...وضعت قدمها اليمنى خارج سيارة الأجرة التي أوصلتها الى باب مستشفى الولادة بصعوبة بالغة، كان الألم يحتل كل ذرة من جسمها، نزل زوجها ، ساعدها على النزول، حاول إسنادها قليلا، رغم أنها كانت لا تقوى على الكلام إلا أنها استغلت انفراجة خفيفة منحها إياها مخاض تلك الليلة لتؤكد له من جديد"لا تنس أن تتصل بأمي وتخبرها، يجب أن تعود لتأتي بها..." ترى هل في كل بلاد العالم لا تستقبل النساء في مثل حالتها بكرسي متحرك ، أم أنه كما يقولون "شقاء الحاملة فيه الأجر" و عليها أن تعتمد على نفسها حتى لو اقتضى الحال أن تحبو إلى الداخل؟..لا مجال لطرح الأسئلة..آآآمممم.. عاد الألم من جديد، أغمضت عينيها وسمعت صوت امرأة تقول لزوجها "صافي آسيدي بقا برا...دخلي آللا" (ابق في الخارج..تفضلي سيدتي) أمسكتها صاحبة الصوت من يدها وساعدتها على الجلوس على مقعد، أمام امرأة أخرى يبدو أنها طبيبة أو مولدة، لا يهم لم تجلس كثيرا حتى طلبت منها تلك الجالسة خلف مكتب كأنها معلمة في حصة الدرس أن تدخل للحجرة المقابلة وتزيل ملابسها الداخلية، لم تقو على النهوض، لكن هنا المكان أشبه بيوم الحساب كل النساء يتألمن ويقطعن المكان جيئة وذهابا ولا أحد يساعدهن أو يعبأ بهن، أصحاب الوزرات البيضاء تبلدت مشاعرهم ولم يعد الأنين يحرك فيهم شيئا، لذا يتوزعون على المكان بين من يكتب على ورقة ومن يوجه الأوامر ومن يفحص أجساد النساء كأنه يقلب أحجارا أو أشجارا وليس كائنات بشرية في أقسى درجات ضعفها وألمها... لا مجال لأن تطلب المساعدة من أحد، لكن.. تقدمت منها فتاة في مقتبل العمر يبدو أنها متدربة وأمسكتها من معصمها وساعدتها على الوصول إلى الحجرة وعلى إزالة ما كان يستر نصفها السفلي، بل تكرمت عليها وساعدتها على صعود السرير العالي الخاص بالفحص، إنه كرم لم تتوقعه لكثرة ما سمعت عن هذا المكان لذا لم تحرم تلك الفتاة من دعواتها، وظلت تردد "الله يسهل عليك..الله يعطيك ما تمنيتي ..."إلى أن غابت الفتاة، لتدخل معلمة الصف بعد ذلك .. بلامبالاة خاطبتها بعد أن وضعت قفازا طبيا في يدها :"يالله آللا حلي رجليك..واه باقي عاد بديتي.." (افتحي رجليك..لا زلت في بداية الطريق..) غرست أصابعها في أحشائها المتألمة، ثم أخرجتها مليئة بالدماء وتمتمت بكلمات فرنسية قبل أن تضيف "صافي أللا آجي هنا.." (تعالي إلى هنا..) خرجت وكأنها جرت مع أصابعها المدماة خيطا من الألم..لم تعد تقوى على الانحناء ..يا إلهي كيف ستلتقط سروالها من الأرض، أين تلك الملاك التي أدخلتها الى الحجرة؟ حاولت أن تلتقط سروالها بأصابع رجليها لكن لا مجال لذلك، وأخيرا استسلمت وخرجت بعد أن أسدلت ما بقي لها من ملابس على جسدها العاري تاركة سروالها خلفها. وقفت أمام "المعلمة" التي بدأت تسألها عن الدفتر الصحي، وعن آخر دورة شهرية وعن عدد أطفالها وتكتب في ملف أبيض أمامها، وبعد أن انتهت من أسئلتها طلبت منها أن تبحث عن مكان تنام فيه ، سارت تجر خطاها المتثاقلة قبل أن يفاجئها القيء مصحوبا بآلام رهيبة شعرت معها كأن كل أحشائها ستنفجر وستخرج من فمها، قذفت سوائل تميل الى الخضرة من فمها، لم تترك المرارة والألم لها فرصة لتميز الأصوات التي كانت تتقافز خلفها، لكنها فهمت من حركات امرأة ترتدي وزرة زرقاء أنهن كن يصرخن عليها لأنها تقيأت في الممر.. مشت في الممر المؤثث بالأسرة الكئيبة ولم تجد أي سرير فارغ في لحظات كانت تشعر بأنها سيغمى عليها من شدة الألم..اتكأت على سرير تتألم فوقه امرأة أخرى، رأت على السرير المقابل امرأتين ففهمت أنه لا داعي لتضيف خطوات أخرى في الممر فكل الأسرة مملوءة..شعرت صاحبة السرير بوجودها فتنحت جانبا وضمت رجليها لتسمح لها بالاتكاء الى جانبها.. رغم الآلام التي تطوف على كل النساء إلا أنهن كن يجدن الوقت كلما خف ألم إحداهن للثرثرة قليلا، إنهن لا ينسين أنهن نساء حتى في هذه اللحظات..لم تفهم سر نظراتهن المتعاطفة معها رغم أنهن كن يتقاسمن نفس الألم، إلا عندما استرجعت سمعها الذي فقدته للحظات وسمعت إحداهن تنتفض وهي تنظف الأرضية وتقول "...الله يعطيها المرض...بنادم كيف داير.."..... ولادة في ممر المخاض ...خلف ستار رقيق من الدموع ميزت أرجلا تجري في اتجاه الصراخ القادم من الممر المقابل ..عمت الفوضى للحظات والنساء اللواتي أمهلهن المخاض بعض الوقت حركهن فضولهن في اتجاه الحدث .. نسيت الاهانة التي تعرضت لها قبل قليل وهي تتمايل من شدة الألم تحاول أن تصغي سمعها لتعرف ماذا حدث ..يالله آالعيالات (يا نساء) كل وحدة تمشي لبلاصتها (لمكانها)...سيري أللا لبلاصتك..حيدي انتي من الطريق...آللا كنتي غاديا تقتلي ولدك الحمد لله ما طاحش فالأرض..واه ما تعرفيش تعيطي؟ ..زحمتي قبل الوقت عمرتي الفراش بالدم..وسختي الدنيا......يالله على سلامتك - توريااااا يالله خلاص فهمت من هذا الصياح أن امرأة وضعت طفلها في المكان المخصص للمخاض ودون تدخل أو مساعدة. بينما كانت تحاول أن تحلل ما يصل إلى سمعها وسط ضوضاء الأنين والألم تقدمت منها جارتها صاحبة السرير المقابل وهي تجر الخطى وتضغط على أسفل بطنها المنتفخ وقالت لها :"مسكينة.. من البارح وهي هنا جيت أنا واياها فنفس الوقت وساعة هادي وهي كتغوت ما داها فيها حد حتى زلق ليها ولدها بين رجليها ودابا كيقولو ليها علاش ما عيطتيش ملي حسيتي راك قربتي..(المسكينة وصلت هنا منذ الأمس..ومنذ ساعة وهي تطلب المساعدة ولم يبال بها أحد، إلى أن انزلق طفلها بين رجليها ليبدؤوا في لومها..) تدخلت امرأة أخرى لتضيف:"على سلامتها وسعداتها ما نكونو حنا كاملين المهم تفكات على خير.. مرت ممرضة تجري كالسهم وهي تحمل الوليد ملفوفا في ثوب أبيض في اتجاه الباب، بينما دخلت فتاتين تلبسان وزرة زرقاء تحملان أدوات التنظيف لتتواصل عملية تخليص المرأة في مكانها قبل نقلها الى غرفة أخرى.. في هذه الأثناء علا صراخ يصم الآذان من امرأة ثانية في آخر الممر، لتدخل على إثره طبيبة شابة تضع السماعة على رقبتها وتجري في اتجاه الصراخ وتنادي احدى الممرضات :"اجري قبل ما تولد لينا حتى هادي هنا..راه هذا هو وقتها..جيبي لاشيز رولان (الكرسي المتحرك) شعرت باشتداد الألم وتقارب نوبات المخاض لكنها بدأت تدعو الله أن لا تكون هذه هي اللحظة المنتظرة فالمتواجدون هنا مشغولون ولن يأتيها أحد قبل أن يصل طفلها الى الأرض بدأت تعض على شفتيها وتئن ثم رمقت المولدة التي استقبلتها أول مرة تأخذ مكانها في مدخل القاعة الكبيرة حمدت الله وتحاملت على ألمها وحملت الملف الأبيض الذي وضعوه بقربها وجرت رجليها في اتجاه المولدة لتعلمها أنها على وشك الولادة... وأخيرا وصلت وهي تكاد تتمزق من الألم ..رمقتها المولدة بنظرات حادة وقالت لها :"سيري آللا ردي الملف لبلاصتو ورجعي فين كنتي باراك من التمثيل ..انتي عاد جيتي وباقي عليك الحال...(عودي الى مكانك وأعيدي الملف حيث وجدته..وكفي عن التمثيل..لقد وصلت قبل قليل ولم يحن وقتك بعد..) أحست بكرامتها تجرح للمرة الثانية وسط عواصف الألم والشعور بالضعف الرهيب، لم تجد بدا من أن تجر جسدها المتأوه وتعود أدراجها مكسورة النفس في انتظار أن ترأف الطبيبة الشابة بها وتعاينها أو تحقنها بما يهدئ ألمها أو يسرع ولادتها ويخلصها مما هي فيه... …شعرت برغبة في البكاء ..في القيء.. في الصراخ.. في الجري بعيدا.. لكنها لم تجرؤ سوى على جر رجليها المنتفختين وحمل ملفها الأبيض بيد بينما كانت الأخرى تضغط على أسفل ظهرها علها تسكت بعض الألم.. بعد أن أغرقها الشعور بالعجز والمهانة.. صوت رقيق يتقدم منها لينتشل أجزاء من روحها التي لا تزال تطفو على السطح..امرأة متوسطة العمر تلبس بذلة بيضاء وتضع على شعرها كيسا أحضر، ربتت على كتفها وأخذت الملف من يدها لتضعه على سريرها وتعود إليها وهي تبتسم وتمسك يدها وتقول لها مبتسمة "اصبري الله معاك وتمشاي ما ترجعيش للفراش امش على قد ما تقدري وادعي الله..دابا يولي هاد الشي كل تعاويد ( امشي على قدر ما تستطيعين ولا تعودي للفراش ..سيصبح كل شيء من الماضي" منذ أن كانت طفلة صغيرة في المدرسة الابتدائية علمها معلمها الحاج أن "الكلمة الطيبة صدقة" وأن "الابتسامة صدقةّ" لكنها لم تعرف معنى ذلك إلا في هذا المكان، حيث كانت تكفي ابتسامة هذه المرأة العابرة وكلماتها المشجعة لتنقدها للحظات وتخفف عنها الألم وتنسيها كل الإهانات التي تعرضت لها منذ أن دخلت، ترى لماذا لا تبتسم كل العاملات في هذا المكان؟ لماذا يبخلن علينا حتى بكلمات طيبة؟ وهي في غمرة فرحها بكلمات عابرة كما يفرح طفل بلعبة جديدة، رأت ممرضة تخرج امرأة على كرسي متحرك في اتجاه قاعة الولادة، تنهدت وتمنت لو يأتي دورها هي أيضا الآن حتى تتخلص مما هي فيه.. مشت قليلا في الممر وتوقفت كثيرا كلما هاجمها ألم المخاض، إلى أن دخلت إحدى المولدات ترافقها ممرضة وبدأت توجه الأوامر للنساء بأن يلزمن أماكنهن ليتم فحصهن وتحديد لحظة ولادتهن.. كانت تستمع لمجريات الفحص التي بدأت في الممر المقابل، وتسمع الأنين والآهات والألم تقطعها أوامر غريبة تصدر عن المولدة التي جاءت للفحص والمراقبة :"حلي أللا رجليك…هزي قاعك…" (افتحي رجليك..هزي مؤخرتك) شعرت بالحرج وهي تستمع إلى هذا القاموس الذي كان يمكن أن ينتمي إلى أي مكان إلا إلى هذا المكان الذي تستقبل فيه كائنات بشرية تتنفس هواء هذا العالم لأول مرة، تساءلت وهي تتقزز من الأوامر الصادرة بصوت مرتفع كأنها تصدر عن جلاد، ترى هل يعاملون كل النساء اللواتي يشرفون على توليدهن بنفس القاموس وبنفس اللهجة؟ ترى هل هذه المولدة عندما ستذهب إلى الشارع المقابل في الصباح لتعمل ساعات إضافية في المصحة الخاصة حيث تلد نوعية أخرى من نساء هذا الشعب، هل ستقول لإحداهن "هزي قاعك" بهذه اللهجة القاسية الآمرة؟ كانت تعرف الجواب على سؤالها لأنها تتذكر جيدا كيف كان يستقبلها طبيبها في العيادة الخاصة، وكيف كان يشجعها ويجاملها، وكيف كانت الممرضة التي تعمل عنده تساعدها على خلع ملابسها وتساعدها على الصعود على سرير الفحص.. غريب أمر هؤلاء الأطباء، يعاملون نفس الشخص بطريقتين مختلفتين، فهو عندما يدفع سواء في المصحة أو في العيادة يصبح ملكا ويطبق عليه قانون "كل زبون ملك" لكن عندما يدخلون إلى المستشفيات العمومية، حتى لو كانوا أمام زبون دفع الفاتورة عند المدخل، فما دامت نقوده لا تصب مباشرة في جيوبهم يغيرون القناع ويغيرون القاموس الذي يختارون منه كلماتهم.. وهي سارحة في تفكيرها كادت تصدق أنها في أحضان إحدى مصحات حي أكدال قبل أن يفاجئها صوت الممرضة :"يالله آللا حيدي سروالك وطلعي للفراش.." (هيا أزيلي سروالك واصعدي الى الفراش..)نظرت إلى الفراش العالي وهي تفكر كيف ستصعد إليه دون مساعدة، لكن الصوت الذي واصل "سربي راسك راه ما كايناش غير انت" (أسرعي لست وحدك هنا) جعلها تسرع وتمسك بيديها وسط الفراش وتبذل كل جهدها لتصعد، لتتقدم منها الممرضة وتساعدها على ذلك وترفع ملابسها إلى الأعلى..زاد ألمها لكن خوفها من أن تسمع أية كلمة أخرى تجرحها جعلها تحاول التماسك وتضغط على أسنانها وهي تشعر أن المولدة تعبث فيها كأنها تعبث في محرك سيارة دون أن تنبس ببنت شفة، لتلتفت إلى الممرضة بعد ذلك وتبدأ في تدوين ملاحظاتها وتقول لها "هادي حتى للصباح.." وتغادر نزلت تلك الكلمة على مسامعها كالصاعقة"يا إلهي سأقضي كل الليل في هذا المكان رفقة هذه الآلام ولن يفعلوا من أجلي أي شيء.. سترت جسمها وتدحرجت من سريرها وحاولت أن تسأل الممرضة التي بدأت بالمساعدة في فحص امرأة أخرى"راني كنتقطع بالوجع..ما يمكنش ناخذ شي حقنة ولا شي حاجة باش نولد الليلة.." أجابتها صاحبة البذلة البيضاء ّآللا غير صبري شوية..خلي الأمور تمشي بشكل طبيعي" ..مادامت الأمور تمشي هنا بشكل طبيعي لماذا تحاربون الولادة في البيوت؟ أليست طبيعية أكثر؟ أليست الولادة على قمة جبل قرب كومة حطب ولادة طبيعية وربما أقل مهانة من الولادة هنا؟ إذا كان هذا حال أكبر مستشفى في العاصمة يا حسرة الله أعلم كيف تلد النساء في المدن الصغيرة.. لم تجرؤ على البوح بشيء مما يروج في ذهنها، لكنها واصلت ذرع الممشى جيئة وذهابا إلى أن يأتي الفرج من عند الله... ورقة خضراء من أجل أيادي بيضاء ..آميمتي...آآآه..التفتت إلى هذا النداء الممتزج بالدموع الحارة، لتجد فتاة صغيرة جدا لولا بطنها المنتفخ لما صدقت أنها امرأة مكتملة الأنوثة وستصير أما بعد لحظات، كانت الأم الصغيرة تبكي وتتلوى على الفراش وحيدة، منظرها جعلها تنسى للحظات ما هي فيه، وتستغل تلك الاستراحة التي منحها إياها مخاضها لتقترب منها، وتحاول أن تمسد لها ظهرها علها تخفف عنها الألم.. اقتربت منها، همست في أذنها:"لماذا تبكين؟ سيكون كل شيء بخير، اصبري تمسكي بإيمانك، إذا بكيت ستصعبين الأمر عليك.." بينما كانت تمسد ظهر الأم الصغيرة التي هدأت قليلا دون أن تتوقف عن البكاء، قفزت كأنما لسعتها موجة كهربائية بعد أن باغتها المخاض من جديد..تمنت لو كان بإمكانها أن تترك يدها تمشي وتجيء على ذلك الظهر الصغير لكنها لم تستطع، سحبتها دون تفكير وعادت تهرول كالمجنون في الممر وتضغط على أسنانها.. كان الألم في هذه اللحظات أكبر، شعرت بماء دافئ ينساب بين فخديها..اختفت تلك الاستراحات التي كان يمنحها إياها مخاضها، لم تعد تقو على التماسك، بدأت تخرج أصوات عالية من حلقها رغما عنها، لم يقترب منها أحد، حدة الألم تتصاعد، ويتصاعد معها صراخها العالي جدا، تمسك وسط ظهرها، تتمنى أن تدخل في غيبوبة لا متناهية حتى لا تشعر بهذه العاصفة من الألم..نصفها السفلي يكاد ينفجر، تطلب النجدة,,, وأخيرا يدخل طبيب رفقة الطبيبة التي نهرتها قبل قليل، يعرفان من حدة صراخها أنها على وشك الولادة، تأتي على إثرهم ممرضة تدفع كرسيا متحركا وتطلب منها في أوج العاصفة أن تجلس على الكرسي لتنقلها إلى غرفة الولادة.. يا إلهي، إنها لا تستطيع الجلوس أو الانحناء، لا تستطيع أن تقوم بأية حركة، إلا أن الطبيب والممرضة يجلسانها برفق، كأنهما يرغمانها على الجلوس على النار..ألا توجد أي وسيلة أخرى لنقل النساء غير الكراسي المتحركة؟ كيف يمكن الجلوس مع كل هذه الآلام؟ ..لكنها أخيرا جلست.. ارفعي قدميك" قالت لها الممرضة التي تدفع الكرسي المتحرك.. أطلت برأسها من قلب عاصفة الألم لتلقي نظرة على أسفل قدميها، فاكتشفت أنه لا يتحتم عليها فقط احتمال الجلوس ولكن عليها أن تبقي قدميها مرفوعتين حتى لا تتجرجران في الأرض، لأن ما كان من المفترض أن يسندهما في هذا الكرسي المتهالك مفقود.. حاولت أن تحافظ على توازنها وأن تبقي قدميها مرفوعتين في الهواء، إلا أن رأسها المنهوك تهاوى على كتفيها وهي تئن، ولم تعلم إلى أي مدى انفصل رأسها عن جسدها إلا عندما شعرت بأحد الأبواب يرتطم به، ليرتفع صوت الممرضة"آللا جمعي راسك ها انت وصلت.." وأخيرا وصلت خائرة القوى، ساعدتها الممرضة لصعود فراش مغلف بالبلاستيك، قبل أن تعود من حيث أتت..تبعها الطبيب الذي تركته وراءها في الغرفة الأولى، فحصها برفق دون أن يقول أي كلمة، وضع شيئا يشبه البوق على بطنها وبدأ يجس نبض الحياة في أحشائها، نظر إلى وجهها الواهن، ثم انصرف.. بعد دقائق قليلة، جاءت المولدة، بدأت تصدر أوامرها بصرامة، "بلاتي ما تزحميش (لا تدفعي)، حلي رجليك مزيان(افتحي رجليك جيدا..)..تنفسي من فمك... تذكرت نصيحة جارتها لها قبل أن تغادر المنزل عندما وضعت ورقة من فئة خمسين درهما في جيبها وقالت لها "لا تعط شيئا لأي شخص سوى للقابلة التي تكونين متأكدة من أنها هي التي ستولدك، لكي تساعدك ولا تتركك مرمية بعد الولادة على ذلك الفراش البارد" تلمست جيبها، وعندما اقتربت منها، وضعت الورقة في سترتها، انتبهت المولدة للورقة الخضراء وتأكدت من استقرارها في مكان آمن، إلا أنها تظاهرت بأنها لم تر شيئا، واصلت عملها برفق أكبر"بسم الله..يالله عاونيني وكلشي غادي يكون على خير"..استمر الألم في التصاعد وبدأت تدفع الهواء الى بطنها رغما عنها، إلا أن المولدة نصحتها بأن تتنفس وتدلي لسانها حتى لا تؤذي نفسها أو تؤذي طفلها.. أصبحت الولادة أكثر رحمة رغم الألم...كيف لم تتذكر نصيحة جارتها عندما دخلت، لو أنها حملت معها حزمة من الأوراق الخضراء لما تعرضت لأي إهانة.. يالله زحمي (ادفعي) ..زيدي ..زيدي..قربت.. الرأس على وشك الخروج... خارت قواها لم تستطع الاستمرار في الدفع، لكن المولدة بادرتها "لا ..لا تتوقفي الآن..استمري في الدفع اصبري لم يبق إلا القليل يالله..عاونيني آبنتي الله يرضي عليك.. استجمعت قواها، للحظة عابرة تذكرت النساء اللواتي يلدن في الأفلام الأمريكية، وكيف يتم حقنهن وتزويدهن بالمصل لكي يستطعن اجتياز هذه اللحظات العصيبة، إلا أن كل ذلك يبدو مجرد سينما، أرجعتها المولدة التي امتلأت رحمة وعطفا بفضل الورقة الخضراء، إلى الواقع عندما ربتت على فخديها العاريتين..يالله زحمي..قولي آآلله وزحمي زيدي..زيدي ..قربتي صافي خرج الراس..ما توقفيش.. زحمي.......شعرت بشيء دافئ وصلب يندفع من أحشائها ويسحب معه كل آلامها إلى الخارج.... ...عندك شي وليدات؟ سألتها المولدة وهي تنظر إلى الطفل الذي عطس عطسة خفيفة قبل أن يصرخ معلنا عن وصوله..أجابت بإنهاك شديد "لا.. عندي بنت.." بسرعة بشرتها "مبروك عليك تزاد عندك وليد.. هانتي شوفيه.." وحملته برفق، خصوصا أن حبلا طويلا لا يزال يتدلى من بطنه، حتى تستطيع أمه رؤيته..ابتسمت وهي تتأمله، وتذكرت ما كانت أمها تقوله لها دائما "غير تشوفي عويناتو تنساي وجيعاتو.."(ما إن تري عينيه حتى تنسي كل الآلام) دخلت امرأة أخرى بوزرة بيضاء حملت الطفل بعد أن قطعوا الحبل الذي كان يربطه بها، وسألتها عن مكان ملابسه، فأشارت بيدها المرتجفة إلى حقيبة صغيرة كانت ترافقها، فتحتها وأخذت منها الملابس والحفاظة و اختفت في الممر.. ظلت تتبعها بعينيها وكأنها تستودعها روحها التي رافقتها وقاسمتها كل شيء طيلة تسعة أشهر، قبل أن يعيدها صوت مولدتها التي فاجأتها وهي تضغط على بطنها "زحمي..صبري.." ...يا إلهي ولادة جديدة، وآلام جديدة ماذا هناك، صرخت قبل أن تشعر بأشياء دافئة تنساب الى الخارج. ..صافي دابا تخلصتي على سلامتك..أغمضت عينيها وهي تشعر كأنها تحت تأثير مخدر بسبب كل ما عانته من الألم، كانت تشعر أن يدا تحرك شيئا ما أسفلها لكنها لم تقو على فتح عينيها لتعرف ماذا يجري.. مرت لحظات وهي لا تزال في نفس الوضع، بدأت القشعريرة تسري في جسمها ابتداء من رجليها العاريتين،وبدأت أسنانها تسطك، خصوصا أنها كانت ملقاة على فراش بلاستيكي بارد زاد من برودته تلك الدماء والسوائل التي خرجت من جسمها وترسبت أسفل ظهرها، لم تجد أحدا تطلب مساعدته، لم تفهم ماذا يجري لأن القاعة التي كانت تضج بالحركة انتابها سكون غريب لم تكن تقطعه إلا صرخات النساء اللواتي يلدن.. رجعت المرأة التي أخذت الطفل قبل قليل، وضعته برفق في مكانه، و ما إن رأتها حتى بدأت تتوسل إليها"عافاك قتلني البرد، غطيني.." لكنها أجابتها: "بلاتي باقي ما ساليتيش آللا ، راه باقي غادي يخيطوك.." (لم تنته بعد، إنهم سيخيطون جرحك) نزل الخبر على رأسها كالصاعقة، لأنها تعرف جيدا ماذا يعني ذلك، خصوصا أنها مرت من هذه التجربة التي تعتبرها كل النساء أصعب من الولادة في حد ذاتها.. لكم تمنت أن لا يخيب أملها بأن تكون ولادتها طبيعية ولا تحتاج إلى أي غرز إضافية في مناطق حساسة من جسمها..انتبهت من صدمتها لتسأل عن حجم الشق الذي تسبب فيه خروج الطفل الى الدنيا لتعرف عدد الغرزات التي ستكون من نصيبها، لكنها وجدت نفسها وحيدة مرة أخرى.. نسيت البرد الذي كاد يجمد نصفها السفلي، وبدأت تدعو الله أن يعينها على تحمل ما سيأتي دون أن تنسى أن ترفع بصرها في اتجاه الى طفلها، الذي بدأ يعطس، وسرعان ما عرفت سبب كل هذا البرد الذي بدأ صغيرها يتقاسمه معها عندما انتبهت إلى أن النافذة الزجاجية الكبيرة في تلك القاعة كانت مكسورة ... دخلت فتاة صغيرة تلبس وزرة بيضاء، وتحمل في يدها عدة الخياطة، حاولت أن تهون عليها..نظرت إليها وهي تبتسم وخاطبتها بود "على سلامتك، آش ولدتي.." "وليد.." أجابت بصوت هادئ.. حاولت الفتاة أن تهيأها لتسهل عليها مهمتها، فأضافت بنبرة مازحة "دابا آشنو بغيتي نصاوب ليك الطرز الفاسي ولا الطرز الرباطي..؟"(ماذا تفضلين التطريز العصري أم التقليدي؟) كانت مزحة مخيفة.. يا إلهي جسمي أصبح قطعة ثوب سيتم تطريزها على ذوق هذه "الطرازة" لم تمض سوى لحظات حتى بدأت "الخياطة" في أداء مهمتها دون أي تخدير، لا موضعي ولا كلي، وكلما ثقبت الإبرة مكانا في جسمها صرخت وطلبت الرحمة وكأنها تحت التعذيب، فكانت الفتاة تدعوها لمزيد من الصبر، وتعدها بأن التالية هي آخر غرزة، لكنها كانت تتوسل هي تقول :"أرجوك اتركي كل شيء كما هو، لا تصلحي شيئا..أكاد أموت.. لم تنفعها توسلاتها في شيء، واستمرت الفتاة في عملها ولم تكد تعلن نهاية حصة التعذيب هذه حتى كانت قد أنهكت تماما ولم تعد قادرة على الصراخ أو الحركة..غرقت في نوم لذيذ ولم تعد تشعر بما يجري حولها.. عندما استيقظت لم تعرف كم مضى من الوقت، لكنها لاحظت أنها مغطاة ببطانية تنبعث منها روائح كريهة، وأن هناك برودة تسللت إلى ظهرها، خصوصا أن الجزء الأسفل من جسمها لا يزال على نفس الوضع الذي تركته فيه عندما شملتها تلك الاغفاءة كرحمة نزلت في وقتها لتخفف عنها بعض العناء.. كانت الحركة في الممر تتزايد ، هناك وجوه جديدة لم ترها قبل أن تغفو. احتاجت لعض اللحظات لتفهم أن الفريق المناوب الذي أشرف على توليدها غادر بمجرد وصول موعد مغادرته، وتركوها ملقاة على ذلك الفراش البلاستيكي، ولعل أحدهم كان رحيما بها، حيث تكرم وغطاها بهذه البطانية. دخلت امرأة شديدة السمرة، ممتلئة القوام، رفعت الغطاء النتن، بدأت تتمتم بكلمات غير مسموعة، قبل أن تسألها عن ملابسها، أشارت بيدها الى الحقيبة ، فتحتها وأخرجت منها حفاظ نسائي ، وملابس داخلية، ساعدتها على ارتدائها، بعد أن مسحت الدماء التي تجمدت أسفل ظهرها وتحت فخديها، بصعوة بالغة ساعدتها على الوقوف لتغيير ملابسها التي امتلأت بالدم، ثم وضعتها على كرسي متحرك، ووضعت في حجرها طفلها وملفها الأبيض ودفعتها في اتجاه المصعد، لتجد لها مكانا في طابق علوي حيث ستقضي يوما آخر قبل أن تعود الى بيتها... لم يخفف عنها وجودها فوق كرسي متحرك ألمها وعذابها، فهي تجلس فوق جراح خيطت قبل لحظات فقط، و تمسك طفلها بيديها المرتعشتين وتحرص ألا يفلت منها، وعليها أن ترفع قدميها من الأرض وتتحكم في توازنهما لأن الكرسي يفتقد الى ما يسندهما.. كلما استسلمت لإنهاكها الشديد وهي تسير في الممر الطويل كانت تشعر بأن قدميها تلامسان الأرض ، فتوقظها آلام جراحها التي تهتز تحتها قبل أن يوقظها صوت المرأة السمينة التي تبادرها "هزي رجليك أللا .." وصلت أخيرا الى المصعد، تنفست الصعداء،أرخت قدميها واستسلمت لإنهاكها للحظات وتمنت لو يستمر المصعد في الصعود الى ما لا نهاية، لكن الباب انفتح بسرعة..استجمعت قواها ورفعت قدميها وهي تنصت لجراحها كانت تنظر لطفلها الذي شعر بالدفء في حجرها فنام. تحركت عجلات الكرسي في اتجاه قاعة أخرى، ما إن دلفتها حتى بادرتها المرأة "جابو ليك شي فراش؟" (هل أتوك بالفراش؟) .."لا.." يا إلهي كيف نسيت أن أطلب منه أن يعود الى البيت ويأتي بالبطانية؟" تذكرت أنها في غمرة آلام المخاض، حملت حقيبة ملابسها وملابس صغيرها التي كانت معدة قبل أسابيع، لكنها نسيت الفراش الذي ستنام عليه، والغطاء الذي سيقيها برد هذه القاعات المترامية الأطراف. لم تضيع المرأة السمينة المزيد من الوقت، فلديها نساء أخريات ينتظرنها في قاعة الولادة كما قالت، ساعدتها على الصعود الى الفراش البلاستيكي، بعد أن وضعت فوقه قطعة ثوب ، ووضعت طفلها بجانبها في فراش يشبه قفص حيوان صغير، ودفعت عجلات الكرسي ورحلت.. من حسن حظها أن موعد الزيارة حان، وسيأتي زوجها وأمها بعد قليل، وربما يحملان معهما الأغطية اللازمة، وبعض الأكل، خصوصا أنها بدأت تشعر بالجوع... وهي تتطلع الى باب الغرفة، سمعت أنينا متقطعا يأتي من السرير الذي يبعد عنها بخطوات، حيث كانت امرأة أخرى تتقطع من الألم.. نادتها لكنها لم تجب، بحثت بعينيها عمن تطلب منه النجدة، لكن لا يوجد أحد معهما، تصفحت الجدران علها تجد تلك الأزرار التي تراها عادة في مستشفيات الأفلام، حيث يمكن الضغط على أحدها لتأتي الممرضة أو الطبيب المناوب، لكنها لم تجد شيئا، وكلما استمر أنين المرأة في التصاعد، زاد توترها .. أطلت امرأة يبدو أنها زائرة تبحث عن قريبة، تطلعت الى منبع الصوت المتألم، ومطت شفتيها "مسكينة.." كان هذا ما جادت به عليها قبل أن ترحل... بعد لحظات عادت المرأة السمينة وهي تدفع امرأة أخرى، كانت أكثر حظا، كانت ترافقها شابة تشبهها لعلها أختها، وكانت تحمل الأغطية التي بادرت ببسطها بعناية قبل أن تساعد في حمل أختها الى الفراش الذي تغير وجهه ولم يعد بائسا بفضل الأفرشة الجميلة، والغطاء الوردي الناعم.. "مالها؟..(ماذا بها) سألت الزائرة الشابة وهي تشير الى الفراش الذي ينبعث منه الأنين، "فيها الوجع" أجابت المرأة السمينة ببرود.."ما شافهاش الطبيب؟" (ألم يرها الطبيب؟) سألت الزائرة مستغربة.. باقي ما دخلوش.." (لم يأت بعد) ردت باقتضاب وهي تدفع العجلات خارج الغرفة. ذهبت الفتاة الى مصدر الأنين، ورفعت الغطاء قليلا، وسألت المرأة عن سبب ألمها وهي تحاول أن تهون عليها، قبل أن تجيبها "الليل كامل وأنا كنتقطع بالوجع ولا حنين لا رحيم" (طيلة الليل وأنا أتقطع من الألم ولا من مجيب) مضيفة بلهفة "عندكم شوية ديال اللويزة سخونة؟" (تطلب شرابا ساخنا) فهمت الفتاة حاجتها إلى شراب دافئ يخفف عنها بعض الألم، وتوجهت الى حقيبة كانت على الأرض، أخرجت منها سخانة بيضاء، وسكبت في كوب نظيف سائلا أصفر ساخن، ساعدتها على الجلوس، وسقتها برفق، ثم انتبهت الى الفراش الصغير الذي كان فارغا وسألتها ببراءة " فين ولدك ولا بنتك؟ (أين طفلك)..سبقتها دمعة حارة قبل أن تجيب"تزاد ميت" (ولد ميتا)...