بلاغة التوظيف الاستعاري في أمثولة "حي بن يقظان" لابن طفيل عندما تتوافر البصيرة، هل يصبح للعقل ضرورة؟. الجواب تُعلمنا إياه أمثولة "حي بن يقظان" . لا حاجة بالأم إلى إعمال العقل، ما دام العقل قد يودي بها إلى الهلاك. لكن عندما تتصرف الظبية انطلاقاً من بصيرتها. هل تظل ظبية؟. تهدف أمثولة "حي بن يقظان"، إلى إثبات وجهة نظر ابن طفيل الذي يحاول الإقناع بأهمية البصيرة انطلاقاً من شخصيتي الأم والظبية. ويمثل الرضيع "حي" في الأمثولة اللبنة الأساس لتصرفات هذه الشخصيات. وللبصيرة في "حي بن يقظان" معنى مجرد ينبثق من التوظيف الاستعاري، تتسلح به الأم والظبية تارة، ويتوسل به ابن طفيل تارة أخرى. البصيرة في الأمثولة لم تشمل الأم والظبية وحسب، وإنما شملت كذلك الابن "حي". لكن هل تتشابه البصيرة لدى هؤلاء؟ وهل تنجح في "حي بن يقظان"؟. الجواب نعم. وإثبات ذلك يتطلب الوقوف على شخصيات أساس: الأم، والظبية، وحي. لوعة القلب «فَلَما خَافَتْ أَنْ يَفْتَضِحَ أَمْرُهَا وَيَنْكَشِفَ سِرُهَا، وَضَعَتْهُ فِي تَابُوتٍ أًَحْكَمَتْ زَمهُ بَعْدَ أَنْ أَرْوَتْهُ مِنَ الرضَاعِ؛ وَخَرَجَتْ بِهِ فِي أَولِ الليْلِ فِي جُمْلَةٍ مِنْ خَدَمِهَا وَثُقَاتِهَا إِلَى سَاحِلِ البَحْرِ، وَقَلْبُهَا يَحْتَرِقُ صَبَابَةً وَخَوْفاً عَلَيْهِ، ثُم إِنهَا وَدعَتْهُ وَقَالَتْ: "اللهُم إِنكَ خَلَقْتَ هَذَا الطفْلَ وَلَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً، وَرَزَقْتَهُ فِي ظُلُمَاتِ الأَحْشَاءِ، وَتكَفلْتَ بِهِ حَتى تَم وَاسْتَوَى. وَأَنَا قَدْ سَلمْتَهُ إِلَى لُطْفِكَ، وَرَجَوْتَ لَهُ فَضْلَكَ، خَوْفاً مِنَ هَذَا المَلكِ الغَشُومِ الجَبارِ العَنِيدِ. فَكُنْ لَهُ، وَلاَ تُسَلمْهُ، يَا أَرْحَمَ الراحِمِين" ثُم قَذَفْتَ بِهِ فِي اليَم. فَصَادَفَ ذَلِكَ جَرْيَ المَاءِ بِقُوةِ المَد، فَاحْتَمَلَهُ مِنْ لَيْلَتِهِ إِلَى سَاحِلِ الجَزِيرَةِ الأُخْرَى المُتَقَدمِ ذِكْرُهَا». في هذه الصورة تلقي الأم رضيعها في اليم، ثم تودعه بقلب يحترق. والرمي بجانب الاحتراق يثير الريبة. ذلك أن الأمر لا يتعلق حقاً بأم عديمة الإحساس، مادام قلبها يحترق على ابنها. لكن، لماذا إذن ترمي طفلها، إن كانت تريده؟. نعلم أن الأم أكثر الناس خوفاً على أبنائها. ولا شك أن أم هذا الطفل لا تقل خوفاً على الأبناء من باقي الأمهات. غير أنها تصر على الصمت، ولا تكشف عن أوراقها. لكن يصير ابن طفيل آنذاك المفسر الوحيد لحال الأم، والمتكفل بتصوير ظروفها. يحترق قلب الأم صبابة وخوفاً على ابنها. والقلب والاحتراق يحصل بينهما تنافر؛ إذ الاحتراق حدث يتعلق بالأشياء الممكنة الاحتراق. صحيح أن الإنسان من بين هذه الأشياء، لكن احتراق القلب دون الجسد أمر مستحيل، إلا إذا كان الاحتراق معنوياً، كما هو الشأن في هذه الصورة. إن احتراق قلب الأم وهي ترمي رضيعها له تأويلات عدة؛ فالقلب يحترق خوفاً على فقدان الابن. و يحترق لعجزها عن دفع الأذى عنه. كما أن عجز الزوج عن رعاية الطفل، وإحساس الأم بالذنب تجاه ابنها الذي حصد غلطات أبويه. ما ولد لديها هذا الشعور. ويحترق أكثر لأن الأم هي من ترميه. لذا يكون لفظ الاحتراق أكثر دلالة على حال الأم. الاحتراق دفع الأم إلى الدعاء. والدعاء احتل في الصورة حيزاً كبيراً. نذكر منه على سبيل المثال: «ورزقته في ظلمات الأحشاء». لكن، هل للأحشاء ظلمة؟ الجواب طبعاً غير محدد، لأن الظلمة في أحشاء المرء لا تطرح أصلا في التفكير البشري؛ فما بداخل الإنسان لا نستطيع أن نحكم عليه بالظلام أو بالنور. لكن الأم في هذه الصورة، وعلى نحو غريب، استعارت لفظ الظلام للأحشاء. لعلها تقصد جهلها بحال جنينها، في حين يعلم الله حاله، ويطلع على أمره. وهو في نفس الآن يتكفل برعايته. وحيث كان الله مطلعاً على أمور الجنين، كانت الأم في المقابل لا تستطيع فعل شيء. وتوظيفها الاستعاري الظلام/ظلمة الأحشاء يشير إلى الظلام الذي تعيشه؛ فمنع الأخ الملك من زواجها بحجة عدم توفر الكفؤ، جعلها تتقي شره، وتفكر في إبعاد ابنها عنه. ورمي الابن بالنسبة إلى الأم أفضل بكثير من العيش في كنف ملك ظالم يهوى الظلم. وربط الأم الظلام بالأحشاء تعظيم لله تعالى، وإيمان بقدرته على رزق الابن وحرصه. وهو في نفس الوقت، طلب إلى حرصه مما قد يتعرض له في الحياة وهو بعيد عنها. استئناس اللفظ المجهول بالمعلوم (مثلاً: الاحتراق/القلب) في التوظيف الاستعاري، ليس قانوناً ينطبق على جميع الأمثلة. فإذا كنا قد رأينا، في المثالين السابقين (احتراق- قلب/ ظلمات- الأحشاء) فإن المثال «وأنا قد سلمته إلى لطفك» يفتقر إلى ذلك القانون. ومرد ذلك إلى ارتباط المجهول الاسم (لطفك) بالفعل (سلمته). ونستحضر في هذا المقام الأم باعتبارها من تسلم طفلها إلى لطف الله. إنها تسعى إلى من يحمي ابنها بعدما عجزت هي عن فعل ذلك، ومن قبلها الزوج يقظان . إن فقدان الأم والأب للطف سببه ملك ظالم لا يعرف للطف سبيلاً «وخرجت به في أول الليل في جملة من خدمها وثقاتها إلى ساحل البحر». لكن لماذا لم تحاول الأم مع أخيها الملك؟. قد يكون الخوف، أو هي البصيرة، أو هو التوكل. لا تقدم أمثولة "حي بن يقظان" أي دليل أو جواب يفسر تصرف الأم، سوى تشبت الأم بالله/ اللطيف. فما معنى اللطف؟. يمكن أن نرى فيه رحمة الله ورفقه، وشكلاً من الرضى. إن اللطف الإلهي في هذه الصورة لا يمكن إدراكه إلا ذهنياً. والتسليم بدوره يتخذ صورة ذهنية؛ إذ ينتقل لفظ (التسليم) من طابعه المعلوم إلى المجهول، ذلك أنه جاور لفظ اللطف المجهول. على هذا الأساس، تصبح اللفظتان (سلمته- لطفك) مجهولتين ومجردتين لا يمكن إدراكهما إلا ذهنياً. إذن،لم ترم الأم ابنها من ذات نفسها، بل أُرغمت على فعل ذلك. والصورة الكلية ل"حي بن يقظان" تؤكد ذلك. فضلاً عن أن الاستعارات التي ألقتها الأم بين يدينا، ومن قبلها ابن طفيل تدور حول هذا القول. فتتضمن خوفاً، ورجاءً. وتوسل الأم بالاستعارات له دلالات عدة، أهمها: العجز عن التعبير عما يختلج بداخلها من مشاعر الحزن والخوف. وتنميق الكلام لمتلق/ الله يستطيع تغيير مجريات الأحداث، ومن ثم دفع الأذى عن الابن. كما أن تزيينها للكلام إجلال لعظمة الله وقدرته. وقد يكون الدعاء ظناً منها أن الله غير عالم بحالها. فكانت تنتقي عبارات يملأها الحزن والخوف والرجاء. وتوسل صاحب الصورة/ ابن طفيل بالاستعارات، يعود بالأساس إلى رغبته في إضفاء الحيوية على التمثيل من جهة، وليقدم من جهة أخرى، صورة تسعف على تمثل المعنى المقصود . استئناس الألفاظ المجهولة بالمعلومة في التوظيف الاستعاري واضح جداً في الصورة؛ فالاحتراق مثلاً لفظ مجهول. في حين أن القلب معلوم من قبل الإنسان. واستئناس المجهول بالمعلوم استعارة جامعة بين عالمين، أحدهما ممكن (القلب)، والآخر من غير الممكن (الاحتراق). والاستعارات هذه تعود إلى موقعها الأول من خلال التأويل ، وذلك بالاعتماد على السياق العام للصورة. على هذا الأساس، يصبح اللفظ المستعار (الاحتراق) الوسيط بين المعنى التعبيري والمعنى التصوري. لأن السمة المميزة للاستعارة «طبيعتها اللفظية في مقابل الطبيعة المفهومية للماثلة التي تصنفها البلاغة بين صور الفكر». على أي حال ورغم احتراق قلب الأم، يشاء القدر أن يبعث بالرضيع إلى ساحل جزيرة أخرى. فتودعه باحتراق أكبر. في حين يتهيأ الرضيع للنزول بالجزيرة والاستقرار فيها. بقايا ظبية «فَلَما اشْتَد الجُوعُ بِذَلِكَ الطفْلِ، بَكَى وَاسْتَغَاثَ وَعَالجََ الحَرَكَة، فَوَقَعَ صَوْتُهُ فِي أُذُنِ ظِبْيَةٍ فَقَدَتْ طِلاَلَهَا، خَرَجَ مِنْ كنَاسهِ فَحَملَهُ العُقَابُ، فَلَما سَمِعَتْ الصوْتَ ظَنتْهُ وَلَدَهَا. فَتَتَبعَتْ الصوْتَ وَهِيَ تَتَخَيل طِلالهَا حَتى وَصَلَتْ إِلَى التابُوتِ، فَفَحَصَتْ عَنْهُ بِأَظْلاَفِهَا وَهُوَ يَنُوءُ وَيَئِن مِنُ دَاخِلِهِ، حَتى طَارَ عَنِ التابُوتِ لَوْحٌ مِنْ أَعْلاَهُ. فَحَنَتْ الظبْيَةُ عَلَيْهِ وَرَئَفَتْ بِهِ، وَأَلْقَمَتْهُ حلمَتَهَا وَأَرْوَتْهُ لَبَناً سَائِغاً». تتقاسم الأم الظبية مع أم حي فقدان الولد. غير أن الظبية تجد من ينسيها ألمها، فتكرس حياتها للابن الجديد. واللافت للانتباه أن الظبية الأم عثرت على مولود يختلف عن ابنها المفقود. ليس هذا فحسب، بل يختلف عن جنسها. والغريب أن الظبية تحنو على هذا المولود وتطعمه كما لو كان ابنها. كيف التقت الظبية بحي؟. لحظة وقع صوته في أذن الظبية؛ إذ حسبته ابنها المفقود. تتبعت الصوت وهي تتخيل حال طلالها، وما يكون قد فُعل به أثناء فراقها عنه. بعد لحظات قليلة تسقط تخيلاتها، وتلتطم بأرض الواقع. ويبدو أن الظبية لم تستغرب إذ وجدت طفلا بشرياً كانت قد حسبته ابنها. وما يؤكد ذلك مبادرتها بالانحناء عليه وسقيه من لبنها السائغ. ظبية عجيبة!. ويبدو أن الصوت الذي وقع على سمعها جعلها تتجاوز طبيعتها الحيوانية، وتنتقل من أم حيوانية، لا تسقي أبنائها إلا بفطرة ربانية، إلى أم بشرية تتقبل أي ابن يشبع لديها رغبة الأمومة، حتى وإن كان مختلفاً عن جنسها. ووقع صوت الطفل "حي" على سمعها توظيف استعاري اعتمده ابن طفيل ليشير إلى تعطشها لابنها المفقود. وإحساسها بفراقه الأبدي. لذا فضلت الاحتفاظ بمولود مختلف بدل بقائها وحيدة. والوقع في الصورة لفظ استعاره الكاتب ليبرز تأثير الصوت على الظبية. وهو في نفس الوقت تعليل على الأحداث اللاحقة من: حنو الظبية على حي، وسقيه من لبنها، ورعايته حتى الموت. كما أن لفظ الوقع يفيد معنى شدة الضرب ، وهو معنى يؤكد شدة وقع صوت حي على سمع الظبية. ينبغي للوقع أن يثير لهفة الظبية ويستتير اهتمامها. هذا تماماً ما حصل. وهو فعل بنيت عليه أمثولة "حي بن يقظان" ككل؛ فعطف الظبية، ورعايتها ل"حي" جعله يبقى في الغاب، ويشق طريقه للمعرفة. ويعتبر العُقاب (الخزف) السبب وراء حمل "حي" إلى جزيرة الظبية. وحمل العُقاب للطفل إلى جزيرة دون غيرها إرادة إلهية. ولفظ الحمل الذي يفيد معنى الجبر، أكبر دليل على هذه الإرادة. حمل العُقاب ل "حي" بداية الحياة بالنسبة إليه. لكن لماذا العقاب؟ وكيف ستكون حياة "حي"؟ وهل يمثل العقاب في الصورة شيئاً أراد به ابن طفيل تمثله؟. الجواب عن هذه الأسئلة يختزنها لفظ العُقاب. فالعُقاب خزف يعمل بالطين، ويشوى بالنار ليصير فخاراً . والإشارة إليه، إشارة ضمنية إلى الحياة التي سيقبل عليها "حي". وذلك أن الخزف رمز للحياة البدائية، حياة الغاب. هذا فضلاً عن أن الخزف يُشوى، تماماً كما يُشوى أكل الغاب. ويمثل الغاب بالنسبة إلى "حي" المنفذ الوحيد من ظلم خاله الملك. وهو في نفس الآن، الطريق إلى معرفة الحقيقة. الاهتمام بلفظ العُقاب في الصورة يستحضر تلقائياً لفظ الحمل. وذلك لأن اللفظ الثاني يمثل معنى استعارياً، اعتمده ابن طفيل لغرض محدد. ونحسب أن الغرض واضح؛ فاختيار فعل (حمله) دون سائر الأفعال المرادفة له مقصود، ولن يقوم فعل آخر بتأدية المعنى المراد غيره. وقد أشرنا سابقاً إلى معنى الحمل. والحمل بجانب العُقاب يقدم صورة حول الظروف التي سيقبل عليها "حي". وقد كان لقاء الظبية أولها. يمثل الصوت والعُقاب في الصورة المخرج بالنسبة إلى "حي"؛ فالعقاب أنجاه من خطر الحيوانات البحرية. وخطر البقاء في البحر قد يودي به إلى الغرق وربما الجوع. والصوت الذي أصدره "حي" أنجاه بدوره من الموت جوعاً. لكن، ماذا إذ لم يكن بالغاب ظبية مثل ظبية هذه الصورة؟. قد يطاله الأذى، أو لعله يموت حين إلقائه في اليم. والملاحظ في الصورة أن مخرج "حي" كان من جهة بإرادة منه؛ إذ بكى. والبكاء سلاح الضعيف. وقد لقي لدى الظبية أثراً كبيراً. و كان من جهة أخرى، بإرادة ربانية ألقت بطريقه عقاباً حمله إلى الجزيرة. عالم جديد «[...]فَانْفَتَحَ بَصَرُ قَلْبِهِ وَانْقَدَحَتْ نَارُ خَاطِرِهِ وَتَطَابَقَ عِنْدَهُ المَعْقُولُ وَالمَنْقُول، وَقَربَتْ عَلَيْهِ طُرُقُ التأْوِيلِ» . ينفتح بصر حي بعدما يمر بمراحل عديدة. بدءاً بشق صدر الظبية، ومروراً بالتفكر في الأجسام والأحجام، وصولاً إلى الحقيقة الكونية، حقيقة وجود الله. غير أن البصر الذي انفتح ل"حي" يختلف تماماً عن البصر المعروف بالنظر الجيد. إدراك اللفظتان بصر وقلب في الصورة أمر هين. لكن، عندما يرتبط لفظ البصر بالقلب يختلف الأمر. فيصير المعنى غير واضح. فهل للقلب بصر؟. الجواب طبعاً لا. غير أن للقلب بصراً من نوع آخر. وهو ما يسمى بالبصيرة. وإدراكنا لها يظل في حدود الذهن والتصور. هذا الإدراك يسعف على تمثل مغزى الاستعارة خاصة، والصورة عامة. ما هي البصيرة؟ وما الذي تمثله في الصورة التي بين يدينا؟. البصيرة قوة الإدراك والفطنة، وهي سمات تكوينية أساس في صورة "حي". وهي في نفس الوقت سمات تؤطر السرد في أمثولة "حي بن يقظان". والبحث عنها في الصورة لا يتأتى إلا ذهنياً، لأن لانفتاح بصر القلب معنى استعارياً. البصيرة سمة في أمثولة "حي بن يقظان". تبصر الشخصية الرئيسة (حي) في النهاية طريق الحقيقة، بعدما بحثت عنه طول السرد. وبصيرة "حي" هذه، تدرجت وتطورت منذ موت الظبية. فبصيرته دفعته إلى شق بطن أمه الظبية، ليكتشف سبب موتها. وهي نفسها دفعته إلى إدخال يده في النار، وهكذا.. حتى وصل إلى حقيقة الكون إحساساً منه بوجود شيء ما خفي. لم تكن تختص البصيرة ب"حي" فحسب، وإنما شملت كذلك الأم؛ حينما ألقت ابنها في اليم ببصيرتها السليمة. كما أن البصيرة طالت كذلك الظبية حينما تعاملت مع الطفل "حي" كما لو كان ابنها المفقود. للبصيرة التي ترمي إليها الصورة معنى مجرد. فالبحث عن التجريد في البصيرة بحث عنها من حيث هي وبصورة عامة، دون النظر إلى جوانبها وصفاتها. ومقابل التجريد التشخيص الحسي في الخارج. والبحث عن البصيرة في الصورة يفضي في نهاية المطاف، إلى تقديم صورة ذهنية تصورية؛ وذلك لأن أهم سمة تتسم بها الاستعارة التجريد. وفي البصيرة تجريد من صفاتها الحية والمشخصة، واختزالها في عبارات لا ندرك معناها إلا بالفطرة. البصيرة إذن عند ابن طفيل، تعبير حسي يقدم معنى مجرد ينطلق منذ البداية في الذهن ليصل في نهاية المطاف إلى رسم. وبصيرة "حي" انطلقت من التجارب لتصل إلى الحقيقة. وهي على هذا الأساس هبة ألهمه الله إياها نتيجة كده وتعبه. تمثل البصيرة في "حي بن يقظان" سمة تكوينية، والجامع بين شخوص الأمثولة. لا يرد ذكر بصيرة الأم والظبية في النص الأمثولي، في حين تذكر بصيرة "حي". والواضح أن بصيرة كل من الأم والظبية، تختلف عن بصيرة "حي". وذلك لأن بصيرة "حي" تطورت أكثر بمحاولاته في كشف أسرار الحياة الكونية. فصارت بصيرة باحث يسعى إلى كشف ما وراء الطبيعة. أما بصيرة الأم والظبية، فكانت نابعة أساساً من إحساس الأمومة. يبقى مع ذلك اختلاف واضح؛ فإذا كانت الأم اكتسبت البصيرة من أمومتها، فإن بصيرة "حي" لم تكتسب إلا بالتجارب. وكلما ثابر في كشف الأسرار وإنجازه للتجارب زادت لديه البصيرة. نستطيع القول، أن البصيرة في "حي ابن يقظان" نوعان: بصيرة إلهية، وملكة ربانية اختص الله بها الأمهات دون سائر الناس. وبصيرة اختص بها أصحاب الكد والتعب. وكأني بابن طفيل يقول في أمثولته: إن البصيرة هبة ربانية، لا تعطى إلا لمن تعب في كشف الحقيقة. وهي بصيرة عامة، تصلح في كل الأمور. وقد سماها الله بفراسة المؤمن. أما بصيرة الأم فخاصة لا تستخدم إلا تجاه الأبناء. "حي" ابن حالفه الحظ. ينجى من الملك الظالم، ويحصل على أم بديلة (الظبية)؛ ترعاه وتطعمه. ويحقق في الحياة ما يعجز عن تحقيقه الكثيرون. لكن هل يظل "حي" مخلوقاً بشرياً؟. لائحة المصادروالمراجع
• المصدر: - ابن طفيل، حي بن يقظان، تقديم وتحقيق فاروق سعد، دار الآفاق الجديدة- بيروت، الطبعة الثانية 1978. • المراجع: - ابن منظور، لسان العرب، دار المعارف. - جميل صليبا، المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني- بيروت 1982. - جيلبير دوران، الخيال الرمزي، ترجمة علي المصري، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع- بيروت، الطبعة الثانية 1994. - محمد أنقار، بناء الصورة في الرواية الاستعمارية، صورة المغرب في الرواية الإسبانية-،مكتبة الإدريسي للنشر والتوزيع، تطوان، الطبعة الأولى 1994. - محمد العمري، البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول، أفريقيا الشرق- المغرب 2005. - هيجل، الفن الرمزي الكلاسيكي الرومانسي، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة- بيروت، الطبعة الثانية 1986.