عن طريق اللغة نعرف من نحن، وإلى أين نسير، لأن لها دورا مهما في تكوين المفاهيم والمدركات الكلية، هي ناقل التقانة التي ترسم الطريق إلى مجتمع المعرفة الذي يمر حتميا عبر قناة اللغة يوضح الأستاذ محمد الحناش، أستاذ اللسانيات بجامعة سيدي محمد بن عبد الله، أن التوسع الجغرافي للأمازيغ يعد عامل تشرذم للسان الأمازيغي أكثر مما يعد عامل تجميع، مما أدى إلى وجود أمازيغيات وليس إلى أمازيغية واحدة، وهو ما يفرض على الباحث المتمحص أخذ المسألة اللغوية في المغرب في كافة أبعادها التاريخية والحضارية الحقيقية بدون تزيدات أومزايدات. وأضاف أن المسألة اللغوية كما أنها قد تكون عامل توحيد، فإنها قد تكون أيضا عامل تفرقة، وبالاحتكام إلى تجارب الأمم الأخرى التي فرقتها اللغة، وجعلت منها أمما وشعوبا تكاد تكون غير متعارفة، فنحن مجبرون على الانطلاق من الوحدة اللغوية التي تجمعنا في الفكر والهوية والمصير المشترك، وينبغي التركيز على لغة واحدة حتى نيسر الانخراط بتكاليف معقولة في مجتمع المعرفة.. ما الدلالات التي يكتسيها الآن موضوع دسترة اللغات في سياق النقاش حول الإصلاح الدستوري ضمن المشروع الإصلاحي العام في المغرب ؟ لقد دفعت الظرفية السياسية والحراك الذي تعرفه الساحة العربية المغرب، إلى التركيز على القضايا الكبرى التي تمس جوهر هويته ووطنيته التي بنتها أجياله على امتداد الحقب والأزمنة، على اعتبار أن المسألة اللغوية تمثل معيار التلاحم الشعبي الذي أصبح الحفاظ عليه أمرا مقدسا يجب حمايته بنص الدستور لمواجهة الإكراهات التي تمارس على الدول، خاصة منها تلك التي تتشعب هوياتها والتي تعد مصدر ثرائها وغناها الحضاري والثقافي مثل المغرب، حيث تظهر بين الفينة والأخرى أصوات نشاز تهدف إلى فك اللحمة الشعبية وتفتيت هذا التناغم الاجتماعي والثقافي الذي ينصهر في بوتقة واحدة اسمها: المغرب بكل مكوناته الثقافية والحضارية المتعددة. وكتوطئة لدلالة طرح المسألة اللغوية اليوم، يمكن الاستعانة ببعض العوامل التاريخية للمغرب المتنوع الثقافات والهوية : عرف المغرب أنماطا متعددة من الحضارات متنوعة المشارب والاتجاهات قبل الفتح العربي - الإسلامي، مثل الفينيقيين والرومان قديما، كما عرف حضارات غير قابلة للتصنيف المعياري للحضارات، كل حضارة مرت من هنا تركت أثرها البين على الواقع المغربي ما زالت بصماتها بينة إلى اليوم، وما هذه الآثار الدارسة المتناثرة على أرضه إلا دليل على غناه التاريخي والحضاري، كما أن سهولة تمكن المغاربة اليوم من أكثر من لغة غير لغتهم الأم دليل على استفادتهم من التجارب الحضارية التي مرت ببلدهم، فكلما كانت تحل حضارة بهذا البلد إلا وكانت تترك لها اثرا بينا على المسارين الفكري واللغوي للمغاربة، فمنذ القدم تكلم المغاربة الرومانية والإغريقية اللتين كانتا بمثابة لغتين رسميتين تكلم بهما حكام هذه الأرض قديما، مثل جوبا الثاني، وهو رجل أصيل من المغرب القديم (ق 1 ق.م ? ق1 م)، حيث لم يكن يستخدم أي لسان رسمي آخر غير اليونانية والقرطاجية، ولم يثبت في التاريخ أن هذا الرجل استخدم لسانه الأصلي، أي ال»البربرية» كما تجمع المصادر الإسلامية على تسميتها. قبله جاء الرحالة حنون (ق5 ق.م) وكان يصطحب معه أكثر من مترجم واحد إلى القبائل الأمازيغية، التي لم تكن على لسان واحد وما زالت كذلك إلى اليوم (ثلاث لغات أساسية إضافة إلى نحو 65 تنويعا لهجيا). الفتح الإسلامي سهل على الأمازيغ حماية حاملي الدين الإسلامي الذي جاءهم بلسان عربي مبين، تجدر الإشارة إلى أن الأمازيغ ينتشرون في أكثر من منطقة في شمال إفريقيا الشاسعة، التي تمتد من بلاد السودان شرقا إلى المغرب الأقصى فموريتانيا غربا، مرورا بليبيا وتونس والجزائر، وجنوب الصحراء الكبرى جنوبا، وهو ما يعكسه التشرذم اللساني الذي تعرفه الأمازيغية اليوم، والذي يصعب جمعه تحت نظام لساني موحد يمكن الخلوص منه إلى مبنى لساني أمازيغي قار. استمرت العربية في نسقها اللساني القديم باستثناء بعض التفريعات الصواتية التي تدخل في باب المغايرة اللسانية ذات الأصل المعجمي الواحد، ومن ضمنها الحسانية التي تعد أقرب إلى الفصحى منها إلى اللهجة، حسب التوصيف اللساني المعياري للفصحى. هذا التطور التاريخي اللغوي الذي عرفه المغرب يفرض على الباحث المتمحص أخذ المسألة اللغوية في المغرب في كافة أبعادها التاريخية والحضارية الحقيقية بدون تزيدات أومزايدات من قبيل تلك التي يستند إليها «نداء تاموزغا» الذي أراه مليئا المليء بالأحكام الجاهزة غير العلمية وغير الموضوعية. يجب علينا أخذ العبر من التاريخ لنخطو خطوات جريئة إلى الأمام، دون إغفال الهوية الأمازيغية التي أجمع المجتمع المدني ممثلا في الأحزاب السياسية ذات المشروعية الشعبية والتاريخية على تصنيفها لغة وطنية إلى جانب لغة الضاد اللغة العربية بوصفها لغة رسمية. وهذا سيجعلنا نقف صفا واحدا في مواجهة دعاة الفرنسة التي تعد لغة غير رسمية في الدستور، ولكنها لغة اكثر من رسمية في الواقع العملي، ودعاة اللهجات الذين يخفون وراء قصدهم كل ما يؤدي إلى تشرذم المجتمع المغربي بكل مكوناته. وللزيادة في توضيح دور اللغة في توحيد الشعوب عامة، والشعب المغربي خاصة أقول إن اللغة العربية، كانت وما زالت لغة المغاربة قاطبة، بمن فيهم من يتكلمون الأمازيغية، هي حامل المعرفة وناقلها، وهي الميزان الذي تقاس به درجة الهوية الوطنية للشعب المغربي، ولها دور حيوي في النمو الثقافي والتقدم العلمي، كما أن لها دورا مهما في صيانة هوية الأمة والمحافظة عليها، واستيعاب تراثها الثقافي، وتحديد وجهتها الحضارية، وبناء قاعدتها المشتركة ونسيجها الذهني المتجانس. انه عن طريق اللغة نعرف من نحن، وإلى أين نسير، لأن لها دورا مهما في تكوين المفاهيم والمدركات الكلية، هي ناقل التقانة التي ترسم الطريق إلى مجتمع المعرفة الذي يمر حتميا عبر قناة اللغة، وليس له معبر آخر سواه. بدون توظيف اللغة العربية الرسمية لن يتمكن المغرب من الإفصاح عن قدراته المعرفية، والانخراط في محيطه العربي، ولن يتمكن من خلق شروط الحوار الحضاري مع العالم، ولن يتمكن المغرب هنا والآن من تحقيق ذلك بلغة مازالت في بداية طريق المعيرة، أو بلسان أجنبي لا يمثل طموح شعبه، هذا على الرغم من أن المشهد اللغوي المغربي المعاصر يتميز بالانفتاح على لغات العالم المتحضر، في مقدمتها الفرنسية، تليها الإنجليزية التي أصبحت تنتشر بين طبقة المثقفين. يبدو من خلال النقاش الوطني الدائر حول دسترة الأمازيغية أن هناك نوعا من التوتر بين مطلب ترسيم الأمازيغية ومطلب الاكتفاء بوطننتها في المرحلة الراهنة. كيف تنظرون إلى هذا الإشكال ؟ لنقل أولا أن الأمازيغية لسان موجود في المغرب منذ القدم، لكنه لم يكن يوما لسانا رسميا كما أسلفت في الإجابة عن السؤال الأول، وحتى في العصور الخوالي كانت اليونانية والرومانية هما اللغتنان الرسميتان في المغرب، هذا على الرغم من وجود الأمازيغية آنذاك، لكنها كانت موزعة على رقعة جغرافية تشغل مساحات شاسعة في شمال إفريقيا، وهذا التوسع الجغرافي يعد عامل تشرذم هذا اللسان أكثر مما يعد عامل تجميع، مما أدى إلى وجود أمازيغيات وليس إلى أمازيغية واحدة، ولنفرض جدلا أننا نريد إعطاء صيغة دستورية معينة للأمازيغية، فمع أي منها سيكون التعاطي ؟ ثم إن الأمازيغية تنتشر جغرافيا من السودان إلى المغرب، مرورا بليبيا وتونس ومصر، وأي حديث عن ترسيم هذا اللسان سيؤدي إلى اشكالات لا حصر لها بين شعوب هذه المناطق، وقد نسقط في الفخ الذي أراده الاستعمار لهذه الشعوب التي ناضلت من أجل استقلالها ووحدتها وجسدتها في ترسيم اللغة العربية دون سواها. من المفروض أن يعي الجميع أن المسألة اللغوية كما أنها قد تكون عامل توحيد، فإنها قد تكون أيضا عامل تفرقة، وبالاحتكام إلى تجارب الأمم الأخرى التي فرقتها اللغة، وجعلت منها أمما وشعوبا تكاد تكون غير متعارفة، فنحن مجبرون على الانطلاق من الوحدة اللغوية التي تجمعنا في الفكر والهوية والمصير المشترك، وينبغي التركيز على لغة واحدة حتى نيسر الانخراط بتكاليف معقولة في مجتمع المعرفة. نعم، نحن نقر بوجود الأمازيغية، على الرغم من تشتتها اللساني غير المبرمج، ولا أحد من المغاربة يجادل في وجودها، ولكن جميع من يتكلمون هذا اللسان، يستخدمون العربية الوظيفية بوصفها لغتهم الرسمية في المجتمع، باستثناء القلة القليلة من المغاربة التي تجد نفسها غير قادرة على التعبير بلغة الضاد، وهذه نتيجة تتحملها الجهات الرسمية في الدولة التي قصرت في نشر التعليم في بعض المناطق النائية، خاصة على مستوى تفعيل برنامج محو الأمية. أما الأغلبية الساحقة فتتقن العربية، بمن فيهم المثقفين ذوي الأصول الامازيغية الذين إذا استمعت إليهم يتكلمون ويحاضرون بها تخالهم من القرون الخوالي تشتم من كلامهم رائحة صحراء عبس وداحس والغبراء، يتكلمون هذه اللغة بطلاقة قد يعز نظيرها لدى الكثيرين من الذين لا يتكلمون غير العربية. خلاصة القول، إن العربية هي لغة الشعب المغربي بوصفها اللغة الرسمية التي يبني بها أطفالنا أحلامهم في البيت والمدرسة، وتشرذم هذا اللسان إلى فسيفساء لهجي غير ممعير لسانيا، يدل على أن المسألة، من الناحية العلمية يجب ألا تدعو إلى أي توتر، وأعتقد أن من يتناول الموضوع بطريقة غير هادئة عندما يقال له بأن الأمازيغية لا يمكن أن تكون لغة رسمية، على الأقل في الظرف الحالي، في الدستور المغربي، فإنه ينطلق من أسس يختلط فيها المعطى اللغوي الثقافي بالمعطى الاثني، علما أن مفهوم الإثنية لا يستقيم في مغرب اليوم من الناحية الأنتربولوجية. من هذا المنطلق أرى أن موقف الذين يواجهون موضوع عدم ترسيم الأمازيغية في الدستور المغربي المقبل،بالانفعال الذي نقرأه في بياناتهم، آخرها نداء تاموزغا المنشور في أبريل 2010، لا يمكن وصفه إلا بنوع من التطرف إن على صعيد اللغة أو على صعيد الهوية. إن الإقرار بوجود الأمازيغية بوصفها لغة وطنية، لا جدال فيه، وأصحاب الدعوة التي وردت في النداء المشار إليه سابقا، يخلطون بين المسألة اللغوية والمسألة الإثنية، ويحملون التاريخ والجغرافيا أمورا لا يتحملانها من جميع الجوانب، كما أن توجيه اللوم للمغاربة على موقف لم يتبنوه فيه تجاوز للحدود المعقولة في التعاطي مع المسألة. أدعو إلى مناقشة مسألة الأمازيغية التي لم يتمكن المختصون فيها من تقديم أرقام معقولة عن عدد لهجاتها إلى اليوم، إلى التريث في اتخاذ المواقف، وإلى تقديم بيانات صحيحية تاريخيا وجغرافيا قبل الشروع في الدفاع عن مقصودهم علميا، لأن الدفاع العلمي هو الذي سيقنع المغاربة، وليس التشنج الذي لن يصب إلا في مصلحة وأجندة من يريد للمغرب أن ينزلق إلى متاهة الإثنيات ليتدخل كمنقد ومصلح بين الفرقاء الذين لا يوجد بينهم أي خلاف من أي نوع كان، لا نريد لأمتنا أن تسقط في نداء مضاد لنداء تاموزغا يحرف الحقائق ويدعو إلى الكراهية بين مكونات الشعب الواحد المعروف بتعدد هويته وتعاونه على جميع الصعد. يخشى العديد من الملاحظين من نوع من اختلاط الأوراق في موضوع دسترة اللغة عامة من أن تقع انزلاقات تنطلق من المستوى اللغوي إلى نوع من الخطاب الممجد للإرث الإثني، حيث يتحول المطلب اللغوي إلى طرح إيديولوجي لمسألة الهوية. نريد أن نعرف موقفكم لنميز الحقائق الموضوعية من التمثلات المؤدلجة perceptions idiologisées ؟ لقد عبر الكثير من الباحثين في المغرب، بمن فيهم أصحاب اللسان الأمازيغي، عن تخوفهم من خروج الأمور عن السيطرة، تبدأ بقضايا لغوية، وتنتهي بتأجيج الحساسيات. فقد سمعت بعض دعاة رسمنة الأمازيغية يقول: إذا لم ترسم الأمازيغية في الدستور القادم، فإن الشعب المغربي سيحتج على ذلك. أنا أستغرب من هذا الموقف غير المنطقي، لم نسمع عن شعب تعامل مع المسألة اللغوية بمثل هذه المواقف التحريضية التي من شأنها، إن حدثت، أن تؤدي إلى نوع من التشرذم، المغاربة شعب واحد، انصهر عبر التاريخ في حضارة واحدة، وثقافة واحدة، ولم يعد يفرق بيننا شيء، كلنا ناضلنا ضد الاستعمار، وها نحن أولاء نناضل ضد الفقر والجهل، ونسعى جميعا إلى تحقيق طموحاتنا المستقبلية مستهدفين الرخاء والاستقرار لهذا البلد العريق في حضاراته وثقافاته، ولعله البلد الوحيد في العالم الذي انصهرت فيه كل الإثنيات وانمحت، ولم يعد فيه إلا شعب واحد يدافع عن مصير مشترك واحد. إن رسمنة لغة واحدة تجمع بين مختلف مكونات الشعب مع تعدد لغاته الوطنية، أمر معروف في العالم، هناك دول لديها لغة رسمية واحدة، لكن شعبها يتكلم عدة لغات، والمثال القريب منا هو إسبانيا التي توجد بها لغات كثيرة، هناك الباسكية، والكاتالونية، تتعايشان جنبا إلى جنب مع اللغة الإسبانية التي تعد اللغة الرسمية للدولة، وهذه اللغة لم تمنع كل منطقة من استخدام لهجتها المحلية في التعامل اليومي في المنطقة التي ينتمون إليها. ونحن في المغرب، لا أحد من المغاربة يدعي أنه ينتمي إلى إثنية عربية خالصة أو إثنية أمازيغية خالصة، فقد اختلطت الأنساب وأصبحنا كلنا مغاربة، والمغرب عرف عبر التاريخ بأنه ملتقى الحضارات والثقافات المتنوعة، عرف الرومانية والإغريقية والأمازيغية والعبرية والحسانية والمورسكية، وغيرها من الحضارات، ولم نسمع يوما عن مغربي أنه قال أنا أمازيغي أنتمي إلى الإثنية الأمازيغية، كما يحاول أن يوهمنا نداء تاموزغا المشار إليه سابقا، وكما لم نسمع يوما مغربيا يصرح بأنه ينتمي إلى الإثنية العربية الخالصة. إننا مقبلون على مرحلة تتطلب توحيد المجهودات لبناء مجتمع المعرفة، وهذا لا يبنى بلهجات متفرقة، بل يبنى بلغة وظيفية واحدة، لنتوقف عن الدخول في عراك قد يؤدي المغاربة أكثر مما ينفعهم. نحن ننتمي جميعا إلى الثقافة والحضارة المغربية المتعدد الهويات، لدينا العربية بمختلف لهجاتها، كما لدينا الأمازيغية بمختلف لهجاتها، وعلينا أن نتجاوز الخلاف وننظر إلى المستقبل. يبدو من خلال النقاش العام الدائر أن مسألة الجاهزية تأخذ حيزا كبيرا في السجال،الذي يؤطر المواقف حينما يتعلق الأمر بترسيم الأمازيغية. ما رأيكم في موضوع الجاهزية ؟ إذا قارنا وضع اللغة العربية من الناحية الوظيفية بواقع الأمازيغية في المجتمع المغربي، سنجد أن ما تحقق في اللغة العربية أصبح يضاهي ما وصلت إليه لغات الامم المتقدمة، فقد دخلت عصر الرقمنة من بابه الواسع، خاصة صناعة المحتوى الرقمي العربية، إن نسبة مستخدمي الشابكة قد تضاعف آلاف المرات خلال أقل من عشر سنوات، كما أنها اللغة التي تنقل بها جميع العلوم في المغرب وخارجه، وهي ضمن اللغات المستخدمة في المراكز المالية العالمية. كل هذا جعل منها سلعة مركبة يطلبها أكثر من ملياري شخص حول العالم. كما أن المغاربة تفوقوا على غيرهم في تحليل بنية اللغة العربية، مما جعل نظرياتهم تدرس في أكبر الجامعات العربية والعالمية، حيث دخلت معترك الترجمة الآلية مع جميع لغات العالم، والمتتبع لتطور الدراسات الرقمية سيجد أمامه العربية لغة جاهزة للمكننة والتعامل الدولي وتطوير برامج حاسوبية قابلة للاستغلال الفوري جنبا إلى جنب مع اللغات العالمية، خاصة تلك المعتمدة في الأممالمتحدة. أضيف إلى هذا أن العربية تعد من الناحية الرقمية أم اللغات العالمية جميعها، كونها تقوم على نظام خوارزمي سمح لها أن تكون أول لغة قابلة للبرمجة الرقمية على كافة مستوياتها، وأكتفي هنا بالإشارة إلى برنامج الترجمة الصوتية على الهاتف الذي تشتغل عليه كبريات الشركات العالمية اليوم، حيث اتخذت العربية أرضية رقمية لوضع برنامجها العملي الذي تنقل عبره جميع اللغات العالمية. وقد أنفقت هذه الشركات ملايير الدولارات لبناء هذا البرنامج الذي سيرى النور قريبا. لن أطيل في التحدث عن جاهزية العربية من الناحية الرقمية، فقد حققت هذه اللغة ما لم تتمكن لغات كثيرة من تحقيقه في الانتشار الوظيفي في العالم، هاهي ذي تعلم في جميع دول المعمور، وهناك أكثر من مائة ألف مركز في العالم تعلم فيها العربية، وهي الآن تقف على قدم وساق مع اللغات العالمية فيما يتعلق بالمحتوى الرقمي، الذي يعد معيارا لتصنيف اللغات المؤسسة للحضارات الرقمية المستقبلية. هنا أطرح سؤالا: هل الأمازيغية جاهزة الآن بالقدر الذي هي عليه لغة الضاد، سواء في المغرب أو خارجه ؟ لست في حاجة إلى الإجابة عن هذا السؤال، واترك الجواب حول هذا السؤال ? والذي أتمنى أن يكون موضوعيا- لدعاة ترسيم الامازيغية. ولنعد الآن إلى الأمازيغية قليلا، أعتقد أن تبني حرف تيفيناغ بدل اعتماد الحرف العربي، أو اللاتيني، قد يحكم عليها بالتراجع إلى الوراء، فهذا الحرف الذي يعد سليل الهيروغليفية لغة الفراعنة لا يختلف عن حرف «تمرشاك» الذي اعتمده شعب الطوارق في جنوب الصحراء، إلا أن هذا الحرف الأخير أوضح من تيفيناغ وأكثر قابلية للقراءة. إن تيفيناغ سيدفع الأمازيغية إلى الانغلاق على نفسها، إن لم يكن أحد اسباب ضعفها على الأقل في المغرب. وقد كان في الإمكان تسهيل مأمورية تعلم الأمازيغية على المغاربة لو أنها كانت كتبت بالحرف العربي، أو على الأقل بالحرف اللاتيني، لأن لهم دربة طبيعية مع الأول ومكتسبة مع الثاني، تماما كما فعل الباكستانيون الذين يكتبون لغة الأوردو بالحرف العربي، والإيرانيون الذين يكتبون فارسيتهم بالحرف العربي، والأتراك الذين يكتبون لغتهم بالحرف اللاتيني. إن اعتماد تيفيناغ في كتابة الأمازيغية سيكون أحد أسباب عزلتها، كما أنه سيكون أحد الأسباب الرئيسة لعدم إقبال غير المتكلمين بها على تعلمها. دعونا الآن نتناول الموضوع من الناحية الاقتصادية الصرفة، لقد استثمر المغرب على مدى أجيال متعاقبة أموالا طائلة في تجهيز لغته الرسمية، وهذا لم يمنعه من الإنفاق على الثقافة الأمازيغية بوصفها أحد مكونات المجتمع المغربي، فهل بوسع دافع الضرائب المغربي تحمل نفقات إضافية على تكريس تبفيناغ بوصفه أداة لكتابة الأمازيغية، خاصة وأن حرف تيفيناغ لا يتناسب مع أي لغة تنقل بها المعارف في العالم، كما أنها لم تصبح بعد «لسانا» موحدا قابلا للمعيرة بمفهوم الرقمنة الذي أصبح يعد المعيار العالمي لقياس كفاءات اللغات في العالم. هل المغرب مستعد أن يدخل في متاهات أدلجة المسألة اللغوية بالشكل الذي تبرز به في نداء تاموزغا ويخرج بها إلى متاهات الإثنيات غير الموجودة أصلا في بلدنا ؟ بناء على ما سبق عن جاهزية العربية للرسمنة، فإننا نطالب ليس فقط بترسيم العربية، فهي لغة رسمية بقوة الإرادة الشعبية وبالتاريخ، ولكن بإحداث المجلس الأعلى للمحتوى الرقمي للغة الضاد، من أجل الزيادة في تلقين المعارف بها، والرقي بها إلى مستوى اللغات العالمية، وبهذا سنتمكن من التغلب على الفرنسة التي تزاحما في عقر دارنا، على أيدي بقايا المد التبعي الذي يزايد بمقولة ترسيم الأمازيغية ليجد متسعا من المناورة والمساومة على الهوية الوطنية، بحجة أن الفرنسية لغة العلوم. هل لكم باعتباركم خبيرا في المجال اللساني ولكم اطلاع واسع على تجارب دول كثيرة متعددة اللغات أن تعطونا صورة عن الإشكال الذي تعرفه البلدان الأخرى في مجال الدسترة اللغوية ؟ أستهل الإجابة عن هذا السؤال بسؤال آخر, كم عدد اللغات دون اللهجات المعروفة في العالم ؟ إذا صدقنا علماء الأنتربولوجيا فإنه يتجاوز سبع آلاف لغة، فإذا قسم هذا العدد على عدد الدول الأعضاء في الأممالمتحدة، سيكون حظ كل دولة ومن ضمنها المغرب 40 لغة، بالتمام والكمال، فهل هذه اللغات كلها مرسمة في الدساتير ؟ من الأكيد أن الجواب سيكون بالنفي، ولذلك فإن كل دولة ترسم اللغة الوظيفية وليس اللغة التي تنتمي إلى إثنيات محددة أو شرائح اجتماعية معينة، فكثير من الدول الإفريقية لديها أكثر من خمسين لهجة منتشرة في أرجائها ولكنها ترسم لغة أجنبية، الإنجليزية في الدول التي خضعت للاستعار الإنجليزي، والفرنسية في الدول التي خضعت للاستعمار الفرنسي، وهكذا، ومع هذا لم نجد هذه الشعوب تطالب بترسيم لهجاتها المحلية، لأنها تعرف أنها ليست لغات نقل المعارف إلى شعوبها كما هو حال اللغة العربية في العالم العربي وفي المغرب خاصة. ولدينا أمثلة كثيرة في دول المشرق، حيث إن أغلبية ساكنتها، بالنظر إلى تركيبتها السكانية المختلطة قوميا، تتكلم وتتعامل فيما بينها بلغاتها الأم، ولكن العربية هي اللغة الرسمية في جميع دساتيرها الرسمية، شعورا من هذه الدول أن هذه اللغة هي التي تؤكد الانتماء إلى هويتها وحضارتها وتاريخها وثقافتها ماضيا وحاضرا ومستقبلا ، ولدينا العديد من التجارب في العالم العربي التي رسمت فيها لغة واحدة فقط على الرغم من وجود أكثر من لهجة متداولة في بين شعوبها، أعطي هنا نموذج سلطنة عمان التي تتعايش فيها الجبالية والحرسوسية والشحية وغيرها من اللهجات التي تقترب إلى الأمازيغية أو هي نسغ منها مع اللغة العربية، وكان في إمكان الناطقين بهذه اللغات وهم يمثلون نسبة كبيرة من ساكنة هذا البلد أن يطالبوا بترسيمها، إلا أنهم حفاظا على تماسك الكيان الوطني اتخذوا العربية لغة رسمية دون سواها، وعيا من هذا الشعب أن العربية هي التي تنقل بها المعارف إلى أبنائه، فضلا عن أنها تحتفظ بانتمائئه إلى امتداده وعمقه العربي. وبالمقابل لدينا نموذج الدول التي رسمت لغتين، مثل كندا، وأعتقد أن هذا الترسيم المزدوج صار مصدر مشاكل متنامية في هذه الدولة المتقدمة تنذر باحتكاك هوياتي، ينبه العديد من الملاحظين إلى تبعاته السلبية بما فيها التأثير على الدور العالمي لهذا البلد. ليست الغاية من ترسيم لغة هو إثبات الذات من الناحية الإثنية، بل الغرض هو ترسيم اللغة التي تفتح آفاقا للشعوب في التعامل مع العالم، والمغرب من الدول القليلة التي يتقن ابناؤها أكثر من لغة أجنبية، وتتعايش فيه أكثر من لهجة، من اللهجات العربية إلى التنوع الأمازيغي إلى العبري، فالحساني، إلا أن مسألة الترسيم يجب أن يخص في الوضع الراهن العربية التي تجمع بين كافة مكونات الشعب المغربي على المستوى الوظيفي. لنفكر إذن في مستقبل الهوية المغربية المتعددة المشارب دون انفعال. إن نداء تاموزغا يخرج -فيما يبدو لي- بالمسألة اللغوية من إطارها اللساني الثقافي لينزلق بها بقصد أو بدون قصد إلى متاهات الهوية المنغلقة. لقد استوعب المغرب تاريخيا لجميع التنوعات الثقافية، ولم نسمع يوما نداء «تعروبيا» مضادا للأمازيغية، لأن المغاربة يتعتبرون كيانهم وهويتهم قائمتان على التعدد اللغوي، والحضاري والثقافي. علما بأن وظائف أساسية ومهام رائدة تنتظر المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية وأكاديمية محمد السادس للغة العربية لدعم هذا التعدد اللغوي والحضاري اللصيق بالشخصية المغربية المتعددة. نحن ننتظر أن تكرس الدولة جهودها للزيادة في الإنفاق على تطوير تعلم اللغات خاصة وان المغاربة يتميزون عن غيرهم بقابليتهم الاستثنائية لتعلم اللغات العالمية، وتفاعلهم الحضاري مع جميع الأمم في العالم، فأينما وليت وجهك في العالم، وجدت مغاربة يسهمون في بناء المعرفة في أكبر المراكز العالمية، ولم نسمع يوما مغربيا واحدا يقول إنه يرفض تعلم لغته الرسمية، ننتظر من المجتمع المدني الدفع في اتجاه توحيد الجهود عن طريق دعم الإبقاء على الهوية المغربية التي تقوم على التعدد المتناغم والاختلاف المتكامل.