لقد تحدثت في الجزء الأول من هذه المقالة عن مفهوم المجتمع المدني ، و بعض القضايا المثارة حوله ، كما تحدثت عن بعض اهتمامات المجتمع المدني و دوره في تنمية الريف ، وقد تفاعل معه بعض القراء الكرام الذين اشكرهم على ملاحظاتهم وتقديرهم ، وفي هذا الجزء ارتأيت أن أثير سؤال العلاقة التي تربط المجتمع المدني بالريف مع السلطة المحلية ، و اقتراح بعض البدائل للسياسات التنموية القائمة بالريف ، كل ذلك باختصار غير مخل ، ونية بريئة ، وقصد سليم .. من اجل المساهمة في الدفع بهذه المنطقة إلى مدارج الرقي ، و آفاق التنمية المنشودة ... علاقة المجتمع المدني بالسلطة المحلية : علاقة المجتمع المدني بالسلطة المحلية بالريف لم تخرج عن نطاق الحذر و التوجس و أجواء انعدام الثقة في الغالب الأعم ، ورغم كل شعارات العهد الجديد، والسعي الحثيث من بعض الجهات نحو نشر ثقافة المصالحة و زرع قيم الديمقراطية إلا أن هذه العلاقة لم تغير كثيرا من مبادئ لعبة القط و الفأر ، أو بالأحرى لم ترفع أصابع أجهزة المخزن عن بيادق رقعة الشطرنج الجمعوي الريفي ، وهذه العلاقة السلبية – للأسف الشديد – هي التي جعلت بعض الجمعيات تموت في مهدها ، و البعض الآخر تستسلم في منتصف الطريق ، وبالتالي فوتت فرص تنموية تاريخية من شأنها إخراج الريف من قمقم الفساد و الأمية و الفقر ، الأمر الذي عملت بعض الجهات على عدم تحققه بمباركة بعض أبناء المنطقة الذين فضلوا مصالحهم الشخصية الضيقة على مصالح وطنهم ، وهم من أصبحوا اليوم يتغنون بالمواطنة ، ويتملقون من اجل أن يتسلقوا مناصب جديدة ويقحموا الريف من جديد في مصائب عديدة . كما أن بعض سلوكيات السلطات المحلية مع جمعيات المجتمع المدني بالريف ساهمت في تأخير انطلاق قاطرة التنمية ، ورغم انطلاقها اليوم لا زالت تلك القاطرة تتعثر في بعض المحطات بسبب انعدام الثقة وسوء الظن ، والتقارير المغلوطة التي تحكمها الصراعات الشخصية الضيقة أو ثقافة الانتقام التي غالبا ما يقف ورائها أناس ميتي الضمير و عديمي المعرفة ، قد يتسببوا في لحظة طيش أو تهور عابرة ، في حرمان جماعة أو إقليم بأكمله من مجموعة من الامتيازات التي قد تعود عليه بالنفع العميم . فرغم وضوح القوانين المنظمة للعمل الجمعوي إلا أن بعض أجهزة السلطة بالريف لا زالت تعرقل عمل الكثير من الجمعيات ، وتمنع بعضها من تنظيم أنشطة جد عادية حتى و إن كانت تصب في مصلحة تلك السلطة ذاتها ، بل وتمتنع عن تسليم الترخيص لبعض الجمعيات بحجج واهية من قبيل انتماء احد أعضائها إلى إحدى الحركات الإسلامية أو السياسية المغضوب عليها ، و أحيانا يتم رفض بعض ملفات الجمعيات بدون أي مبرر يذكر ، الأمر الذي يطرح أكثر من علامة استفهام حول حقيقة نوايا الدولة تجاه الريف . لكن الجمعيات التي تتحفظ عليها الدولة أكثر هي تلك الجمعيات المستقلة العصية عن التصنيف الإيديولوجي و التوجه السياسي . و تبقى إمكانية عمل المجتمع المدني جنبا إلى جنب مع السلطة المحلية وفق مقاربة تشاركية تروم تحقيق المصلحة العامة والدفع بالمنطقة نحو الأمام حلم قد لا يتحقق – مع الأسف الشديد - قبل تفويت فرص تنموية تاريخية أخرى عن الريف . هل يمكن اعتبار المجتمع المدني بالريف قوة ضاغطة ؟: تقول الباحثة المغربية فاطمة واياو أن تحقيق التنمية الحقيقة كحق من الحقوق الإنسانية المنصوص عليها في المواثيق الدولية لا يمكن أن يتم إلا عبر خلق قوة ضغط وقوة اقتراح وآلية مراقبة تعتمد الموضوعية والروح العالية من الالتزام اتجاه الفئة المستهدفة من مشاريع التنمية واحترام إنسانيتها وحقها في التنمية بعيدا عن مبدأ الشفقة والصدقة. واعتبار الهدف الأساسي من هذه المشاريع ليس فقط تقديم الخدمات بل أيضا العمل على المناصرة والمرافعة من أجل تغيير الوضيعات القائمة المجحفة التي تعمل على خرق الحقوق الإنسانية للفئات المستهدفة وأول هذه الحقوق الحق في العيش الكريم وفي التنمية الشاملة. وإذا نظرنا إلى حال اشتغال المجتمع المدني بالريف نجد انه بعيد كل البعد عن هذه الأسس التي تحدثت عنها الباحثة ، وبالتالي لا يمكن أن نتحدث عن القوة الضاغطة بالمعنى السياسي لها إلا إذا تحققت إرادة حقيقية لدى النخبة المثقفة التي تشتغل في العمل الجمعوي بالريف ، لكن من خلال تتبعنا لعمل الجمعيات التنموية بالريف واحتكاكنا مع بعض الفاعلين الجمعويين واشتغالنا معهم في الميدان تبين انه لا يوجد شيء اسمه القوة الضاغطة عندنا إلا في مواسم الانتخابات حيث تظهر بعض الجمعيات التي تحكمها حسابات الرابطة الدموية و العصبية القبلية لتطبل و تزمر لمرشحها المفضل من اجل التأثير على السير العادي لعملية الاقتراع. إن أهمية دور الجمعيات كقوة ضاغطة تنبع من مقاربة شمولية لمفهوم مشروع مجتمعي تنموي،كما تقول واياو، هذا المشروع المجتمعي الذي يجب أن تنخرط فيه وتساهم في بلورته كافة الفعاليات المجتمعية من مجتمع مدني ومؤسسات الدولة وأحزاب سياسية ومواطنين.ذلك أن ما يحدث وللأسف على أرض الواقع هو ظهور مشاريع تنموية متبناة من طرف جمعيات المجتمع المدني تبين بعد المعاينة والتقييم أنها مجرد قرص مسكن لآلام التخلف الاجتماعي الذي يعاني منه المجتمع ولا ترقى إلى مستوى تحقيق تنمية حقيقية مستدامة. هل هناك بدائل للسياسات التنموية القائمة بالريف ؟ : لا يمكن التفكير في البدائل دون استحضار الواقع العالمي القائم حاليا – كما تقول واياو- ونعني به العولمة المهيمنة ومن السذاجة التغريد خارج سرب العولمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، من هنا ضرورة التفكير في بدائل لمواجهة ما يتهدد البعد الحقوقي والإنساني للتنمية من تحديات وانزلاقات بفعل تأثير العولمة. قبل التفكير في إعطاء بدائل لا بد من التذكير بأهمية تحليل، وبشكل معمق ونزيه، كل الظواهر الاجتماعية المستفحلة في مجتمعنا، ولا بد من مقاربة واقعية ليس فقط لظاهرتي التخلف عن ركب التنمية، والفقر الذي تعاني منه فئة عريضة من المجتمع، ولكن وبشكل أعم وأشمل التفكير في أسباب استفحال ظاهرة الإقصاء والتهميش، وهي ظاهرة ناتجة عن التفقير والتهميش الممنهج والمنظم والذي ساهمت فيه -حسب الفاعلة الحقوقية و الجمعوية- المخططات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتعاقبة، ومما يزيد الوضع تأزما هو سكوت وتهرب الدولة من المقاربة الحقوقية القائمة على مفاهيم الديمقراطية والمواطنة لظاهرة التهميش والإقصاء، حيث نجد الخطاب الرسمي يردد عبارات القضاء والقدر، وهو خطاب لا علمي ولا واقعي ينتج بالضرورة سياسات تنموية قائمة على العطف والإحسان وليس على حق كل المواطنين في التمتع بحماية اجتماعية تضمن لهم البقاء باعتباره حقا إنسانيا سابقا على الحق في لقمة العيش. وانطلاقا مما سبق نتفق مع الباحثة في اقتراح البدائل التالية من اجل إقلاع تنموي حقيقي بالريف : 1) إن على المواطن المغربي أن ينتزع حقه في التنمية، الشئ الذي لن يتأتى له إلا بإلحاحه في انتزاع مواطنته، هذه المواطنة التي تعني أن له الحق في الاستفادة من خيرات البلاد، وذلك انطلاقا من العدالة الاجتماعية والتوازن الاقتصادي فالحرمان لدى طبقة معينة هو نتيجة تبذير طبقة أخرى. 2) في مقابل ذلك فإن على الدولة أو الحكومة أن تعمل، وانطلاقا من الهامش الذي لها الحق في التحرك عبره، عليها أن تفرض نظاما ضريبيا صارما، وأن تتمكن من خلاله من فرض نظام الحماية الاجتماعية لكل المواطنين. 3) على الدولة وبتحالف مع قوى التغيير، أن تعمل على محاربة كل الجرائم الاقتصادية (الرشوة واختلاس ميزانيات الدولة) وهي خطوة أساسية من أجل إصلاح الإدارة المغربية باعتبارها عماد المجتمع وعبرها تثبيت دعائم الديمقراطية والمواطنة الحقة. 4) إن تحقيق البدائل الثلاث السابقة الذكر قد يصبح مستحيلا في غياب دمقرطة حقيقية وجذرية لكافة مكونات المجتمع، بما فيها التنظيمات المهنية والجمعيات والأحزاب، باعتبارها طليعة المجتمع وعلى عاتقها تقع مهمة تحقيق التغيير المنشود على درب الوصول للتنمية الحقيقية، كمشروع مجتمعي يروم إدماج كل المهمشين وكل المواطنين في مخطط التنمية.