في آخر زيارة لي لمدينة الرباط، وأنا أقف رفقة صديق أمام فكهاني متجول وبعد أن ابتعنا منه كيلوغراما من فاكهة التوت، وقف عنده شاب من سود أفريقيا تبدو عليه علامات التدين ترافقه زوجته المتحجبة وابن لهما صغير لا يتجاوز الأربع سنوات، وإليكم ما دار بين الاثنين: السلام عليكم ……. اشح حال؟ «دوز» درهم يا أخي تكلم بالعربية «اتنا شر» درهم «الآن جئت بالحق» أدهشني الأخ الإفريقي الذي أعطى درسا للمغربي في صون الهوية والاعتزاز بها، وبدا لي المستوى المنحدر الذي وصلنا إليه في التعامل مع لغتنا وذكرني الموقف بما كان يمثله المغرب للإخوة الأفارقة في صون الهوية الإسلامية ونشر تعاليم الإسلام في مجاهل أفريقيا وإيفاد البعثات للتفقيه والتثقيف..بعد هذا المجد المؤثل أضحى بلدنا الحبيب نفسه يبحث عن هوية وتعوزه الجرأة للتخلص من آثار الاستعمار ومخلفاته الثقافية البغيضة،وبعد أن كان المغرب منارة العلم في الغرب الإسلامي ومحج العلماء والطلاب من أفريقيا و أقطار العالم الإسلامي ومنبع الدعوة الإسلامية إلى أفارقة ما وراء الصحراء الكبرى،صار مرتعا خصبا للاستلاب الثقافي ووطنا يبحث عن وطن يريد له كمشه من الفرنكفونيين أن يظل مرتهنا للمستعمر وثقافته وهويته التي لا يحسن أن يعتز بها إلا أبناؤها،يريدون أن يبقى الكائن المغربي دائم الشك في هويته،مستسلما لعقدة الفرنسي وإذا فكر أن يرتقي مجتمعيا فعليه أن يستعير من الفرنسي كل شيء لأن «تمغريبيت»صارت سبة والوطنية أضحت سبة وكل من يربط الاستقلال السياسي بالثقافي شوفيني متعصب،ومن أراد أن يتمسك بعربيته أو أمازيغيته خالصة فقد يخاطر بمستقبله في بلد يعتز بغير هويته. فإذا كانت العربية الفصحى تعاني من ضعف شديد في المغرب وتكالب عليها أشباه المثقفين لضربها وتعويضها بالعامية،فحتى العامية العربية الأصيلة في المغرب شابها الضعف والوهن والتشوهات وأصبحت لا تكاد تفهم من فرط هجنتها،فإذا كنت عربيا تجهل الفرنسية فلا سبيل للتواصل مع متحدثيها وإذا كنت فرنسيا فلن تستطيع فك شفرتها المعقدة،هكذا تجد بعض هؤلاء الجاهلين باللهجة المغربية الأصيلة ممن ألف استخدام «العرنسية» يستعيضون عنها في تواصلهم مع عرب الشرق باستعمال اللهجة اللبنانية أو العامية المصرية..وهما ليستا أقل تعقيدا. وهكذا صرنا نجد، حتى من بني جلدتنا العرب،كثيرا من الازدراء بسبب هذا الرخص الثقافي الذي تبدو عليه غالبيتنا في مواجهة العربي الآخر،بل ونظرة ملؤها الاستصغار والاستخفاف بسبب استعدادنا نحن دائما للتنازل عن هويتنا واستعارة هويات شقيقة أو صديقة للتواصل مع شعوب العالم، لذلك يتحدث التركي التركية في عاصمة أوربية، والإيراني الفارسية في قلب عاصمة أمريكية والمغربي يتكلم اللبنانية في قلب عاصمة عربية!! ولا تظن أن كل هؤلاء جهلة أو أميون لا يتقنون أيا من اللغات الحية. إن الوضع الثقافي في المغرب ينبئ بالكارثة، فإذا استمررنا في سياسة ما يسمى تبادل الثقافات وتلاقح الحضارات الذي هو حقيقته استيراد الثقافات بما أننا نأخذ منهم فقط ولا يأخذون،فلم أسمع يوما عن مهرجان «أحواش» مثلا في إنجلترا بينما نحن نستقبل حتى من ثقافته المغمورة ولا معنى تعنيه،ونزيد فنستقبل شواذهم ومنحرفيهم الذين يفعلون مفعولهم لا محالة في شبابنا الذي تخنث جانب منه وصار«بجاجة..ماهو ديك ماهو دجاجة»،فقد نستيقظ يوما لنجد «كلها يلغي بلغاه»،وهو الحاصل فعلا،في ظل استيراد المسلسلات من الشرق والغرب وقريبا قد نسمع مسلسلا من جزر الواق واق يبث في تلفزتنا،وفي ظل استعمال اللغة الأجنبية لمخاطبة الشعب ومراسلة المواطنين في احترام سرمدي لمبدأ «برق ما تقشع» متمادين في كون اللغة هي أداة مهمة في التنمية التي بواسطتها يمكن للفرد أن يستشعر قيمته ويفخر بانتمائه وتفانيه لرفعة وطن يحس من أعماقه أنه منتم له فلا يخامره شك في ذلك،فلا يظل منزويا ينتظر ما يُفعل به،لأنه لا يجيد لغة الفاعلين بل لغة المفعول بهم فقط. فإذا جلت جولة واحدة ستشعر بالدوار للكم الهائل من اللافتات واللوحات المكتوبة باللغة الأجنبية والتي لا توازي في كثرتها ما كتب باللغة العربية،فحتى هذه إن حضرت إلا وتجد بجانبها ترجمتها بالفرنسية!مثلما هو الحال في التلفزيون الذي يترجم كتابةًًَََ الأفلام المغربية بالفرنسية ولا يكلف نفسه ترجمة الأفلام الناطقة بالفرنسية إلى العربية، وهو إكراه ثقافي لم يعد أحد يتحمله، بل وحتى مشاريع البرنامج الوطني للطرق القروية مثلا،تجد أغلب لوحاته مكتوبة بالفرنسية وفي أحسن الحالات تزاحم الفرنسية العربية في زواج غير شرعي يضر عين القارئ ولا يغري بقراءتها،وهي مشاريع من البديهي أنها لا تهم «جاك»ولا«كاترين» ولكن تهم محمد وفاطمة. وبعد أن صرنا نكابد ما نكابد من حملات تنصيرية وصهيونية وماسو نية وشذوذية وشيطانية.. وأمازيغية متعصبة تريد العودة بنا إلى الجاهلية الأولى..وما خفي كان أعظم، سيصير المغرب مرتعا للأقليات المذهبية والدينية واللغوية وبعد أن كنا نكافح من أجل الوحدة الترابية سنصبح في خندق آخر للدفاع ضد الطائفية، وإذا وصلنا يوما إلى هذا الموصل لا قدر الله فسيكون ذلك نتيجة حتمية لما نعيشه اليوم من تشظ ثقافي ولغوي يخدم المستعمر القديم ويضرب في العمق كرامة شعب عرف طيلة وجوده العزة والحرية وكان يصدر العلماء والصلحاء فصار يصدر البغايا..شعب سالت دماء أبنائه حتى لا يسمعوا الرطانة الباريسية فوق أرضهم،ليأتي حفنة من التائهين وفاقدي الهوية ليفرضوا على أحفادهم استعمارا أخبث وأفحش ويمرغوا سمعة المغرب وتاريخه المجيد في الوحل،فيجترأ علينا بذلك ذباب البراز الذي لا يحط إلا على العفن والوسخ وغاية وجوده أن يعتاش على القاذورات، وهنا أقصد ما بثته تلفزيونات الجناح الشرقي مما كنا نظن يوما أنه الوطن العربي.