في هذا الحوار الشبابي الخفيف، نحاول أن ندخل مع المعتقل السابق بالسجن الأسطوري “تازمامارت” إلى عوالم جديدة ونتطرق إلى مواضيع غير تلك التي ملأت الشاشات، نحاول أن نكون أوفياء لتوجهنا الشبابي، نبحث في سيرة هذا الرجل الذي قضى زهرة شبابه في غياهب سجن تازممارت، ونجتهد في أن تستنبط الأجيال الحالية والقادمة العبرة من سيرة هذا الرجل، فكان هذا الحوار الذي نتمنى أن يكون عند حسن ظنكم وأن يشكل إضافة نوعية في مجال العالم التدويني الإلكتروني وهذه هي الحلقة الأولى بعد أن أدخل عليها صاحب الحوار بعض لمساته وأضاف إليها بعض المعطيات التي لم تحضره أثناء حوارنا معه. حاوره من مدينة سلا: عمار الخلفي – نبراس الشباب ما هو الهدف من الظهور الإعلامي لشخصكم، ولماذا قمتم بتعرية الحقبة التي عرفتم فيها كل ذلك التعذيب؟ حالة الرضى والتجاوب الكبير الذي حفني به إخواني المغاربة المتعطشون لمعرفة فترة مغيبة من ماضيهم، ففئة كبيرة من المجتمع المغربي لاتكاد تعرف عن هذه الفنرة إلا أشياء سطحية ما صرحت به لوسائل الإعلام لم يكن أبدا بنية الإساءة إلى وطني، وإنما العكس، فمن المعلوم أن الدول العريقة في الديمقراطية كانت لديها حقب مظلمة جدا، ونحن لا نشكل شذوذا عن القاعدة. الدولة تشبه كائنا بشريا قد يخطئ مرة ويصيب أخرى، ولا توجد عبر حقب التاريخ جميعها دولة واحدة اتسمت بالفضيلة المطلقة ولم تقترف جرما في حق أبنائها وأبناء غيرها. فبالأمس القريب، رأيننا ما فعلته ألمانيا النازية، وروسيا الستالينية وإيطاليا الموسولنية وفرنسا الجزائرية... والفرق بيننا وبينهم هو أنهم لا يخجلون من ماضيهم، يدونونه كما هو، بسلبياته وإيجابياته، ويدرسونه لأبنائهم، ويناقشونه مناقشات مستفيضة، ويستلهمون منه القصص والمسرحيات والروايات، وينتجون حوله الأفلام الوثائقية وغيرها. والهدف من ذلك كله هو مراكمة التجارب واستخلاص العبر كي يتكرر ما هو حسن ولا يتكرر ما هو سيئ. أما نحن، فنميل عادة إلى ثقافة المدح والإطراء، من قبيل “العام زين”، وهذا ينعكس سلبا على حاضرنا ومستقبلنا، لأنه يربي فينا أجيالا لا تتأمل ولا تفكر ولا تنتقد أبدا، وإنما تداري وتساير خوفا من سوء المصير... ورغم أني في شهادتي حرصت جهد المستطاع أن أقدم الأحداث كما مرت، أو بالأحرى، كما اعتقدت أنها مرت، فأنا لم أسع إلى جرح الناس والنيل من أعراضهم إيمانا مني بأن من أذنب أو أساء فعليه وزره، ولكن أسرته لا ينبغي أن تتابع بهذا الوزر، إذ لا يسوغ لوازرة أن تزر وزر أخرى... وقد التقيت مرات عديدة بعائلات كان لها في الماضي نفوذ كبير وتورط بعض أفرادها في تجاوزات كبيرة، فشكرتني على حفظ كرامتها وعدم التشهير بها، فلا يعقل إذن أن يعاقب الأبناء بما فعله أبوهم، والعكس صحيح طبعا... كيف عشت الفترة الشباب؟ هي فترة جد قصيرة، أي23 سنة فقط، وبعدها عشت في ثلاجة كسردين بقي معلبا إلى أن فتحوا عليه ” الطاسة”... كنت شابا مرحا أقبل على الحياة بحب ونهم، ومن كانوا معي في الأكاديمية يعرفون الكثير عن “تشيطين ديالي”...فقد كنت أقلد أساتذتي إلى حد الإبداع، وأسعى دائما إلى المزاح والنكتة، ولكني بجانب هذا كنت أطالع كثيرا بالعربية والفرنسية، وكنت أحلم أن أكون صحفيا أو أديبا، ولكن الرياح جرت بما لا يشتهيه طموحي. غير أني لم أقلع مع ذلك عن الكتابة، إذ كنت وأنا ضابط في الجيش، أكتب مذكراتي يوميا مع مقالات ساخرة كنت أرسلها مرة لجريدة “لوبنيون”، ومرة لجريدة “العلم” باسم مستعار مكون من إسمي جنديين بسيطين كانا يشتغلان معنا كنادلين في نادي الضباط بأهرمومو، وكانا مشهوران ببلادتهما المفرطة ولا يفهمان شيئا مما يقع حولهما، ناهيك عن فهم ما يقع في العالم، وقد كان الضابط المكلف بالاستخبارات يعلم علم اليقين بأني أنا صاحب تلك المقالات، ولكنه كان يفتقر للحجج...وينبغي الإشارة هنا بأن القانون العسكري المغربي يمنع على كل من يشتغل في الجيش الكتابة في الصحف أو الخوض في السياسة مطلقا. ما طبيعة المقالات التي كنت تتطرق إليها؟ هي مقالات ساخرة كما قلت لك، تسلط الضوء على مكمن الضعف والنقص، كالكاريكتور تماما...فجيلنا تتلمذ في اللغة العربية على يد أساتذة وطنيين كانوا يحبون وطنهم إلى حد الهوس. أما اللغة الفرنسية، فدرسناها من ينابعها الأصيلة على يد أساتذة كانوا على قدر كبير من الكفاءة والاستقامة والتفاني في العمل، ورغم أن الإمكانيات كانت ضعيفة جدا، إلا أني أعرف تلامذة تفوقوا وبرزوا بشكل ملفت للنظر رغم بؤس حالهم وشظف عيشهم. فقد كان البعض منهم يقطع المسافات الطويلة حافي القدم في زمهرير الشتاء وقيظ الصيف من أجل ألا تفوته حصة واحدة من المقرر المدرسي. هل تعيش فترة شباب متأخرة؟ (يبتسم)...أصدقائي كلهم من الشباب...درست معهم في الجامعة وهم في عمر أولادي، فثأرت بذلك لشبابي الذي لم أعشه. أما عقلي فقد توقف عن الدوران منذ سنة 1971، ولم يستأنف الحركة إلا في سنة 1991. ولا أبالغ إن قلت بأني أعيش فترة شباب متأخرة، لأني لا أتعاشر في معظم الوقت إلا مع من يصغرونني بكثير، وعندي في سلا صديقان حميمان جاوزا عقدهما الثالث بقليل، ألتقي بهما دائما ربما لأنهما يعكسان في عيني تلك الصورة التي كانت لي سنة 1971، أما من هم في سني فلا أتفاهم معهم كثيرا نظرا لاختلاف العقلية...فأغلبهم لا يتكلم إلا عن المشاريع و”الهمزات”... ماذا يمكن أن تقول عن شباب اليوم؟ يحز في نفسي كثيرا أن أرى شباب اليوم يعرض معظمه عن المطالعة إعراضا يكاد يكون مطلقا، فبالكاد، يقرأ بعضه الجرائد، وبالخصوص، الصفحة الرياضية والفنية. شباب اليوم يغوص في اللامبالاة وكأنه يعيش في معزل عن مجتمعه، تشجعه على ذلك المغريات يمينا والموبقات شمالا، مع برامج تلفزية فارغة المحتوى، تجعل من الرقص الأعوج إبداعا ومن والغناء الركيك فنا. فهذا يتكلم عن قد “هيفاء” بنفس الحماس الذي يتكلم به أحمدي نجاد عن برنامجه النووي، وذاك يجهل من هو عبد الكريم الخطابي ويجعل من موت مايكل جاكسون نهاية العالم. أنا لا أعمم طبعا، فهنالك من الشباب من يحمل هموم وطنه وهموم الوطن العربي في قلبه، غير أن نسبة هذا النوع من الشباب قد تضاءلت بكيفية مذهلة. في زماننا كان الفن معتقا أصيلا، وكان الناس لا يطربون إلا للروائع التي كان يتنافس في إبداعها المبدعون، فيكفي أن نذكر في هذا المقام عمالقة من الشرق بحجم محمد عبد الوهاب، فريد الأطرش، أم كلثوم، السنباطي، عبد الحليم ، نجاة، وغيرهم ... وفي المغرب، عبد السلام عامر، محمد الحياني، محمد بن عبد السلام، عبد الرحيم السقاط، عبد الهادي بلخياط وعبد الوهاب الدكالي في أيامهما الزاهية، لكي نقيس شساعة الفرق بينهم وبين أشباه فنانين أصبحوا اليوم يختزلون الفن في الكلمات المبتذلة الساقطة والموسيقى المزعجة الصاخبة. وحتى في الرياضة تبدل الحال غير الحال، فلا حديث للشباب اليوم إلا عن الريال والبارصا، يتخاصمون من أجلهما ويتباغضون، وإن كنت أعذرهم نسبيا لغياب الفرجة في أنديتنا وللإحباطات المتكررة التي عرضنا لها فريقنا الوطني، فإني لا أجد لهم عذرا عندما يخرجون إلى الشوارع متلفعين براية هذان الفريقان وكأنهم أصبحوا إسبانيي الجنسية، علما بأن إسبانيا تحتل أرضنا ولا يتردد بعض مسؤوليها من الإجهار ببغضهم للمغرب.. والخلاصة، ما دامت نسبة الأمية مرتفعة إلى حد الهول، وما دامت الدولة لم تعقد العزم بعد على محوها، ولم تفتح أوراشا جدية لإصلاح منظومة التعليم والقضاء والصحة، ولم تفكر بعد في إيجاد حل ناجع لتوزيع عادل للثروات، فلن تزداد الأمور في نظري إلا ترديا وتفاقما. وهذا لا أقوله من باب التشاؤم المجاني، فيكفي أن يلقي المرء نظرة متفحصة على ما آلت إليه أحوال الشباب في مغربنا ليدرك أن هذه الطاقات المهدورة التي تلقي بنفسها في عرض البحر، لا تفعل ذلك حبا في الانتحار، وإنما يدفعها إليه اليأس دفعا بعدما ضاقت بها الأرض بما رحبت وانسدت في وجهها جميع الآفاق، سيما بعدما فقدت الأمل في الأحزاب السياسية على مختلف انتماءاتها ومشاربها، وأصبحت ترى وتعيش البون الشاسع بين الخطاب المعسول على التلفزيون والممارسات المشينة على أرض الواقع، لم يعد أحد يفكر لمصير أحد، الكل اتخذ من تحقيق مصالحه الشخصية دينا ومذهبا، إلا من رحم ربي... فالمسؤول الذي يدعي خدمة الشعب، ينبذه في الحقيقة من كل قلبه ولا يفكر إلا في خدمة مصالحه وتهيئ ابنه ليكون خلفا له في قمة السلطة. هل من رسالة للشباب؟ لا محيد من طلب العلم مهما كانت الظروف قاسية لا ترحم، وأضرب مثلا بنفسي كي لا يقول بعض الشباب بأن النصائح خفيفة على اللسان وعسيرة في التطبيق. وإني إن ضربت هذا المثل، فليس قصدي هو التبجح والمباهاة، وإنما أريد فقط أن أزرع الحماس في بعض من أصيب بالإحباط والخذلان، وأبين له بالحجة والدليل بأن الإنسان لو تمنطق بسلاح العزيمة والصبر لبلغ الذرى ولما استطاع أحد أن يقف في طريقه. فلما خرجت من السجن كنت أجرجر ورائي عشرين سنة من المجاعة والأمراض والقهر والعزلة والجهل، فوجدتني أمام أمرين إثنين: إما أن أستسلم وأقضي وقتي في اجترار الذكريات المؤلمة والبكاء على الأطلال ولعب “الكارطة” على غرار ما يفعل جل قدماء المحاربين، وإما أن أشمر على ساعد الجد وأنخرط في طلب العلم ورفع ركام الجهل عن عقلي المنهك. إخترت الحل الثاني بلا تردد، وبدأت من الصفر كما يبدأ أطفال قسم التحضيري بدون أدنى مركب نقص. ولا زلت أذكر أني كنت أعاني من أمراض شتى وأجد صعوبة كبيرة في التنقل والنظر، ولكني صبرت وصابرت إلى أن أخذت إجازتي في الحقوق باللغة الفرنسية. فكانت تلك الأعوام من أزهى سنوات عمري إطلاقا. انطلاقا من هذا فأنا أومن إيمانا قطعيا بأن الشباب المغربي قادر على أن يغير حياته نحو الأفضل لو توفرت له الإرادة والعزيمة، ولا ينبغي أن يكون الإقدام على العلم مدفوعا برغبة الانتفاع المادي البحت، وإنما ينبغي التهافت على العلم من أجل العلم، فرأس المال الحقيقي الذي لا يفنى لكل أمة من الأمم هو عنصرها البشري العالم والمتعلم. أنظر إلى اليابان وانظر إلى ألمانيا كيف استقاما على عودهما بعد أن أحالتهما الحرب العالمية الثانية إلى حطام وأنقاض... الكل يعرف أن الدولة المغربية تتحمل القسط الأوفر في مسؤولية ما آلت إليه أحوال الشباب، ولكن على هؤلاء ألا يظلوا مكتوفي الأيدي ويفنوا شبابهم وشيخوختهم في انتظار وظيفة لن تأتي حتى يلج الجمل في سم الخياط، ليهبوا إذن من رمادهم وليتمعنوا في قول الله عز وجل: ” إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”. فاتباع الموضة بشكل أعمى، وتصفيف الشعور بطرق غريبة تثير التقزز، والتعاطي للمخدرات، والغوص في الفراغ القاتل، واعتقاد أن أوروبا هي أرض الميعاد، كل هذه الأشياء مجرد قشور... والقشور لا تسمن ولا تغني من جوع... في الجزء الثاني أحمد المرزوقي: من المحتمل أن أكتب في جريدة ما قريبا، وأريد أن أكون مصورا فوتوغرافيا بالقلم.