أدبيا كتبت إيزابيل ابرهاردت القصة القصيرة في وقت مبكر من حياتها. فقد نشرت قصة «جهنم» وقصة «رؤية المغارب» في المجلة الباريسية الجديدة وفيها تصف الجزائر من قبل أن تزورها. وبعد هجرتها إلى الجزائر أصبحت مراسلة لعدد من الصحف والمجلات الفرنسية وكانت كتابتها الصحفية مفعمة بأسلوب أدبي وروائي شيق. من مفارقات الاستعمار الفرنسي أنه كما أتاح لكثير من الفرنسيين من النخبة السياسية والاقتصادية الاغتناء وجمع ثروات مادية هائلة، من خلال نهب المستعمرات والاستثمار في خيراتها دون حسيب أو رقيب، فإنه كذلك أتاح لكثير من مثقفيه والمتعطشين إلى حياة روحية وعقلية ودينية أخرى والمتطلعين إلى تجاوز التكلس الروحي والأدبي الذي كانت الحضارة الغربية قد دخلت أولى أطواره، أتاحت لهم هم كذلك أن يقتحموا عوالم جديدة كانوا يحلمون بها أو يقرؤون أو يسمعون عنها. فإضافة إلى الأدباء والشعراء الذين سافروا بخيالهم وعقولهم ومطالعاتهم فقط مثل غوته، هناك من تخطوا ذلك إلى القيام برحلة فيزيقية حقيقية نحو هذا الشرق «المحلوم» به لمعاينته عن كثب وللبحث عن ذلك المتخيل الذي طالما داعب أحلامهم مثل رامبو وجيرار دو نيرفال وكثيرون غيرهم. ومنهم من زاوج بين الرحلة الروحية والرحلة الفيزيقية الحقيقية فاعتنق الشرق بكل ما فيه، وزادته رحلته إليه غوصا فيه فتماهى به إلى حد إعلان «انفصاله» الأدبي عن هذه الحضارة التي تكلست روحها وجف ماء الإنسان فيها، وهم كثيرون يمكن أن نذكر من بينهم رونيه غينون وميشيل فالسان وتيتوس بورخهارت... وإيزابيل ابرهاردت التي نخصص لها هذا المقال. لقد قيل الكثير عن إيزابيل ايرهاردت وكتب الكثير أيضا فقورنت تارة بالشاعر أرثور رامبو بالنظر إلى الحياة المضطربة التي عاشها الاثنان وبالنظر إلى المصير والنهاية الغريبة التي لقياها وبالنظر أيضا إلى «كفرهما» بكل التقاليد الأدبية والثقافية التي تؤسس المجتمع الثقافي الفرنسي آنذاك.. ولقد قارنها آخرون بالشيخ عبد الواحد يحيى أو رونيه غينون بالنظر إلى اعتناقهما الإسلام والجانب الصوفي منه بالتحديد وبالنظر إلى استقرارهما معا في العالم الإسلامي وزواجهما من مسلمين.. أيا كان فقد اختطت إيزابيل ابرهارت لنفسها سبيلا لا يشبه في شيء سبيل رامبو الذي مهما قيل عن تيهانه «الروحي» فقد رام تحقيق الثروة عن طريق التجارة كما كان يفعل كثير ممن عاصروه.. ولا يشبه كثيرا الحياة الهادئة والصامتة التي حققها غينون في مصر بعد إسلامه.. لقد كانت السبع والعشرون سنة التي عاشتها إيزابيل صاخبة وضاجة منذ ولادتها في مدينة جنيف السويسرية سنة 1877 من أب روسي، لم يعترف بنسبتها إليه، وأم فرنسية تنتمي إلى الأرستقراطية الفرنسية تمردت على حياتها الزوجية الأولى وارتبطت بمثقف ثوري روسي هو الذي ربى إيزابيل وأثر فيها بنزعته الفوضوية وثقافته المتنوعة ولغاته المتعددة، فإلى جانب تعليمها الفلسفة والتاريخ والجغرافية علمها الروسية والألمانية والايطالية واللاتينية واليونانية والتركية إضافة إلى العربية. سرعان ما أحست إيزابيل بطبعها المتمرد على «موافقات» المجتمع البورجوازي بالحاجة إلى الخروج من المأزق الروحي والأخلاقي الأوروبي وفي الحاجة الماسة إلى «الهروب» نحو عوالم أخرى أكثر رحابة. تقول في مذكراتها «أنا التي لن تكفيها السعادة في الإقامة في مدينة أوربية أبدا، خططت للمشروع الشاق لكن القابل للتحقيق بالنسبة لي، ألا وهو الاستقرار في الصحراء والبحث فيها عن السلام والمغامرات في نفس الوقت.و هذه الأشياء قابلة للتوفيق فيما بينها داخل طبعي الغريب». منذ التحاق أخويها للعمل كجنديين في الجيش الفرنسي بالجزائر وهي تهفو إلى الالتحاق بهما لتتعرف عن كثب عن هذا البلد الذي سمعت عنه الشيء الكثير والذي رغم قربه الجغرافي من أوروبا إلا أنه ينتمي إلى «العوالم الأخرى» و«الضفة الأخرى» بكل ما يعنيه هذا الآخر من إمكانات «الهروب» من ذات مأسورة بحداثة آلية زعزعت كل الثوابت الميتافيزيقية وأقامت بدل التطلعات الروحية علاقة تدميرية مع العالم من حولها، تجلت في الاستعمار والإمبريالية. رحلت إيزابيل ابرهاردت إلى شمال إفريقيا وفضلت أن تتخفى في زي رجل وتسمت باسم «محمود سعدي» وأصبحت «طالبا» يسعى نحو العلم والمعرفة، وعبرت نحو جنوب الصحراء، وانتسبت إلى الزاوية القادرية في كنادسة ومكنها ذلك من معاشرة الناس ومخالطتهم ومعرفتهم عن قرب، مما جعلها تقع في «عشق» الإسلام» وتنتسب إليه هي وأمها ليس بحثا عن الغرائبية والمغامرة ولا عن استشراق فضولي بل «عن بحث عميق شحذ كل كينونتها « كما تقول الكاتبة كاترين ستول سيمون في كتابها الحديث «سي محمود أو نهضة إيزابيل ابرهاردت». في كتاب لها تحت عنوان «عصر العدم «تتحدث إيزابيل عن أزمة الحداثة وعن تخوفاتها من مآل الإنسان والحضارة في ظل البربرية والتدمير المتواصل لإنسانية الإنسان وتعبر عن آن هذا العالم، حيث تقاتل الآلهة لم يعد يهمها، وأن ما يهمها أكثر من الآن فصاعدا هو إتباع الحكمة السقراطية التي تقول «إعرف نفسك بنفسك». وهذا ما شرعت في تحقيقه منذ أن حطت قدماها في أرض الإسلام، وهذا ما ستجده في الاعتناق الكامل للإسلام ثم بالزواج من مسلم جزائري كان يشتغل في الجيش الفرنسي. لكن وجود إيزابيل المواطنة الفرنسية بين ظهراني المسلمين والمتماهية بشكل كامل مع ثقافتهم لم يكن ليروق للمعمرين الفرنسيين مدنيين وعسكر، فوجدوا في زواجها وفي إسلامها عارا وفضيحة ولعنة لا يمسحها محاولة قتلها، أو نفيها من بين ظهرانيهم، وهكذا تم نفيها من الجزائر إلى مدينة مرسيليا، حيث ظلت هناك سنة واحدة ثم ما لبثت أن رجعت مع زوجها إلى الجزائر. أدبيا كتبت إيزابيل ابرهاردت القصة القصيرة في وقت مبكر من حياتها. فقد نشرت قصة «جهنم» وقصة «رؤية المغارب» في المجلة الباريسية الجديدة وفيها تصف الجزائر من قبل أن تزورها. وبعد هجرتها إلى الجزائر أصبحت مراسلة لعدد من الصحف والمجلات الفرنسية وكانت كتابتها الصحفية مفعمة بأسلوب أدبي وروائي شيق. كتبت رواية «راخيل» التي لم تكملها إضافة إلى «رسائل ويوميات» التي تصف فيها التحامها بالصحراء وبعشق إنسان وجغرافية البلاد المغاربية. و«كتابات حميمة» حيث بعض مراسلاتها ومكاشفاتها الإنسانية والروحية. وعند موتها التراجيدي في سن السابعة والعشرين من عمرها، إذ جرفها الواد إثر الفيضانات التي اجتاحت عين الصفرا حيث توفيت، وجد معها مخطوط «الوهراني الجنوبي» حيث دونت انطباعاتها وخواطرها الأدبية في آخر رحلة لها إلى الصحراء. نذكر أيضا مجموعتها القصصية «في بلد الرمال» وروايتها «تريمادور» وآثار أخرى كثيرة بدأت تثير فضول النقاد بشكل واضح في الآونة الأخيرة.