتخابات و الانتصار للديمقراطية وحقوق الإنسان، و ممارستنا للحكم لا تزال في بدايتها، ونحن بحمد الله نقدم نموذجا من الحكم الائتلافي بين التيار الاسلامي و العلماني، يرسخ قناعتنا بضرورة التعايش و التوافق بين جميع مكونات الساحة السياسية من أجل رفع التحديات التي توجه بلادنا في ظل احترام حقوق المواطنة للجميع. نعيمة لحروري: يعاب على الاسلاميين أنهم بارعون في التنظير ولكن حين يحكمون يقعون في نفس أخطاء الآخرين، أين الخلل في رأيكم؟ الشيخ راشد الغنوشي: البراعة في التنظير ليست عيبا لأن التنظير ضرورة فكرية لفتح آفاق جديدة أمام الفعل الانساني الذي يهتدي بالعقل، و تنزيل النظريات على الواقع يواجه تحديات كبرى و إكراهات يقع اكتشافها عند الممارسة الفعلية والاحتكاك اليومي بالوقائع، وهو ما يخلق تلك العلاقة الجدلية بين النظرية والواقع، فنظريات الإسلاميين ليست بدعا في هذا المجال، بل هي قانون يحكم علاقة العقل بالتجربة، وقد حضنا الوحي على الاعتبار من تجارب الآخرين، و في اعتقادي أن تجربة الإسلاميين بعد الربيع العربي، ورغم أنها لا تزال في بدايتها، فإنها تبشر بنجاحات كبيرة في مستوى التجسيد الفعلي لتنظيرات التيار الإسلامي حول الديمقراطية و احترام حقوق الإنسان و حرية التعبير و العدالة الاجتماعية. نعيمة لحروري: ما حقيقة أنكم تشكلون تهديدا لحرية المرأة ومكتسبات علمانية تونسية أخرى؟ الشيخ راشد الغنوشي: لا حقيقة لهذه المزاعم التي يروجها خصومنا السياسيين، فنسبة النساء اللواتي صوتن لحركة النهضة في الانتخابات كانت عالية و لدينا في المجلس التأسيسي 42 نائبة من مجموع 48 نائبة في المجلس ويشكلن ما يقارب 50% من كتلتنا النيابية، وقد التزمنا باحترام مجلة الأحوال الشخصية التي نعتقد أنها في مجملها اجتهاد في إطار الفقه الاسلامي، و نحن متمسكون بمكاسب الحداثة التي يتمتع بها شعبنا و نعمل على دعمها وتأصيلها في ثقافتنا العربية و الاسلامية المنفتحة على المكتسبات الانسانية. نعيمة لحروري: هل الثورة المضادة قد تصل لحد إجهاض أحلام الثورة الأولى في الربيع العربي؟ الشيخ راشد الغنوشي: لا يمكن للثورة المضادة أن تنجح في إجهاض الثورة ما دام هناك شعب عازم على تحقيق أهداف ثورته. لم ينجح المخلوع في الصمود في مواجهة الثورة الشعبية و لا نعتقد أن أزلامه وبقاياه بوسعهم الالتفاف على الثورة ما دام هناك حراس للثورة يقظين و يسهرون على حمايتها. نعيمة لحروري: هل هناك مؤامرة على الثورة التونسية من الخارج؟ الشيخ راشد الغنوشي: علاقات بلادنا الخارجية جيدة جدا، وتونس تلقت السنة الماضية من أشكال الدعم بطريقة غير مسبوقة، بما لا يترك لنا، التونسيين، أي ذريعة للفشل و رمي فشلنا على الخارج، فإذا فشلنا، لا قدر الله، علينا أن نعود باللائمة على أنفسنا لأننا لم ننجح في إدارة الخلاف بيننا، نحن نبعث إلى العالم برسالة سلام و دعوة إلى التعاون الجاد على أساس المساواة و الاحترام المتبادل وخدمة السلم في العالم ودعم التعاون الدولي لما فيه خير الجميع، كما ندعو إلى حوار الحضارات والثقافات والانفتاح على كل ما هو نافع، فالله خلقنا لا لنتخالف و نتحارب بل لنتعارف ونتبادل المعرفة “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى وجعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم". نعيمة لحروري: يرى البعض أن البنعليين تُشم رائحة ضلوعهم في بعض الأحداث، هل تعتقدون أن بعضهم وراء اغتيال بلعيد؟ أم أن دورهم لا يعدو محاولات للعودة واستعادة بعض النفوذ ليس إلا ؟ الشيخ راشد الغنوشي: لكل ثورة ثورة مضادة و هذه الأخيرة تدفع باتجاه الفوضى على أمل العودة إلى الحكم دفاعا عن مصالحها و امتيازاتها وإفشال كل تجارب الحكم التي تستهدفها بالمحاسبة، ولذلك فإن الكثير من أحداث العنف وراءها أزلام النظام السابق و بقاياه، وبخصوص اغتيال الفقيد شكري بلعيد أفضل انتظار نتائج التحقيق، لأنني لا أرغب في اتهام أي طرف بمثل هذه الجريمة الشنيعة و الغريبة عن طبيعة شعبنا. نعيمة لحروري: تتهمون بأنكم تغضون الطرف عن تطرف السلفية ما حقيقة ذلك؟ الشيخ راشد الغنوشي: السلفيون رفع أحدهم كفنه على المباشر في وجه وزير الداخلية، و هذه الحادثة كشفت زيف مزاعم غض الطرف عن تجاوزات السلفية الجهادية، و قد قتل اثنان ممن حمل منهم السلاح في وجه الدولة، فإذا كانت هذه حصيلة غض الطرف فهل المطلوب المواجهة الشاملة مع تيار السلفية و جر البلاد إلى مستنقع العنف و الاعتقال على أساس الهوية و الانتماء؟ نحن نعتقد أن السلفية تياران، تيار السلفية العلمية وهؤلاء يقدمون قراءة للنص و للتجربة الإسلامية مختلفة، وعلينا الاعتراف بالآخر و الحوار معه، و التيار الثاني هو تيار السلفية الجهادية، وهؤلاء لا تساهل مع من يتجاوز منهم القانون و يرفع السلاح و يعتدي بالعنف على المواطنين فالقانون فوق الجميع. نعيمة لحروري: يصل البعض إلى اتهام النهضة أيضاً بأن لديها ميليشيات، فهل تتخوفون من تكرار سناريو الجزائر في التسعينيات، أي جنوح بعض الإسلاميين في الجزائر الي العنف؟ الشيخ راشد الغنوشي: الميليشيات تحتاجها الأنظمة الاستبدادية الفاقدة للشرعية، بينما الأنظمة التي تتمتع بالشرعية، والأحزاب التي تحوز على الغالبية في الانتخابات ما حاجتها للميليشيات، فهي في حماية الشرعية، والشعب بالإضافة إلى أننا لا نؤمن بالعنف من حيث المبدأ و مواقفنا واضحة ومعلومة في هذا الشأن. نعيمة لحروري: تتهم بعض الأطراف النهضة بأنها تثير اضطرابات في المنطقة وتهدد حتى المغرب العربي فهل هذا مجرد تحامل أم له ما يبرره؟ الشيخ راشد الغنوشي: لا علم لي بهذه الاتهامات، وإن وجدت فهي هذيان لأن ثورتنا في تونس ليست للتصدير كما نتبنى في سياساتنا مبدأ عدم التدخل في شؤون الدول الجارة والشقيقة والصديقة. أما على مستوى المغرب العربي فنحن ندفع لتفعيل هذا الاتحاد حتى تتعاون بلدان المنطقة في مواجهة التحديات الإقتصادية والأمنية وغيرها. نعيمة لحروري: هل يمكن الحديث عن وجود أوجه تشابه بين حزب النهضة وحزب العدالة والتنمية المغربي؟ وهل هناك اتصال أو تنسيق بينكما أو تبادل أراء وأفكار أو مقاربات إصلاحية؟ الشيخ راشد الغنوشي: الحزبان ينتميان إلى التيار الإسلامي الوسطي و هو تيار عريض في الأمة، ويشتركان في المقاربات الإصلاحية و الانفتاح على مكتسبات الحداثة، هناك تبادل للآراء و الأفكار بما يرشد التجربة الإسلامية في الحكم. نعيمة لحروري: ما رأيكم في التجربة المغربية ؟ الشيخ راشد الغنوشي: تجربة راشدة وفر لها النظام الملكي فرص الإصلاح بما يواكب اتجاه التطور في العالم العربي، وجنب المغرب الشقيق هزات اجتماعية هو في غنى عنها. نعيمة لحروري: ما هو تقييمكم للعلاقة مع باريس لا سيما عقب تصريح وزير داخليتها مانويل فالز الذي قال إن تونس لم تعد نموذجاً يحتذى في الربيع العربية وتكلم عن فاشية إسلامية في المنطقة ؟ الشيخ راشد الغنوشي: علاقتنا بالشركاء الأوروبيين جيدة، فأكثر معاملاتنا مع الاوروبيين، و تونس حظيت بموقع الشريك المتميز خلافا لكل التوقعات الكارثية التي كانت تقول أن حكم الإسلاميين سيمثل إعلان حرب، بينما العلاقات ارتقت في المستوى الاقتصادي و أصبحت أكثر استقلالية في المستوى السياسي، بالنسبة لتصريح وزير الداخلية الفرنسي فقد صححه وزير الخارجية، فلا وجود لأزمة لا مع فرنسا ولا مع أي بلد أوروبي، وقد استقبلت عددا من السفراء و كلهم عبروا عن دعمهم لعملية الانتقال الديمقراطي و اعتبروا نجاحها نجاحهم. نريد أن تتطور العلاقات بيننا وبين فرنسا وأن تكون مبنية على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. نعيمة لحروري: هل أخطبوط الفساد في الحكومات التي سقطت بفعل الثورات عظيم ومتستعص على الإصلاح البسيط ويتطلب اجتثاثاً ؟ الشيخ راشد الغنوشي: أخطبوط الفساد كبير، و ليس هناك ما هو مستعص عن الإصلاح متى وجدت الإرادة والعزيمة الصادقة المدعومة بالإرادة الشعبية.