بحثت كثيرا عن رواية « لاكهينا *» التي كتبتها الفرنسية من أصل تونسي جيزيل حليمي عن دار النشر بوكيت لسنة 2006.. لا أدري سر الشوق الذي كان ينتابني لقراءتها... والآن وهي بين يداي أستمتع بها حركت بدواخلي أحاسيسا ظلت راقدة كفورة بركان... ان أول ما بدأت به جيزيل كتابها هي مقدمة رجعت من خلالها الى التاريخ عبر جدها الذي كان يحكي لها عن فترة حكم "الكاهنة" كما يحلو للعرب أن يسموها نكاية... وهي بذلك ترى أن التاريخ وحده قادر على فهم الحاضر، ثم دراسته ففضحه بعد ذلك... لكن جيزيل حين استهلت حكي روايتها اعتمدت اسم "ديهيا" الاسم الحقيقي لأمرأة حكمت شمال افريقيا بقوة السلاح والجمال والدهاء.. واستطاعت أن تدحر جيش حسن ابن النعمان الغساني الغازي وتصمد أمامه زهاء خمس سنوات... بل وتمكنت من اعتقال أحد فرسانه خالد ابن اليزيد العبسي وشكلت معه عنصرين لانتاج اللذة الجسدية...بعد أن أرضعته من ثديها كي تفلته من قصاص القبائل الأمازيغية... هذا الجزء من التاريخ يضعنا اليوم أمام صورة واضحة للنهج السياسي المتبع من أجل تلجيم ممنهج لكل ما يرتبط بالأصل الحقيقي لهذه البلاد.. فأوائل العرب مارسوا عملية السطو أما عرب اليوم ان كانوا فعلا عربا... فانهم يمارسون عملية المسخ واستئصال نواة وروح هذه الأرض الأمازيغية الطيبة. هذه الرواية كانت فرصة لي من أجل استعادة شريط الأحداث التاريخة في شمال افريقيا، تلك الوقائع التي تفيد أنه ما أن وطأت قدم العرب بلاد البربر، كما يسموننا نكاية دائما، حتى بدأوا في اعداد ترسانتهم الايديولوجية والدينية باعتماد أساليب لا انسانية على حد قول ابن خلدون "...وأذل (عقبة بن نافع) من الأمازيغ حتى بقي فيهم قليل من الناس" ولا أخلاقية في افق ابادة حضارة ظلت تصارع الأطماع عبر العصور... التاريخ دائما صامد وصادم... ينتشلك من الأوهام... من الكذب.. ويرميك في أحضان الحقيقة... حينما أتى عقبة وحسن وسليمان وغيرهم الى شمال افريقيا في الظاهر حاملين الدين الإسلامي وفي يدهم سيوفهم ونبالهم..وفي قلبهم شتى أنواع الحقد والكراهية... انما كانوا يمهدون الطريق لسلسلة غير متناهية من الاستيلاب والهدم والتشويه... تاركين روح الدين وكنه الرسالة... إلى أن آل الوضع الى ما هو عليه... تزييف للتاريخ... محو ملامح حضارة... في البدئ كان بجرة سيف والآن بجرة قلم... عقبة كان يقاتل ويحارب من أجل أن يتوطد العرب والآن عباس هو أيضا يحارب من أن أجل أن يستمر التوطيد عبر التعريب... هذا هو تاريخنا.. حلقة متواصلة ومرتبطة.. سلسلة أحداث تتكامل بحيث أن علال وعباس والأحزاب التي يحركها الحس البعثي ليست لها من مهمة سوى استكمال ما بدأه عقبة والآتون بعده... والخسة أنهم يفعلون ذلك باسم الدين... هكذا هو التاريخ... لا يرحم، تكتبه القوة ظلما ليتقبله الضعف غصبا... لكن التاريخ الحقيقي دائما حاضر... حاضر بشكل من الأشكال... قد يغيرون شكله... يقتصون من فقراته... أو يضيفون اليها وفق ما تتطلبه الظرفية... لكن شيئا ما مثل الروح أو مثل ذبذبات فوق الادراك تجعلك تدرك تلك الحقيقة التي تشكل عمق التاريخ... فديهيا حين تكلمت فانها تريد لنا أن نستمر في الكلام... لقد قالت مخاطبة ابنيها افران ويازديكَان.." يجب أن يستمر العرق... نعم، الشرف، أن تجعل الشعب الأمازيغي يعيش للأبد.." واستمرت مخاطبة يازديكَان.." ستعيش ويعيش معك افران، لقد قررت ذلك... انه آخر أمر لي لكم.." هكذا ودعت ديهيا ابنيها قبل أن تستطرد.." هيا..انطلقوا للحياة...وعبركم سيحتفظ الأمازيغ ببعض السلط." جيزيل حليمي اختارت أن تنهي كتابها بمشهد يبعث على التقزز.. مشهد فيه من الشماتة ما لا يوصف.. تقول:".. هذا الأخير أخذ الراس من الشعر (رأس ديهيا الميتة) ...أدار حسن عينيه (وقال).. لفها، غدا سنبعثها الى دمشق.." وفي دمشق حينما رآها وفي وجهها ضحكة خفيفة ردد عبد المالك : " على كل، لم تكن سوى امراة". لم تكن سوى امرأة، فعلا... لكن هي تاريخ... وهي الآن لا تزال حقيقة... وبلا عقد... نحن في مغرب اليوم... امتداد لمغرب الأمس... مغرب كل ما ينبض فيه متجذر في التاريخ... لا نريد أكثر من أن يستمر هذا المغرب في حلته الاصلية، أن يتصالح مع تاريخه... مع نفسه.. وأن يخلع عنه الستائر والصباغة ويقاوم التزييف.. أن نقول بلا عقد.. أننا أمازيغ أبناء أرض أمازيغية... قد يكون بيننا عربا، أو روما... لا يهم.. نحن احترفنا التعايش مع الغير... من أجل أن نتعايش فوق أرض أصلية... بذلك سنكون أوفياء للتاريخ... ليكون التاريخ لنا وفيا... وحتما سيقولها...فللتاريخ كلمة... -------- لاكهينا * : La Kahina