اختار المشرفون على العدد الجديد من المجلة الفصلية "فصول"، التي ترأس تحريرها هدى وصفي، الناقد والأستاذ الجامعي المغربي شعيب حليفي ضيفا على ملفها الجديد، الذي قدم له بورقة تمهيدية جاء فيها إن "العدد الجديد من مجلة فصول يقدم تشريحا لوضعية الرواية البوليسية في الأدب العربيوذلك من أجل فهم واقع الحال، والتقليب في القضايا التي يطرحها الموضوع من جهة أولى، ومن جهة ثانية مقاربة نصوص في هذا الاتجاه للدنو من متخيلها وباقي عناصرها الأساسية، مساهمة منها في تجديد الأسئلة النقدية حول أشكال التعبير المعبرة، التي استطاعت أن تكون تجليا من تجليات عصرنا". وفي ما افتتاحه باب الدراسات بموضوع "التخييل ولغة التشويق: مقاربة في البناء الفني للرواية البوليسية في الأدب العربي"، مهد شعيب حليفي بالحديث عن قدرة التخييل الروائي، وما يحققه من توسع بفعل استثماراته اللامحدودة لكل العناصر الممكنة، وباعتبار الرواية نصا ثقافيا يوظف كل المعارف والحقائق والأحلام ضمن رؤية فنية ذات شكل. وضمن ذلك ظهر التخييل المؤطر بقضايا التحري والتحقيق وفك الألغاز، أو ما يسمى بالرواية البوليسية، ما يمكن من خوض تحليلات لعلاقة الرواية بالتاريخ الاجتماعي والسياسي، والتوظيف المتنوع لعناصر الحياة المدنية، وما تفرزه من جرائم واختفاءات. وتوقف الكاتب عند عنصر "التشويق" في المحكي البوليسي باعتباره محركا لباقي العناصر الفنية، يرسم في الرواية مسارات تحتاج إلى عدد من التقنيات والعناصر تجعل منه أساسا قائما في النص وضمن بنية التخييل، مستخلصا أن الرواية العربية حفلت بنصوص في هذا الاتجاه بأشكال مختلفة، ومتوقفا عند نوعين كبيرين، الأول من نصوص تستثمر الحبكة البوليسية دون نية كتابتها، والثاني نصوص جنست على أنها روايات بوليسية تقوم بدورها على لغة التشويق مع التركيز على عنصر الصراع وتأويلاته، ثم اللغة وقدرتها في تحقيق وقيام هذا النوع الروائي الذي لا يزال لم يُستثمر بالشكل التام في السرد العربي. واتخذ الباحث نصوصا روائية عربية من مصر وتونس والجزائر والمغرب خلفية لمقاربته. من جهته، حاول بوشعيب الساوري من خلال دراسته المعنونة ب "مفارقة الإنتاج والتلقي في الرواية البوليسية في الأدب العربي" التوقف عند نوع روائي ظل، وما يزال، في أدبنا العربي في الهامش، هو الرواية البوليسية، انطلاقا من تقديم نظرة تاريخية حول ظهوره ومكانته في الغرب، وكيف استطاع أن يحتل موقعا داخل الأدب، ويحظى باهتمام النقاد والدارسين الغربيين، وكيف نال مقروئية لا بأس بها، تجاوزت القارئ العادي إلى الناقد والباحث الأكاديمي مثل جاك ديبوا وتودوروف وجيل دولوز وغيرهم. مثلما أبرزت الدراسة مكانة الرواية البوليسية والانتشار الواسع، الذي أصبحت تحظى به، خصوصا مع روايات اعتمدت الحبكة البوليسية مثل "اسم الوردة" لأمبرتو إيكو وشيفرة دافينشي لدان براون. ثم تطرق الكاتب إلى وضع الرواية البوليسية في الوطن العربي، ومفارقة وجود قاعدة واسعة لتلقي الرواية البوليسية، في حين أن إنتاجها متعثر وشبه منعدم، الأمر الذي لم يسمح بتبلور رواية بوليسية عربية بالمواصفات المعروفة في الآداب الغربية، متسائلا عن وضع هذا الإبداع في الأدب العربي وتجلياته وأشكاله من خلال المنجز الروائي. وكذا عن العوامل الثاوية وراء وضعه المفارق، مستحضرا مجموعة من المواقف لروائيين أمثال: محمد البساطي وإدوار الخراط والميلودي الحمدوشي، ولنقاد أمثال: إلياس خوري وعبدالقادر شرشار. في دراسة عبدالرحيم مؤدن "القصة البوليسية في الأدب المغربي الحديث" ينطلق من محاولة التمييز بين القصة البوليسية النموذجية (جريمة/ مجرم أو عصابة/ ألغاز/ تحقيق...) وبين القصة ذات الإيقاع البوليسي "اللص والكلاب" ل نجيب محفوظ، التي تشترك مع القصة البوليسية في عناصر عديدة (جريمة / تحقيق/مطاردة...) دون أن تكون قصة بوليسية، بالمعنى الحقيقي، كما حددها منظرو هذا الجنس الأدبي. ويستعرض الكاتب أنماط القصة البوليسية، التي انسحبت على الرواية والقصة القصيرة أيضا، من خلال نماذج معينة مثل القصة البوليسية ذات اللغز، والرواية البوليسية السوداء، فضلا عن تفاعلات النص البوليسي مع قصص الجاسوسية، وقصص الخيال العلمي. تأسيسا على ما سبق حاولت الدراسة رسم خطاطة لوضعية القصة البوليسية في الأدب المغربي الحديث، انطلاقا من نماذج محددة شملت ثلاث مراحل أولها مرحلة الرواد الأوائل من خلال تجربة "عبدالعزيز بنعبدالله"، الذي جمع بين الترجمة والاقتباس، بين البنية القصصية البوليسية الثاوية وراء بنيات أخرى، والبنية التاريخية. وثانيها مرحلة الستينيات من القرن الماضي، الذي شهد ظهور نماذج من القص البوليسي، رواية وقصة قصيرة، الذي اختفى، مرة أخرى، وراء البنية الواقعية، فتحول النص البوليسي إلى أداة لطرح القضايا الاجتماعية محمد بن التهامي/ أحمد عبدالسلام البقالي. وثالثها تجربة الميلودي الحمدوشي في المرحلة الحالية، التي تمثل طفرة مميزة في الكتابة البوليسية، بحكم امتلاك المؤلف لتقنيات هذه الكتابة، فضلا عن انتسابه إلى ميدان العمل الجنائي، تدريسا وبحثا وممارسة مهنية، ما مكنه من تقديم تراكم هام، في هذا الميدان، اتسم بخصائص مميزة في الرؤية والكتابة. وختم الباحث الدراسة بموقفه من المسألة بفحص أهم العوامل والأسباب من وجهة نظر سياقية، على المستوى الخارجي والداخلي، التي كان لها اليد في تعثر الرواية البوليسية، بربط هذه الظاهرة الأدبية بسياقها الثقافي العام، وفواعله وثوابته ومتغيراته.