القنيطرة... اختتام دوري أكاديميات كرة القدم    القيمة السوقية للدوري السعودي تتجاوز عتبة المليار يورو    باب برد: تفكيك عصابة إجرامية متورطة في سرقة وكالة لتحويل الأموال    الإرث الفكري ل"فرانتز فانون" حاضر في مهرجان الكتاب الإفريقي بمراكش    تطوان تحتفي بالقيم والإبداع في الدورة 6 لملتقى الأجيال للكبسولة التوعوية    نادٍ نرويجي يتبرع بعائدات مباراته ضد فريق إسرائيلي لدعم غزة    التوقيع على مذكرة تفاهم لتعزيز التعاون والشراكة بين مدينة طنجة ومدينة القدس الشريف    CDT تقر إضرابا وطنيا عاما احتجاجا على قانون الإضراب    حكومة أخنوش تتعهد بضمان وفرة المواد الاستهلاكية خلال رمضان ومحاربة المضاربات    هذه توقعات أحوال الطقس اليوم الأحد    ابتداء من غد الاثنين.. ارتفاع جديد في أسعار المحروقات بالمغرب    هكذا يخطط المغرب لتعزيز أمن منطقة الساحل والصحراء    تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج شهدت ارتفاعا بنسبة 2.1 في المائة    الرجاء البيضاوي يتجه إلى إلغاء الجمع العام مع إناطة مهمة الرئاسة إلى بيرواين حتى نهاية الموسم    "هِمَمْ" ترفض التضييق والتشهير بمديرة جريدة "الحياة اليومية"    نزار بركة يترأس الدورة العادية الموسعة للمجلس الإقليمي لحزب الاستقلال في العيون    مقتل مغربي بطلقات نارية في إيطاليا    الإعلام في خدمة الأجندات السياسية والعسكرية    كريستينا.. إسبانية سافرت للمغرب لاستعادة هاتفها المسروق بمدريد والشرطة المغربية أعادته إليها في أقل من ساعة    تجميد المساعدات الأميركية يهدد بتبعات خطيرة على الدول الفقيرة    الرئاسة السورية: الشرع يزور السعودية    تحذير من تساقطات ثلجية وأمطار قوية ورعدية مرتقبة اليوم الأحد وغدا الاثنين    تفكيك شبكة صينية لقرصنة المكالمات الهاتفية بطنجة    روبرتاج بالصور.. جبل الشويحات بإقليم شفشاون وجهة سياحة غنية بالمؤهلات تنتظر عطف مسؤولين للتأهيل    السلطات الأسترالية تعلن وفاة شخص وتدعو الآلاف لإخلاء منازلهم بسبب الفيضانات    حريق مُهول يأتي على ورش للنجارة بمراكش    المغرب يعزز موقعه الأممي بانتخاب هلال نائبا لرئيس لجنة تعزيز السلام    "رسوم ترامب" الجمركية تشعل حربًا تجارية .. الصين وكندا والمكسيك ترد بقوة    دراسة: هكذا تحمي نفسك من الخَرَفْ!    استئناف المفاوضات بين حماس وإسرائيل الاثنين بعد رابع عملية تبادل للرهائن والمسجونين    ائتلاف حقوقي: تجميد "ترانسبارانسي" عضويتها من هيئة الرشوة إعلان مدوي عن انعدام الإرادة السياسية في مواجهة الفساد    الصين: شنغهاي تستقبل أكثر من 9 ملايين زائر في الأيام الأربعة الأولى من عطلة عيد الربيع    الجمعية المغربية لدعم إعمار فلسطين تجهز مستشفى الرنتيسي ومستشفى العيون باسطوانات الأكسجين    المنتخب الوطني لأقل من 14 سنة يجري تجمعا إعداديا بسلا    طنجة تتأهب لأمطار رعدية غزيرة ضمن نشرة إنذارية برتقالية    ريدوان يخرج عن صمته بخصوص أغنية "مغربي مغربي" ويكشف عن مشروع جديد للمنتخب    ريال مدريد يتعثر أمام إسبانيول ويخسر صدارة الدوري الإسباني مؤقتًا    أولياء التلاميذ يؤكدون دعمهم للصرامة في محاربة ظاهرة 'بوحمرون' بالمدارس    حجز أزيد من 700 كيلوغرام من اللحوم الفاسدة بطنجة    تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج فاقت 117 مليار درهم خلال 2024    مؤسسة طنجة الكبرى تحتفي بالكاتب عبد السلام الفتوح وإصداره الجديد    هذا هو برنامج دور المجموعات لكأس إفريقيا 2025 بالمغرب    مقترح قانون يفرض منع استيراد الطماطم المغربية بفرنسا    تفشي "بوحمرون" في المغرب.. أرقام صادمة وهذه هي المناطق الأكثر تضرراً    المجلس العلمي المحلي للجديدة ينظم حفل تكريم لرئيسه السابق العلامة عبدالله شاكر    ثمن المحروقات في محطات الوقود بالحسيمة بعد زيادة جديد في الاسعار    الانتقال إلى دوري قطر يفرح زياش    مسلم يصدر جديده الفني "براني"    لمن تعود مسؤولية تفشي بوحمرون!    لقجع: منذ لحظة إجراء القرعة بدأنا بالفعل في خوض غمار "الكان" ولدينا فرصة لتقييم جاهزيتنا التنظيمية    القاطي يعيد إحياء تاريخ الأندلس والمقاومة الريفية في عملين سينمائيين    الإعلان عن تقدم هام في التقنيات العلاجية لسرطانات البروستات والمثانة والكلي    محاضرة بأكاديمية المملكة تُبعد نقص الذكاء عن "أطفال صعوبات التعلم"    أي دين يختار الذكاء الاصطناعي؟    الفنانة دنيا بطمة تغادر السجن    أربعاء أيت أحمد : جمعية بناء ورعاية مسجد "أسدرم " تدعو إلى المساهمة في إعادة بناء مسجد دوار أسدرم    غياب لقاح المينانجيت في الصيدليات يعرقل سفرالمغاربة لأداء العمرة    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آمال عوّاد رضوان.... الكتابةُ بشرطِ الاستعادةِ

لا يمكنُ لأيّة قراءةٍ نقديّةٍ إلّا أن تكونَ محاولةً في استعادةِ النّصّ، النّصّ بوصْفِهِ بُنْيَةً مفتوحةً للمعنى/ الرسالة، أو بوصْفِهِ بُنيةً بَصَريّةً مُصَمَّمةً لاستحضارِ فكرة الجَمالي/الصّوري في الجملةِ الشعريّة.
هذهِ القراءةُ تسعى بالمقابلِ إلى الاستغراقِ في بُنيةِ النّصّ الاستعاريّةِ، مِن خِلال تفكيكِ التّماسُكِ الظاهريّ لهذا النصّ، والبحثِ عن الأبنيةِ الخفيّة والعميقةِ فيهِ، تلكَ الّتي تتجسّدُ عبرَ المزيدِ مِن التّلويناتِ البَصريّةِ، حتّى يبدو وكأنّ النصَّ يَفقدُ خاصّيّتَهُ المُعلَنةَ والمُباشرة، ليتحوّلَ إلى مجموعةِ سيْروراتٍ باثّةٍ لطاقةٍ داخليّةٍ، ورؤيا تُعبّرُ عن كشوفاتِ هذهِ الطاقةِ، وتَمثُّلها كخطابٍ شِعريٍّ/ لسانَيْن؛ يُمثّلُ الحاضنَ لكلِّ الشّفراتِ الدلاليّةِ في النصّ، ولكلّ الاشتغالاتِ الأسلوبيّةِ في التّعبيرِ عن تركيبِ الجُملةِ، وبناءِ الصّورةِ، وما يَستدعيهِ ذلكَ مِن إجراءاتٍ في كشْفِ المعنى الّذي تُلاحقُهُ الكتابةُ دائمًا، عبرَ استعادةِ الذّاتِ أو الطبيعةِ أو المحبوب ..
هذهِ العَتبةُ القِرائيّةُ تَضعُ نُصوصَ الشّاعرةِ آمال عوّاد رضوان، أمامَ اشتغالاتِ الكشفِ الداخليِّ والخارجيّ للبُنيةِ البَصريّةِ، وللبُنيةِ الاستعاريّةِ، إذ تَشتبكُ هاتانِ البُنيتانِ في مجموعتِها الشّعريّةِ (بسمةٌ لوزيّةٌ تتوهّجٌ)، باتّجاهِ الكشْفِ عن الشّعريّ، بوصْفِهِ تَماهٍ معَ فكرةِ الاستعادةِ، ومعَ رؤيا البحثِ عن التّجلّياتِ الحسّيّةِ، إذ هي تتلمّسُ كشوفاتِ الجُملةِ الشّعريّةِ، مِن مُنطلقِ إحالتِها إلى جُملةٍ ثقافيّةٍ مشحونةٍ بطاقةٍ تعبيريّةٍ، وهو ما يُعطي لنصوصِ المجموعةِ سِياقًا حُرًّا، تَسعى مِن خلالِهِ الشّاعرةُ إلى توسيعِ فكرةِ الاستعادةِ تلك، مِن خلالِ استمالةِ الحسّيّ، والجسدانيّ، والوصفِ الشّعوريّ المُتورّطِ بالكشفِ عن تفاصيلِ التجربةِ وترميزِها، ومنْحِها إيقاعًا داخليًّا مُصمَّمًا، وكأنّه تعويذةٌ للارتواءِ، وبيانُ الإنشادِ العاطفيِّ الّذي يتماهى معَ نداءِ الآخَرِ الحاضِرِ، عبرَ صوَرٍ ومَناخاتٍ حِسّيّةٍ وآيروسيّةٍ مُتعدّدةٍ...
إنّ ما تُفصِحُ عنهُ الشاعرةُ آمال عوّاد رضوان هو إفصاحٌ وصْفِيٌّ أوّلًا، وهو إفصاحٌ بَصَريٌّ في جوْهرِهِ، إذ يَتوالَدُ عبرَ صورةٍ استعماليّةٍ، مَسكونةٍ بالاستعارةِ، رغم أنّ لغةَ الشاعرةِ بسيطةٌ، إلّا أنّها مَشوبةٌ بهَوَسٍ حِسّيٍّ للتعبيرِ عن شِفرةِ الرغبةِ، رغبةِ البحثِ، رغبةِ الاكتشافِ، رغبةِ الاستحضارِ، رغبةِ اللذّةِ، إذ تكونُ اللغةُ في هذا السّياقِ الاستعاريِّ أشبَهُ بمجموعةٍ مِنَ الإشارات، الّتي تُوظّفُها الشّاعرةُ باتّجاهِ أن تَستفزَّ الذاكرةَ، وأن تستفزَّ الجسدَ، وبما يُسبغُ على لعبةِ الاستعادةِ المَجازيّةِ سِماتٍ تُعبّرُ عن نفسِها، مِن خلالِ الانشدادِ إلى انزياحِ الاستعارةِ، الّذي يَبدو مكشوفًا امامَ ازدحامِ التفاصيلِ الشّعوريّةِ، ومَناخاتِ الإحساسِ المُفرِطِ في نزوعِهِ الاستعاديّ ..
أَحِنُّ إِلى حَفيفِ صَوْتِكَ
ينسابُ
نَسِيمًا رَطِبًا في مَعابِرِ رُوحِي
تَجمَعُني قُزَحاتهُ إضمَاماتٍ فوَّاحَةً
تَزدانُ بِها مَنابرُ مَسامِعي
أَشتاقُكَ ..
أيُّها المَجنونُ
إِلى ما لا نِهايةٍ مِن جُنونِك
أَشتاقُك ..
إنّ تكرارَ الإشارة الصّوتيّة (صوتك) هي إشارة تعويضيّة ونفسيّة، تقابلُ غيابَ الحضور والتّشخصن، وهذا ما يدفعُ الشّاعرةُ لاصطناعِ نصِّها البَصريِّ بوصْفِهِ نصًّا لغويًّا استعاريًّا، يَفترضُ إبرازَ السّياقِ الاستعاديّ، ليكونَ بمثابةِ البُنيةِ المُهيمِنةِ الّتي تُحرِّكُ المحتوى الإشاريّ، وبما تمنحُ بُنيةَ الصّوتِ بوصْفِهِ نداءً، مجالًا تعويضيًّا يَجذبُ إليه الكثير مِن البُنياتِ الثّانويّة..
ولاشكّ أنّ هذا النّزوعَ البنائيّ يفترض له أيضًا تراتبًا وتركيبًا في البناء الأسلوبيّ، يجعل من المجموعة وكأنّها قصيدةً واحدة، كُتبتْ تحت إغواء الاستعادة، مِثلما خزينٌ استعاريٌّ لتحديدِ استعادةِ الآخَر/ المحبوب، لطاقةِ الإغواء الحسّيّ، أو المزاج الذي يَطبعُ إحساسَ الشّاعرة، وهي تستغرقُ في البُنيةِ الاستعاريّةِ بوصْفِها ترميزًا ودلالةً، أو بوصْفِها احتواءً نفسيًّا، كثيرًا ما يَتحوّلُ إلى طاقةٍ شعوريّةٍ وتعبيريّةٍ، الّتي تتسلّلُ إلى الذّات المهووسةِ بالآخر، إذ تستحضرُهُ في توليفات صوتيّةٍ مُكرّرة، كونُهُ نداءً أو رغبةً، مناخات تختزن طيّاتِها توهّجًا خفيًّا، هو توهّجُ الشّاعرة ذاتها، وهي تستسلمُ إلى ما تكتشفُهُ مِن صورٍ واستمالاتٍ لصورةِ الآخَرِ، تتجوهرُ فيها لهفةُ الرّوحِ والجسدِ المسكونيْنِ بهاجسِ الاستدعاء وفرش التفاصيل، توْقًا إلى ارتواءاتٍ تعويضيّة..
آثارُ قلبِكَ دَعني أرَمِّمْها ..
أُجَدِّدْ مَاءَ حَدائِقِها ..
أَجعلها وُرودًا
نَتراقصُ بَينَها شَغفًا
وتَسبَحُ قَنادِيلي في جَداولِهِا الشّهيَّة
تُكرّرُ الشّاعرة هذه الخاصّيّةَ- خاصيّةَ الاستحضار- حدّ الحلول فيها، لأنّها تمنحُها إحساسًا حادًّا بالامتلاء، واستيعاب ما تفورُ به الرّغبةُ مِن تهويماتٍ تُخفي في جوهرِها قلقًا وجوديًّا، هو قلق الفقدان، لذا هي تحاول أن تخفي هذا القلق عبْرَ استحضارِ الإشاراتِ الإيروتيكيّة وإشارات الخصب، كدلالةٍ مقابلةٍ لفكرةِ الحلول عند الصّوفيّة، لأنّ هذا الشّعورَ التّعويضيّ هو المضادّ لبنيةِ الفقدان المضمرةِ في حدوسٍ غير معلنة، نجدُ مقابل (آثار قلبك) وهي صور استذكاريّة؛ إذ هي تُشيِّءُ بثنائيّةٍ مفترَضةٍ للحضور والغياب عبْر صور (آثار) وصورة (أرمّمها)، صورًا أخرى (هو صدرُك بيدري)، وهذا التّقابل الصّوريّ يكشفُ عن شبقٍ حسّيٍّ ولغويٍّ، مثلما تتوالدُ عنه رغبةٌ في التّوحّدِ والتّبادلِ تُجسِّدُها البنيةُ التّساؤليّة..
أتكونَ دفينَ انصِهَاري
حَبيسَ أنْوِيَتي ؟!
أتَقْبَلُ بِكيْنونَةٍ جَديدةٍ
لا تُحَرِّرُها إلاّ بَراكيني ؟!
تتمثّلُ أغلبُ القصائدِ/ النّصوصِ في المجموعةِ إلى إحساسٍ عميقٍ بالأسى، وتَوهُّجٍ داخليٍّ، تَستفزُّ مِن خِلالِهِ الذّاكرةَ المُعاديةَ للصّمت، فهي ترسمُ صورةً لقلقِها وانتظارِها وندائِها مِن خلالِ الآخر (مصدر الأسى واللّذّة)، إذ هيَ تستلُّهُ، بَدْءًا مِن بنيةِ الاستهلال (إليكَ، حيثُ أنتَ، فيّ أبدًا)، وانتهاءً بإعادةِ استحضارِهِ عبْرَ سيولةٍ مِن التّفاصيل، تلكَ المَسكونةُ بالكثيرِ مِنَ الصُّورِ المُشتبِكةِ بالاستعارةِ، والّذي يبدو أحيانًا، وكأنّهُ يُخِلُّ بالكثافةِ الشعريّةِ، إذ تنحاز الشّاعرةُ هنا إلى هذيانِها المصمّم، هذيان الرّغبة، هذيان التّدفّق والتّوليد اللّغويّ المُدجّج بالاستعارات، وكأنّها عبْرَ هذه الشّراهةِ تؤكّدُ الحضورَ الرّمزيّ، وتؤكّدُ نزعةَ سيكولوجيا الامتلاك، مثلما تؤكّدُ أيضًا طاقةَ الوجودِ الّتي تؤنسنُها، عبْرَ تحقّقِ العديدِ مِن التّرميزاتِ الموحيةِ بقوّةِ التّملّكِ، والباثّةِ لطاقاتٍ تعبيريّةٍ أكثرَ عُمقًا، وأكثرَ تَوجُّسًا واستغراقًا بالحسّيّ ..
في قصيدة "في مهبِّ رصيفِ عزلة"، تحاولُ الشّاعرةُ أن تكشفَ عن رمزيّةِ فقدانِها، إذ هي الأنثى الموغلة في آهاب رغباتِها، وتيقّنِها بأنّها لن تستعيدَ إلاّ صورتَها في المرآة؛، صورةَ المرأة الأنثى وليست المرأة الوجود، إذ هي الّتي تندفعُ إلى الاستعادة، لأنّها محكومةٌ بالحُبّ والتّوحّدِ واللّذّة والتّبادل، والمرأةُ الأخرى محكومةٌ بقانون الطبيعة.. تنحاز الشّاعرةُ إلى أنموذجها المُتعالي والأنويّ والمهووس والمشخصن في عقدةِ المرآة، وتجد عبْرَ خساراتِه وفقدانِهِ إحساسًا متعاليًا وباطنيًا، يجعلُ مِن مشاعرِها المضطربة والقهريّة استبطانًا لاجتراح لذّةٍ داخليّة/ استمنائيّةٍ وعداويّة، هي سرُّ ما يمنحُها التّدفّقَ والتّوحّشَ واستعادةَ الحياةِ والحُبِّ ولو رمزيّا…
آهٍ …
ما أَشقاهَا المرأةَ
حِينَ تُسَاقُ مُقَيَّدَةَ الرَّغبةِ
إلى زَنزَانةِ أَحلامِهَا المُستَحِيلَة ..
كأَنَّ الشَّوقَ يَرمِي حُوريَّاتِ الأَحلامِ
في سَحيقِ هَاوياتِها
يُهجِّنُ وِلادَاتٍ رَهيبةٍ
يَترُكَها أَجِنَّةَ حُبٍّ عَلى ثَديِ انْتِظَارِها
قَد أَكونُ أَرهقتُكَ ؛
بِضَجيجِ فِكري
بِضَوضاءِ قَلبِي
أَشعرُ بالذَّنْبِ
حِينَما أَرجُمُكَ بِإبرِ أَحاسِيسي
وما مِن ذَنْبٍ أَقترِفهُ
سِوَى أن تتكَبَّدَ جَرِيمَةَ حُكْمِي
أُحِسُّ برَاحةٍ غَريبةٍ
حِينَما أُوقِعُ بِكَ قِصَاصِي
بِلُؤمٍ أَبْلَه
تكتبُ الشّاعرةُ آمال عوّاد رضوان تحتَ إيقاع هذه المشاعر اللّجوجة، تغرقُ لغتُها بغليان مِن الصّورِ المحتدِمةِ وحدوس الرّوح المتوجِّسة، (البنيةُ الصّوتيّة) تمثّلُ فضاءَها الذي تستغرقُهُ كبنيةٍ استحضاريّةٍ متدفّقة، إذ يكون الصّوتُ هو النّاقلُ لوجعِها الدّاخليّ ونفورها ومزاجها القهريّ، مثلما هو مجسُّها الذي تتلمّس به الخارج، بكلّ ما يمورُ به مِن أحلام ورؤى وتوهّجات وفقدانات، والتي عادةً ما تترك فراغًا مُريعًا!
الصّوت هنا هو لجوؤُها الفارق والمُدهِش والباطنيّ، تُغلّفُ إيقاعَها بنبر خفيٍّ يتجاوز أحيانًا بنيتَهُ النّثريّة، ليكشف عن إيقاع اللّغةِ ذاتها؛ إيقاع التّوتّر، تصادم الرّؤى وتعاكس الأحاسيس، حتى تبدو اللّغةُ هنا أشبه بالمصدّ الذي يحتكّ بالتباساتِ الخارج المرثيّ!
إذ تصنع له الشّاعرة كتابةً في الرّثاء، وتجعل مِن ذاتِها المرآويّةِ فضاءً لحيواتٍ ضاجّة، تكسرُ إيهام الزّمن واغترابه، حيث ينطلق هذا الزّمن مِن الماضي، ليستحضر حاضرًا لا هويّة له، سوى أنّه حاضرُ الجسد المكتنِز بالنّداءِ واستجلاب المحبوب الغائب والغائم، كنوع من الإيهام برغبةِ التّعويض أو التّرميم، وأحيانًا تكون الكتابة استغراقًا في رثاء الجسد..
ومن هنا تضع الشّاعرةُ قصيدتها أمام لعبة إغواءٍ متواصل؛ لعبةٍ في استغراق الحياة، لعبةٍ في الانفلات من المرارة، كتابتُها نصُّ الاستعادة هو محاولة للهروب إلى الأمام، دفْعًا لاستعادةِ قوّتِهِ في الشّهوة والإشباع، واستئثارًا بكتابةٍ هي الأقرب إلى كتابةِ المزاج، إذ تكون الشّاعرةُ أمامَ شراهة أنويتها وحيدةً تنحاز إلى آخر يشبهُها، لا خصوصيّةَ له سوى أن يتدفّق، يُطلق عصافيرَ إشباعه ونشيدِهِ المُباح.. ولاشكّ أن هذه القصيدة / النّصّ تفترضُ لغةً صاخبةً لا تتسلّلُ باطمئنان إلى الخارج، لغةً غيرَ مشبعة، انشطاريّة، لا زحمةَ في نظامِها الدّلاليّ، مفتوحةً على شفرات الجسد وانشغالاتِهِ وحدوسِه، حيث يكون الجسدُ هنا هو الحاضن الإشكاليّ الذي يُفلسفُ أزمة الكائن في وجوده، وفي عشقه وفي استمالته وارتوائه..
الشّاعرةُ تطلقُ العنان هنا لهذه اللّغةِ المتدفّقةِ دون مُوارَبةٍ، لأنّها على يقين أنّها تكتب لغتها، وتنزاح إلى استعاراتها الحسّيّة التي لا تفلسفُ علاقتها مع الآخر.. لذا هي لغةٌ محتويةٌ لأنويةِ الشّاعرة، حاضنةٌ لقلقِها وندائِها وبوحِها وتوحُّدِها واعترافِها!
يا خِشْيَتي مِنْكَ وَعَليْكَ
إنْ تَلتحَمْ أكوانُ كَلَفِكَ
بِضُلوعِ جِنَاني
أأقولُ :
لا تَدْنُ مِن مُروجي
فَما اخضِرارُ بَتْلاتي سِوى سَرابٍ
يَخلِبُ لِحَاظَ القِلوبَ
ويَفتنُ مَجسَّاتِ العُقول ؟
إنّ قصيدةَ "أنفض الغبار عن متحف فمك"، تمثّلُ قصيدةَ اعترافٍ موجِع، تمارسُ فيها الشّاعرة أقصى رغباتِها في التّصريح عن مكنونها، وانهماكِها باستعادة الآخر اللّذّويّ والإشباعيّ إزاء توهّماتِ حرمانِها وفقدانِها، وهذا التّقابلُ الحادُّ يُضفي على شفراتها اللّغويّةِ نوعًا من التّعبيريّة الحادّة، التي تتكثّفُ أصواتُها في صوت واحد، هو صوت الأنثى التي تمارسُ إغواءَها القديم بمواجهة ذاتها/ جسدها/ حريّتها أوّلاً، قبلَ الآخر الذي وضعتْ الشّاعرة/ الأنثى فمَهُ في المتحف، وهنا تتوهّمُ استعادتَهُ دائمًا عبْرَ اصطناع لعبةِ حضوريّةٍ إفراغيّة، تفترض فيها إشارة (نفض الغبار) كنصّ مضادّ للمتحف الذي يؤطّرُهُ السّكون، مثلما تتوهّمُ المروجَ كعلامة مضادّة للسّراب، وتتوهّم ثنائيّاتٍ أخرى تتزاوج فيها رغباتُ الشّاعرة المحتدِمة..
إنّ شعريّة آمال عوّاد رضوان هي شعريّةُ كفاية الحلم كما يسمّيها ابن عربي! إذ هي تستدعي وتستحضرُ سيرةَ فقدانِها، حتى تبدو وكأنّها مرويّةَ حُلم، له نشوةُ الابتهاج وله قسوة المكاشفة، هذا الانجرار الحسّيُّ يجعلها أثر إيغالاً في تلذّذِ الكشف، وتحويل جسد الآخر إلى سطح لتدوين هذا الكشف، الذي تتكثّف مشهديّتُه في نصّ فسيح/ توصيفيٍّ لا قاموسَ له سوى الرّغبة، ولا امتداد له سوى اللّحظة المكثّفةِ المتوهّجة، التي تمنحها الشّاعرة استعادةً مُكرّرة..
هو ذا القَلبُ خاشعٌ
راكعٌ في مِحرَابِ الاعترافِ
يتمتمُ في صمتِهِ الصَّاخبِ
يا مَنْ تَرْجِمُني بِوابِلٍ مِن قُبُلات
لأجْمَلِ اقْتِراف
إن نصوصَ الشّاعرة لا تحتمل التأويل ولا تهرب بعيدًا عن المعنى! لأنّها محمولة على كتابةٍ موجعة وحلمية ومباشرة أحيانًا، تفرش قماشتها اللّغوية بنوع من التّوثب الذي يُلامس روح أنوثتها النافرة والقلقة..هي تكتب نصًّا في استدعاء الغياب بكلّ ما يختزنُه هذا الغياب من ترميزاتٍ واستعارات، والذي يحمل شفرة الآخر بكلّ توهّجه وخوفٍه وخذلانِه..
وجدت نفسي أتسلّلُ مع قصائدِها، وكأنّي أبحث عن نهايةِ هذا الأسى وهذا الصّحو في هذه اللّعبة الماهرة داخل كيمياء الجسدِ واللّذّة، والتي تختمها الشّاعرة باستعارة نداء (أيها)، وهي إشارة للحضور الملتبس الذي يكشف عن أدوار، تبادلُها إيّاهُ الشّاعرةُ الحرمانَ والنّشوةَ والجنونَ وحتّى الهذيان!
أيُّها القادمُ من رَحمِ الحرمانِ مَدفوعًا برياحِ النَّشوة والهيام،
تَخشى افتقادَ اللَّحظة،
تُحلّق في روائع الجنون
خشْيَةَ أن تصحُو من عَبقِ الهذَيان.
شاعر وناقد عراقي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.