Boris Tomashevsky المقدمة: يعد بوريس توماشفسكي (Boris Tomashevsky) (1890-1957م) من أهم الشكلانيين الروس الذين اهتموا بتاريخ الأدب الروسي من جهة، وبالأسلوبية والعروض وعلم السرد من جهة أخرى. وقد كان عضوا في الحلقة اللسانية بموسكو أو ما يسمى أيضا بأبوياز (OPOJAZ.). وقد خلف لنا مجموعة من الكتب القيمة، مثل: (عن النظم)، و(النظم الروسي)، و(نظرية الأدب)، و(الكاتب والكتاب)، و(الشعر واللغة)، و(الأسلوبية والعروض)... وقد انتشرت نظرياته السردية في أوساط البنيويين والسيميائيين الفرنسيين منذ الستينيات من القرن الماضي، بعد أن ترجمها تزيتيفان تودوروف (T.Todorov) ضمن كتاب (نظرية الأدب) ، فتمثلها كثير من الدارسين والباحثين، مثل: رولان بارت(R.Barthes)، وكلود بريمون(C.Bremond)، وجيرار جنيت(G.Genette)، وتودوروف(T.Todorov)، وگريماص(Greimas)، وجوزيف كورتيس(J.Courtés)، وفيليب هامون(P.Hamon)، وفرانسوا راستيي(F.Rastier)، وغيرهم... والآن، سنتوقف عند بعض هذه التصورات النظرية التي يرتكز عليها المشروع السردي عند بوريس توماشفسكي ، والذي يندرج ضمن علم السرد(Narratologie)، أو ضمن المنهجية البنيوية السردية ، أو ضمن الشكلانية السردية. وتسعفنا هذه التصورات، كثيرا ، في تحليل النصوص القصصية والحكائية والروائية والدرامية، بل حتى الشعرية منها. إذاً، ما أهم هذه التصورات السردية؟ وما قيمتها المنهجية؟ هذا ما سوف نتبينه، بشكل جلي، عبر العناصر الموالية: اختيار الأغراض: يرى بوريس توماشفسكي بأن النص أو العمل الأدبي يتكون من غرض أساسي بارز أو من مجموعة من الأغراض. وهي بمثابة أفكار أو تيمات أو موضوعات. ويمكن الحديث عن الغرض الكلي أو الغرض الجزئي. أي: يتضمن النص مجموعة من التيمات الدلالية التي تتحكم في متوالية أو مقطع سردي ما. وفي هذا الإطار، يقول توماشفسكي:" خلال السيرورة الفنية، تتمازج الجمل المفردة فيما بينها، حسب معانيها، محققة بذلك بناء محددا، تتواجد فيه متحدة بواسطة فكرة أو غرض مشترك. إن دلالات العناصر المفردة للعمل تشكل وحدة هي الغرض (الذي تتحدث عنه).وإنه من الممكن أن نتحدث سواء عن الغرض العام للعمل، أو عن أغراض أجزائه. ما من عمل قد كتب في لغة لها معنى إلا ويتوفر على غرض. أما العمل غير العقلي، فلا غرض له، نظرا لأنه ليس سوى تدريب تجريبي، أو تدريب مختبري بالنسبة لبعض المدارس الشعرية. ويتميز العمل الأدبي بوحدة، عندما يكون قد بني انطلاقا من غرض وحيد، يتكشف خلال العمل كله. نتيجة لذلك، تنتظم السيرورة الأدبية حول لحظتين هامتين: اختيار الغرض وصياغته ." اضف إلى ذلك، أنه من الضروري أن يختار الكاتب غرضا مهما ليراعي أفق المتلقي. ويعني هذا أن صورة المتلقي حاضرة في ذهن الكاتب، ولو كانت مجردة ومفترضة. بمعنى أن الكاتب يكتب للقارئ، وينبغي احترامه.لذا، عليه أن يقدم له أحسن ما لديه، فيختار المواضيع الإنسانية الخالدة والمتميزة، مثل: الحب والكراهية، والحياة والموت، والسعادة والشقاء، والخير والشر، والفضيلة والرذيلة...ويبتعد ، قدر الإمكان، عن المواضيع الواقعية الراهنة، أو المشاكل اليومية والاجتماعية المؤرقة للإنسان ، أو قضايا المرحلة (الثورات)، أو تناول مواضيع إيديولوجية التي تموت بانتهاء القضية والمرحلة الثورية... وبالتالي، فكثير من النصوص الأدبية الروسية كانت تمجد الثورة الاشتراكية، لكنها سرعان ما اضمحلت هذه النصوص بفشل هذه الثورة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وتاريخيا وثقافيا. وفي هذا السياق، يقول توماشفسكي:" إن الوضع اليومي هو الشكل الأولي للراهن.غير أن أعمال الراهن لاتبقى عند زوال الاهتمام الوقتي الذي ابتعثها. ولذلك، فأهمية هذه الأغراض تتضاءل نظرا لأنها تتلاءم وتنوع الاهتمامات اليومية للمستمعين.خلافا لذلك، فكلما كان الغرض مهما وذا أهمية باقية ، كلما تم ضمان حيوية العمل. وباطراحنا، على هذا النحو، حدود الراهن، يمكننا أن نصل إلى الاهتمامات الكلية (مشاكل الحب والموت) التي لاتتبدل، في العمق، على امتداد التاريخ البشري.ومع ذلك، فهذه الأغراض الكلية يجب أن تثرى بمادة ملموسة.فإذا لم تكن هذه المادة متصلة بالراهن، فإن وضع تلك المشاكل يغدو إجراء لاجدوى منه." وليس يكفي اختيار غرض مهم، بل يجب تدعيم تلك الأهمية بإثارة المتلقي واستفزازه وشد انتباهه، فالأهمية تجذب، والانتباه يستبقي. ومن هنا، فالعنصر" الانفعالي يساهم مساهمة واسعة في لفت الانتباه.ولهذا، فليس عبثا كون المسرحيات الموجهة إلى التأثير مباشرة في جمهور واسع تصنف، حسب خصيصتها الانفعالية، إلى كوميديات ومآس، فإثارة انفعال معين هو أفضل السبل لجذب الانتباه." ومن هنا، لاتتمثل راهنية العمل الأدبي في الحديث عن مشاكل الحياة المعاصرة بكل تناقضاتها الجدلية ، سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم اقتصادية أم تاريخية أم نفسية أم دينية أم حضارية ، أو التعبير عن مواضيع الساعة - مثلا- ، فهذا يسمى بوهم الحداثة أو وهم الزمنية عند أدونيس ، بل ينبغي أن يتناول العمل مواضيع مهمة وخالدة وثابتة، مثل: المواضيع الإنسانية المجردة ، كالحب، والفضيلة ، والخير ، والموت، والسعادة، والتضحية، والوفاء...ويحوي قيما انفعالية تثير إعجاب المتلقي وتقييمه. وعلى العموم، فلحظة الاستلطاف هي التي توجه الاهتمام، وتستبقي الانتباه، داعية القارئ إلى المشاركة في تطوير الغرض." وبناء على ماسبق، يستند النص أو العمل الأدبي إلى المعنى أو الدلالة أو الغرض. لذا، تستوجب منهجية التحليل أن نقسم النص أو العمل إلى فقرات ومقاطع ومتواليات سردية أو شعرية أو درامية ، محددة بعناوين غرضية أو تيمات جزئية أو بتيمة كلية ، كأن نقول: تيمة الاختطاف، وتيمة الهروب، وتيمة التحول، وتيمة العودة... وتتحدد أغراض الأعمال الأدبية حسب أهميتها بالنسبة للمتلقي، وما يثيره هذا الغرض من انفعالات وجدانية على مستوى التعاطف والنفور.علاوة على ذلك لابد أن تكون هذه الأغراض مواضيع إنسانية مجردة وصالحة لكل زمان ومكان، تبتعد قدر الإمكان عن القضايا اليومية، ومواضيع الراهن، ومشاكل الحياة المؤقتة . وعليه، " فمفهوم الغرض هو مفهوم شامل يوحد المادة اللغوية للعمل الأدبي.فالعمل ككل يمكن أن يكون له غرض معين. وفي الوقت نفسه، فإن كل جزء من أجزائه يتوفر على أغراضه الخاصة. ويتلخص تفكيك العمل في عزل أجزائه التي تختص بوحدة غرضية نوعية... وعن طريق تفكيك العمل إلى وحدات غرضية ، نصل في النهاية إلى الأجزاء غير القابلة للتفكيك .أي: إلى الجزئيات الصغيرة للمادة الغرضية. ويقصد بها الحوافز." ويتضح لنا، من هذا كله، بأن توماشفسكي يتبنى المقاربة الغرضية أو التيماتيكية (Approche thématique) في تقسيم النص إلى متواليات سردية، معنونة بتيمات وأغراض دلالية كلية وجزئية. التمييز بين المبنى الحكائي والمتن الحكائي: يتكون العمل أو النص الأدبي من متن حكائي ومبنى حكائي، أو ما يسمى أيضا بالقصة والخطاب، أو المضمون والشكل، أو الملفوظ والتلفظ، أو المادة والصيغة... ومن ثم، يحوي المتن الحكائي دلالات النص أو ما يسمى أيضا بالغرض ، ويشكل هذا الغرض وحدة ما، فهو مؤلف من عناصر غرضية صغيرة، قد وضعت في نظام معين. وترتب هذه العناصر الغرضية وفق ترتيبين: ترتيب سببي منطقي، وترتيب زمني كرونولوجي. ومن هنا، فالمتن الحكائي هو " مجموع الأحداث المتصلة فيما بينها، والتي يقع إخبارنا بها خلال العمل.إن المتن الحكائي يمكن أن يعرض بطريقة عملية، حسب النظام الطبيعي، بمعنى : النظام الوقتي والسببي للأحداث، وباستقلال عن الطريقة التي نظمت بها تلك الأحداث أو أدخلت في العمل. وفي مقابل المتن الحكائي، يوجد المبنى الحكائي الذي يتألف من الأحداث نفسها، بيد أنه يراعي نظام ظهورها في العمل، كما يراعي ما يتبعها من معلومات تعينها لنا." وهكذا، فالمتن الحكائي عبارة عن أحداث تنجزها الشخصيات في فضاء ما. في حين، يرتكز المبنى الحكائي على الصياغة، والمنظور السردي، والوصف، ودراسة زمنية الخطاب السردي. أشكال الحوافز السردية: من المعلوم أن النص السردي عبارة عن جمل، وتتضمن كل جملة سردية حافزا أو حدثا أو وظيفة ما. ويتخذ الحافز دلالات عدة ومختلفة من حقل معرفي إلى آخر. وقد يعني الحافز وحدة غرضية ، مثل: اختطاف الخطيبة... ومن هنا، فالمتن الحكائي عبارة عن مجموعة من الحوافز المتتابعة سببيا أو زمنيا . في حين، يعنى المبنى الحكائي بتلك الحوافز نفسها، حسب انتظامها داخل العمل الأدبي ترتيبا وصياغة وبناء وتركيبا. ويعني هذا أن الحافز عبارة عن حدث حكائي، بينما المبنى هو بمثابة صياغة فنية وشكلية له. هذا، و يمكن الحديث عن نوعين من الحوافز والوظائف: حوافز أساسية وثابتة ومشتركة لايمكن الاستغناء عنها، وهي متتابعة سببيا وزمنيا، وحوافز حرة هي التي يمكن الاستغناء عنها، دون الإخلال بالتتابع الزمني والسببي للأحداث، مثل: الوظائف الثانوية، والمؤشرات الجوية. وإذا كانت الوظائف الأساسية مهمة للمتن الحكائي، فإن الوظائف والحوافز الثانوية هي مهمة على صعيد المبنى الحكائي.أي:" إن الحوافز المشتركة تتصف، وحدها، بالأهمية بالنسبة للمتن الحكائي.أما في المبنى الحكائي، فالحوافز الحرة هي التي تقوم ، على وجه خاص، بدور مهيمن محددة بناء العمل.إن هذه الحوافز الهامشية (التفاصيل إلخ) تستعمل بسبب البناء الفني للعمل (الأدبي)، وهي تتضمن وظائف مختلفة.ويتحكم التقليد الأدبي ، في الجانب الأكبر من استعمال تلك الحوافز، كما تتميز كل مدرسة بذخيرة من الحوافز الحرة ،بينما تتجلى الحوافز المشتركة- وهي، على العموم، أشد حيوية من غيرها- على الصورة نفسها في أعمال ومدارس متباينة .إنه يمكن للتقاليد الأدبية ، طبعا، أن تقوم بدور ملحوظ، أيضا، في تطور المتن الحكائي." ولشرح هذه الحوافز والوظائف الأساسية والحرة، يمكن الاستشهاد بهذا المقطع السردي:" رن جرس الهاتف، كان علي شارد البال، مهموم الحال، يدخن سيجارته بشره كبير، نهض من كرسيه بصعوبة، اتجه نحو النافذة، أطل منها على المدينة، كان الجو ممطرا وحزينا، فتح النافذة، أحس بقشعريرة برد تهاجم جسده النحيل، أغلق النافذة، واتجه نحو الهاتف الذي كان يرن مرات عدة، أخذ السماعة، ثم قال: ألو..." يتضمن هذا المقطع الرئيسي حدثين أو حافزين أساسيين هما: رن جرس الهاتف والرد عليه. والباقي من الحوافز والوظائف عبارة عن أحداث ووظائف وحوافز حرة وثانوية وتفاصيل تخدم المبنى الحكائي. في حين، تساهم الأحداث الأساسية في تعضيد المتن الحكائي وتقويته سرديا.كما تحضر المؤشرات الجوية باعتبارها فضلات سردية تكميلية (كان الجو ممطرا وحزينا، أحس بقشعريرة برد تهاجم جسده النحيل...) ويعني هذا أن الأحداث الرئيسية هي حوافز ووظائف أساسية ومشتركة. بينما التفاصيل والوصف هي أحداث ثانوية ، ويمكن أن ندخل ضمنها المؤشرات الفضائية والجوية بشكل من الأشكال، أو تستقل عنها كما عند رولان بارت (R.Barthes) في مقاله الذي خصصه لدراسة السرد البنيوي. ومن جهة أخرى، يميز توماشفسكي بين الحوافز الديناميكية والحوافز القارة.بمعنى أن الحوافز الديناميكية هي التي تغير الوضعيات السردية داخل مسار الحكي، كأن ننتقل من وضعية الحب إلى وضعية الفراق، أو من وضعية انتصار إلى وضعية انهزام، إلخ...أما الحوافز الثابتة أو القارة، فهي التي لاتغير الوضعية. وهكذا، " يعتبر وصف الطبيعة والمكان والوضعية، ووصف الشخصيات وطبائعها إلخ، من وجهة نمطية، حوافز قارة؛ أما أفعال وتحركات البطل فهي، من الوجهة نفسها، حوافز ديناميكية. إن الحوافز الديناميكية هي، بالنسبة للمتن الحكائي، حوافز مركزية أو محركات.خلافا لذلك، يقع التأكيد، في المبنى الحكائي، على الحوافز القارة، أحيانا.إنه من الممكن، وبسهولة، توزيع الحوافز حسب أهميتها بالنسبة للمتن الحكائي.فالحوافز الديناميكية تأخذ الصدارة، تتلوها الحوافز الممهدة، فالحوافز التي تحدد الوضعية إلخ، وتبرهن المقارنة بين عرض مركز للسرد وآخر متراخ، عن أهمية الحافز بالنسبة للمتن الحكائي. " ويناء على هذا، يمكن التمييز أيضا بين شخصية دينامكية ونامية ومعقدة تتطور من وضعية إلى أخرى ، وشخصية ثابتة وقارة لاتتغير عبر مسار السرد . ومن ناحية أخرى، يمكن الحديث عن نوع آخر من الحوافز التي سماها توماشفسكي بحوافز التقديم ، وتسمى عند السيميائيين (گريماص مثلا) بالتطويع أو التحفيز، ويكون الحديث عنها حينما نكلف البطل أو شخصا ما بأداء مهمة ما بغية إنجازها ، كأن يطلب الملك من البطل إرجاع ابنته المخطوفة، أو يكلف البطل بأداء مهمة عسكرية بغية سحق العدو، وهكذا دواليك... هذا، ويشترط في العمل الأدبي أن يكون محفزا وخاضعا للتحفيز.أي: تترابط فيه الحوافز بشكل متسق ومنسجم ، ويكون هذا الترابط إما سببيا وإما زمنيا وإما غرضيا. وفي هذا، يقول توماشفسكي:" يجب على نظام الحوافز ، التي تشكل نسيج أغراض عمل ما ، أن يعبر عن وحدة جمالية. فإذا كانت الحوافز ، أو مركباتها، غير متسقة اتساقا كليا داخل العمل، أو بقي القارئ غير راض عن الصلة فيما بين هذا المركب والعمل بأجمعه، فإنه يقال إذ ذاك بأن هذا المركب لا يلتحم بالعمل.إذا كانت أجزاء العمل سيئة الاتساق، فإن العمل ينحل. وهذا يبين لماذا يجب أن يكون إدراج كل حافز مستقل أو كل مجموعة من الحوافز أمرا مبررا (محفزا).إن نظام الأنساق ، الذي يبرر إدراج حوافز معينة أو إدراج مجموعاتها، يسمى تحفيزا (Motivation)". وعليه، فالتحفيز أنواع عدة على مستوى التركيب النصي، أو بالنظر إلى طبيعتها أو خاصيتها، ويمكن إجمالها في أنواع ثلاثة: التحفيز التأليفي أو التركيبي(Compositionnelle): ثمة مجموعة من المحفزات- التي ترد في شكل حوافز مستقلة أو مؤشرات ثانوية أو إكسسوارات أو أوصاف - تساعد القارئ المتلقي على تصور القصة ، وتبين مراحل تركيبها.ويعني هذا أن هناك حوافز ومؤشرات سيميائية وجوية تساعد المتلقي على بناء القصة من البداية حتى النهاية. فحينما يوضع السيف على الجدار في بداية القصة، نعرف أن القصة ستنتهي بالموت. وينطبق هذا على المسدس الذي يوحي بالجريمة ، و الحبل الذي يوجد في الشجرة، وهو يؤشر على عملية الانتحار من بداية النص. كما تساعدنا حالة الجو على استكشاف الجو الرومانسي، إذا كان هنا حالة غروب، أو نتصور الموت ، إذا كان الجو ريحا أو إعصارا ... لكن قد تكون هناك مؤشرات زائفة توهمنا بأشياء غير حقيقية، كما يظهر ذلك جليا في الروايات البوليسية أو روايات الجريمة، فتكون تلك الحوافز خادعة ومزيفة، توهم القاري بغير الحقيقة. ومن ثم، " فإن أنساق التحفيز المزيف كثيرة الورود خصوصا في الأعمال القائمة على تقليد أدبي عظيم.إذ يعود القارئ على تأويل كل تفصيل من تفاصيل العمل بطريقة تقليدية.وتنكشف الذريعة، في النهاية، فيفهم القارئ أن كل تلك التفاصيل قد أدرجت لهدف وحيد: هو إيجاد حل غير متوقع. إن التحفيز الزائف هو أحد عنصر المعارضة الأدبية. بمعنى التلاعب بأوضاع أدبية معروفة تنتمي إلى تقليد أدبي متين، وتستعمل من طرف الكتاب بوظيفة غير تقليدية. " إذاً، فالتحفيز المؤلف هو تحفيز علاماتي، يرد في شكل مؤشرات بصرية وسيميائية وحالية، تساهم في تركيب القصة في مراحلها وتوقعاتها السردية الممكنة والمفترضة. التحفيز الواقعي (Réaliste): هو الذي يوهم بواقعية العمل الأدبي، وبصدق المتخيل في علاقته بالعالم الذي ينقله أو يعكسه. أي: نطالب كل عمل بوهم أولي ، على أساس أن يكون هذا العمل ، بعوالمه الممكنة، محتمل التحقق في واقع القارئ المرجعي أو الحسي. بمعنى أن يعقد القارئ مقارنة أو تطابقا مرآويا بين المتخيل والعالم الذي يعيش فيه ، باحثا عن أوجه الشبه بين الشخصيات المتخيلة والشخصيات الواقعية، فيعنى بمظاهر الصدق والحقيقة والصواب . وهكذا، يكتسي الوهم الواقع، بالنسبة لقارئ مطلع، " شكل مطلب احتمال.فعلى الرغم من معرفته التامة بالخاصية الابتداعية للعمل، فإن هذا القارئ يطالب بنوع من التطابق مع الواقع، ويرى قيمة العمل في هذا التطابق.وليس بإمكان القراء أن يتحرروا، سيكولوجيا، من هذا الوهم، نظرا لقوانين التركيب الفني. " وهكذا، فقد كانت الرواية الواقعية نموذجا صادقا للتماثل الحقيقي بين المتخيل الفني والواقعي الحسي المدرك ، بل يمكن القول بأن الأدب الفانطاستيكي يمكن أن يتضمن عالمين: عالما افتراضيا محتملا ، وعالما واقعيا حقيقيا ضمن عوالمه الفنية والجمالية والتخييلية. أي:" إن المحكيات العجيبة، في وسط أدبي متطور، تتيح إمكانية تأويل مزدوج للمتن الحكائي بموجب متطلبات التحفيز الواقعي: فمن الممكن فهمها، في الوقت ذاته، كأحداث واقعية وكأحداث عجيبة." وعليه، تخضع الروايات الواقعية، والروايات الطبيعية، والروايات التاريخية، وروايات العادات، وروايات الأدب الشعبي، وغيرها من النصوص والخطابات، لمنطق الواقعية الإيهامية، من خلال إيجاد تماثل حقيقي وواقعي بين المتخيل والواقع أو العالم الذي تنقله. ويمكن أن تتحقق هذه الإيهامية الواقعية، بشكل من الأشكال، حتى في المتخيلات غير الواقعية ، مثل: الأدب الفانطاستيكي، والخيال العلمي، والروايات المجردة، والروايات الميتاسردية، وغيرها من الروايات الحداثية...بشرط ممارسة فعل التأويل الرمزي. التحفيز الجمالي (Esthétique): يتعارض التحفيز الجمالي مع التحفيز الواقعي . فكل متخيل يتطابق مع الواقعي ، يندرج ضمن التحفيز الواقعي. وكل خطاب ينأى عن الانعكاس المرآوي، ويميل إلى الافتراض والاحتمال، ويتجاوز الواقع نحو عوالم غير مألوفة وخيالية وحلمية ، يندرج ضمن التحفيز الجمالي. بمعنى إذا كان التحفيز الواقعي يربط الأدب بالواقع أو العالم الحسي المدرك ، فإن التحفيز الجمالي يعنى بالأدب في حد ذاته أو يهتم بالمتخيل الإبداعي نفسه، دون أن تكون له صلة مباشرة بالواقع، كما هو حال الرواية الميتاسردية، فالمبدع لايحاكي الواقع الحسي، بل يعنى بمحاكاة واقع الأدب نفسه (الواقع الرمزي الجمالي المحتمل). وما اختلاف المدارس الأدبية والفنية، ونشوء الصراع بين القديم والجديد، إلا تعبير حقيقي عن الاختلاف على مستوى التحفيز الجمالي. الحبكة والوضعيات السردية: يعرف المتن الحكائي بأنه عبارة عن مجموعة من الوضعيات السردية التي تخضع للتحول إيجابا وسلبا، اتصالا وانفصالا. وبالتالي، تشكل هذه الوضعيات السردية ما يسمى بالحبكة السردية (Intrigue) التي تتضمن مجموعة من الوضعيات الأساسية هي: وضعية الاستفتاح أو الاستهلال أو ما يسمى أيضا بالوضعية البدئية، ووضعية الاضطراب (العقدة والمشكلة)، ووضعية الصراع ، سواء أكان داخليا (صراع نفسي) أم خارجيا( صراع واقعي)، ووضعية الحل، ووضعية النهاية. وهكذا، يمكن " وصف تطور المتن الحكائي- حسب توماشفسكي- بأنه أشبه بمرور من وضعية إلى أخرى؛ نظرا لاتصاف كل وضعية بصراع المصالح ، أو بالصراع بين الشخصيات .إن التطور الجدلي للمتن الحكائي هو نظير تطور السيرورة الاجتماعية والتاريخية، التي تقدم كل مرحلة تاريخية جديدة كنتيجة لصراع الطبقات الاجتماعية في المرحلة السالفة، وفي الوقت نفسه، كساحة تتضارب فيها مصالح المجموعات الاجتماعية التي تؤلف النظام الاجتماعي القائم. إن تناقض المصالح والصراع بين الشخصيات يترافق بتجمع هؤلاء، وبتحديد كل مجموعة منهم لخطة أعمالها ضد المجموعة الأخرى.إن تطور الفعل، ومجموع الحوافز التي تميزه، يسمى حبكة (تختص الحبكة بالشكل الدرامي)." ويعني هذا أن الحبكة السردية هي انتقال من وضعية حدثية إلى أخرى، أو هي تطور في الوضعيات السردية. وأكثر من هذا، فالوضعية هي بمثابة صراع بين الشخصيات حول المصالح أو حول المواضيع ذات القيمة ، كما قال السيميائيون فيما بعد. كما أن الوضعيات قد تتعقد عبر مسار المتن الحكائي، أو تنفرج أزماتها وتتلاشى، أو تتشابك وتخلق من جديد. فثمة حركية درامية متوترة دائما. وغالبا ما تنتهي القصة بانتصار الخير، وسقوط الشر، أو بانتصار الفضيلة، وانهيار الرذيلة... هذا، وتتميز البداية الاستهلالية بالتوازن الذي سرعان ما يتحول إلى اضطراب في شكل عقدة ومشكلة وانتهاك، ثم تنتهي العقدة بانفراج وحل. أي: تعرف الحبكة مجموعة من التحولات والتقلبات أو المرور من وضعية إلى أخرى. علاوة على ذلك، يتميز المتن الحكائي بوجود شخصيات متصارعة ومتناقضة على مستوى القيم والمصالح والأفكار والأهواء. ويسبب هذا الصراع في القيم ما يسمى بالتوتر. وفي هذا السياق، يقول توماشفسكي:" كلما كانت الأزمات التي تميز الوضعية معقدة ، وكانت الشخصيات متعارضة كلما كانت الوضعية متوترة. إن التوتر الدرامي يزداد بقدر ما يزداد قربا موعد انقلاب الوضعية.ويتم الحصول على هذا التوتر، عادة، بالتهيؤ لذلك الانقلاب.هكذا، تكون للأعداء الذين يريدون موت البطل، في رواية المغامرات ...، اليد الطولى دائما.لكن، في اللحظة الأخيرة، وعندما يغدو الموت وشيك الوقوع، يتحرر البطل فجأة ، فتنهار المكائد.إن التوتر يزداد بفضل التهيؤ الذي أشرنا إليه. " وقد يتخذ التوتر طابعا جدليا لوجود الأطروحة ونقيضها وتركيبها النهائي. علاوة على هذا، قد يبدأ المتن الحكائي بوضعية ابتدائية تكون مدخلا حكائيا أو عرضا (Exposition)، كأن تحدد حالة الشخصيات المختلفة، وتعرف بها إجمالا أو تفصيلا، ثم تبين علاقاتهم، أو تصف المكان، أو تقدم الحدث الرئيس.بيد أن الحكي لايبدأ دائما بهذا المدخل أو بهذا العرض. بمعنى أن هناك عرضا مباشرا، حينما تبدأ الحكاية بتقديم الشخصيات والوقائع الرئيسية، وهناك عرض مؤجل (Exposition retardée)، حينما يؤجل السارد وضعية التعريف إلى محطة أخرى، قد تكون في وسط السرد أو في نهايته، ويكون الحل بمثابة حل للوضعيات السردية . هذا، وترتب الأحداث، داخل المتن الحكائي، إما بطريقة سببية، وإما بطريقة زمنية، وإما تخضع للتشظية والخلخلة، كما يظهر ذلك في النصوص السردية الجديدة والحداثية. وبالتالي، لا تقتصر الأحداث على التنظيم الكرونولوجي الذي يمتد من الحاضر نحو المستقبل، فقد تخضع هذه الأحداث للانحرافات الزمنية، إما بالعودة إلى الماضي(الفلاش باك)، وإما باستشراف المستقبل. محددات البطل: لايمكن إدراك الحوافز السردية إلا بوجود الشخصيات الرئيسية والثانوية والعابرة، و" يعتبر تقديم الشخصيات، وهي نوع من الدعائم الحية لمختلف الحوافز، نسقا شائعا لتجميع وربط هذه الأخيرة.إن إلصاق حافز معين بشخصية معينة يسهل عملية انتباه القارئ. كما أن الشخصية تقوم بدور خيط مرشد، يسمح بالاسترشاد بين ركام من الحوافز، ودور وسيلة مساعدة لتصنيف وتنظيم الحوافز المختلفة. ومن جهة أخرى، فهناك أنساق تستطيع بفضلها أن نعرف مكاننا وسط جمهرة من الشخصيات، فهناك أنساق نستطيع بفضلها أن نعرف مكاننا وسط جمهرة من الشخصيات، وعلاقاتها المعقدة.إنه من اللازم أن نقدر على التعرف على شخصية؛ ومن جانب آخر، فإن هذه الشخصية يجب أن تعمل، بهذا القدر و ذاك، على تركيز انتباهنا." هذا، ويتحدد البطل باسم العلم الذي يميزه عن باقي الشخصيات تعريفا وتحديدا وتوسيما. كما يقوم الوصف بتشكيل شخصية البطل فيزيولوجيا ونفسيا وأخلاقيا واجتماعيا وقيميا. كما تعبر أفعال البطل عن طبيعة الشخصية ومزاجها وحالتها النفسية . وقد يدرك وصف البطل بطريقة مباشرة أو بطريقة غير مباشرة، " فوصف البطل يمكن أن يكون مباشرا، بمعنى أننا نتلقى معلومات عن طبيعته إما من الكتب، أو من الشخصيات، أو في إطار وصف- ذاتي (الاعترافات) يقوم به البطل.ونجد، في غالب الأحيان، وصفا غير مباشر: فالمزاج يتجلى من خلال الأفعال أو سلوك البطل.وتقدم هذه الأفعال- في بعض الأحيان- في بداية الحكاية، باستقلال عن خطاطة المتن الحكائي ، وذلك بهدف واحد هو وصفه.وهذا ما يفسر لماذا تعتبر هذه الأفعال الخارجية عن المتن الحكائي جزءا من العرض." ويمكن التمييز بين الشخصية الثابتة التي لاتتغير والشخصية الديناميكية المتحركة، أو يمكن التمييز أيضا بين الأوصاف والخصائص الثابتة في البطل، والأوصاف المتغيرة عبر مسار الحكي. ويمكن كذلك الحكم على الشخصية البطلة، وإدراك مواصفاتها، من خلال معجمها، وكلماتها المختلفة، وسجلاتها اللغوية، والموضوعات التي تتناولها في أثناء حديثها. هذا، ويهتم المتلقي بالبطل من خلال قاعدة النفور والاستلطاف، وفي ضوء المعايير الأكسيولوجية والأخلاقية والقمية والإنسانية. بمعنى أن القارئ يشارك في بناء النص من خلال مناصرة البطل الذي يستلطفه ويتعاطف معه أخلاقيا وإنسانيا. ومن هنا، فالشخصية" التي تتلقى الصيغة الانفعالية الأشد قوة وظهورا تسمى البطل. ويتابع البطل من طرف القارئ بأكبر قدر من الاهتمام، نظرا لأنه يثير تعاطفه أو استلطافه، أو فرحه أو حزنه.كما يترابط البطل بنظام الأفعال والحوافز في تدرجها وترابطها وإنجازها، مقارنة بباقي الشخصيات الأخرى. ويجب ألا ننسى بأن العلاقة الانفعالية تجاه البطل تنبعث من العمل الأدبي ذاته.ولهذا، يمكن للكاتب أن يثير الاستلطاف نحو شخصية ربما يبعث مزاجها في الحياة الواقعية لدى القارئ النفور والتقزز.فالعلاقة الانفعالية بالبطل ناتجة عن البناء الجمالي للعمل الأدبي، ولا تتطابق ضرورة والقاعدة التقليدية للأخلاق أو الحياة الاجتماعية – إلا في الأشكال البدائية." وعليه، يقدم توماشفسكي قراءة نصية شكلانية وبنيوية وسيميائية للشخصية والبطل معا، بعد أن كانت الدراسات النقدية، في القرن التاسع عشر الميلادي، تدرس الشخصية دراسة ساذجة، في معزل عن النص الأدبي، وضمن رؤى سوسيولوجية وتاريخية و نفسية و إيديولوجية .. السارد وعلاقته بالسرد: إذا كان الكاتب إنسانا بشريا من لحم ودم، فإن السارد أو الراوي هو كائن ورقي تخييلي، وإذا كان الكاتب أو المؤلف كائنا خارجيا، فإن السارد هو كائن داخلي يتولي مهمة السرد داخل المتن الحكائي. وبالتالي ، يتخذ الراوي أو السارد عدة صور، فقد يكون راويا موضوعيا محايدا يقوم بوظيفة الإخبار (سرد موضوعي)، أو يكون الراوي شخصية مشاركة داخل السرد (سرد ذاتي داخلي)، أو يكون الرواي ساردا خارجيا يخبر من قبل شخصيات القصة، وقد يكون السارد شاهدا أو مستمعا أو مشاركا في الفعل، وقد لايكون له أي دور في السرد... وعلى الرغم من ذلك، فهناك نمطان من السرد: سرد موضوعي وسرد ذاتي. فالسرد الأول يعمد فيه الراوي إلى نقل مجموعة من المعارف حول الشخصية داخليا وخارجيا، يعجز المتلقي عن معرفتها دون السارد، كأن هذا الراوي أشبه بإله مختف، حيث يملك معرفة مطلقة، تشمل الداخل والخارج معا، ويستعمل ضمير الغياب. في حين، تكون معرفة الراوي الداخلي معرفة داخلية متساوية مع الشخصية، وتكون الرؤية بعيني الراوي الداخلي." ويمكن للنظامين، أيضا، أن يختلطا.ففي السرد الموضوعي، يتتبع الراوي، عادة، مصير شخصية معينة، فنعرف، بطريقة متتابعة، ما فعلته أو عرفته هذه الشخصية.فيما بعد، ينتقل انتباهنا من هذه الشخصية إلى أخرى، ومن جديد نطلع، بطريقة متتابعة، على ما فعلته أو سمعته هذه الشخصية.هكذا، يكون البطل هو الخيط المرشد للسرد.بمعنى أنه يكون أيضا راويه؛ أما الكاتب، متكلما باسم الراوي، فيحرص، في الوقت نفسه، على ألا يخبرنا بالأشياء التي لايستطيع الراوي الإخبار بها. في بعض الأحيان، تكون وضعية الراوي، كخيط مرشد للسرد، كافية لتحديد بناء العمل بكامله .ومع بقاء مادة البناء الحكائي على حالها، فإن البطل يمكن أن يتعرض لبعض التغييرات، إذا ما تابع الكاتب شخصية أخرى." وبهذا، يكون توماشفسكي من السباقين إلى طرح المنظور أو الرؤية السردية في مجال علم السرد، لتجد تصوراته القيمة آذانا صاغية عند الكثير من علماء السرد لتعميقها ، خاصة عند جيرار جنيت في كتابه (صور 3/ Figures3). الفضاء السردي: يقصد بالفضاء السردي الزمان والمكان معا، فلايمكن الفصل بينهما، وقد أثبتت النظرية النسبية لإنشتاين ، في القرن التسع عشر، مدى التداخل بينهما في وحدة الزمكان، أو ما يسمى عند ميخائيل باختين بالكرونوطوب(Chronotope)، بعد أن كان الفصل بينهما شائعا في القرون السابقة . يقول باختين عن الكرونوطوب:" يعين الوحدة الفنية للعمل الأدبي في علاقاته مع الحقيقة، كما يتضمن أيضا وباستمرار مكونا أساسيا، بحيث لايمكن عزله عن مجموعة الكرونوطوب الأدبي إلا بتحليل تجريدي.ذلك أنه في الفن والأدب عموما، كل التعريفات الزمكانية هي غير منفصلة عن بعضها، وتحمل دائما قيمة انفعالية . إن التفكير على مستوى التجريد يمكن بالتأكيد أن يتأمل الزمان والمكان منفصلين، ويقصي القيم الانفعالية.إلا أن التأمل الحي (الذي يعني التأمل الرزين غير المجرد) في أي عمل فني، لا يجزىء شيئا، ولا يقصي شيئا، إنه (أي التفكير الحي) يضبط الكرونوطوب في كليته واكتماله، ذلك أن الفن والأدب مشبعان بالقيم الكرونوطوبية في مختلف الدرجات والأبعاد.وكل باعث أو مكون أساسي في أي عمل فني ينبغي أن يقدم مثلما تقدم أي قيمة من قيمه." وعليه، يمكن الحديث عن أنواع ثلاثة من الأزمنة التخييلية في مجال السرد: زمن القصة أو المتن الحكائي، وزمن السرد أو زمن المبنى الحكائي، وزمن القراءة أوالتلقي. ولكن ما يهمنا – هنا- زمن القصة وزمن السرد. فزمن القصة أو المتن الحكائي هو الذي يحدد لنا زمن وقوع الحدث القصصي .أي: نجيب عن السؤال التالي: متى وقعت القصة؟ أما زمن السرد، فهو زمن الحكي الذي يجيب عن السؤال التالي: ما هو الزمن الذي استعمله الراوي لسرد القصة؟ ويعني هذا أن ثمة زمنين: زمن المضمون (زمن القصة) ، وزمن الشكل (زمن الخطاب السردي). وفي هذا الصدد،يقول توماشفسكي:" يجب أن نميز، في العمل الأدبي، زمان المتن الحكائي من زمان الحكي.فالزمن الأول هو الذي يفترض أن الأحداث المعروضة قد وقعت فيه؛ أما زمن الحكي، فهو الوقت الضروري لقراءة عمل (مدة عرض).إن هذا الزمن الأخير يوازي المفهوم الذي لدينا عن حجم العمل (Dimension)" ويتحدد زمن المتن الحكائي أو زمن القصة من خلال التوقف عند المؤشرات الزمنية للفعل الدرامي المباشرة والضمنية، أو المطلقة ( وضع الأحداث في زمن)، و النسبية ( توظيف بعض المؤشرات التي لها علاقة بالزمن(سنتان فيما بعد إلخ...)، أو بواسطة مؤشرات المدة الزمنية التي تشغلها الأحداث (دام الحديث نصف ساعة...)، أو بطريقة غير مباشرة (وصلا إلى المكان في اليوم الخامس)، أو بواسطة خلق انطباع بهذه المدة الزمنية التي تفهم ضمنيا أو عبر إشارات ثانوية. أما فيما يتعلق بالمكان ، فيمكن الحديث عن حالتين مكانيتين: حالة قارة أو ثابتة عندما تجتمع كل الشخصيات في المكان نفسه، كاجتماع الشخصيات كلها في فندق ما ( فندق مادام فوكيه (Vauquer) في رواية الأب كوريو(Père Goriot) لبلزاك)، والحالة الحركية (Cinetique) عندما تبدل الشخصيات الأمكنة للتوصل إلى لقاءات ضرورية (الأمكنة في روايات وحكايات الأسفار ( حكايات سندباد مثلا)). أنساق المبنى الحكائي: يتكون النسق من مجموعة من العناصر البنيوية التي تحدد النظام التكويني للنص أو العمل الأدبي، وقد تكون تلك العناصر ثابتة أو متغيرة. ومن هنا، تصبح الأنساق معايير للاحتكام الفني والأدبي والجمالي. ومن ثم، تتحدد المدرسة الأدبية بمدى محافظتها على نسق أصولي ما، أو مدى خرقها وانزياحها عن هذا النسق الثابت محافظة أو تجديدا. ويعني هذا أن " كل قاعدة أصولية تكون صالحة لتحديد نسق. وفي هذا الصدد، فكل شيء في الأدب، بدءا من اختيار المادة الغرضية، والحوافز المستقلة، وتوزيعها ووصولا إلى نظام العرض، واللغة، والمفردات إلخ- يمكن أن يصبح نسقا أصوليا، وهكذا يقنن استعمال بعض الكلمات، ويمنع بعضها الآخر، كما يقنن اختيار بعض الحوافز، وينبذ بعضها الآخر إلخ.إن وجود الأنساق الأصولية رهين بسهولتها ؛ فهي تغدو تقليدية نظرا لتكرارها، وعندما تصير ضمن الإنشائية المعيارية، فإنها تقام كقواعد ضرورية.غير أنه ليس يوجد أصل يمكن أن يستهلك كل الإمكانيات أو يتوقع كل الأنساق الضرورية لخلق عمل أدبي كامل.وإلى جانب الأنساق الأصولية ، هناك دائما أنساق حرة، ولا تتصف بالضرورة، تظل خاصة ببعض الأعمال الأدبية، أو بعض الكتاب، أو بعض المدارس، إلخ..." وتساهم الأنساق الأصولية بنوعيها: الإجبارية والممنوعة، في تحديد إشكالية التقليد والحداثة، وإشكالية الأصالة والمعاصرة، وثنائية الانغلاق والانفتاح، وفي تبيان تجدد المدارس والحركات والاتجاهات الأدبية والفنية.أي:" إن الأنساق الأصولية، في العادة، تنفي نفسها من تلقاء ذاتها.وقيمة الأدب تتجلى في جديده وأصالته.وكل رغبة في التجديد تعني، بصفة عامة، أن ننقل الأنساق الأصولية التقليدية المقولبة من فئة الأنساق الإجبارية ، إلى فئة الأنساق الممنوعة – وهكذا، تتولد تقاليد جديدة وأنساق جديدة.غير أن هذه العملية لاتمنع الأنساق التي كانت محظورة من قبل أن تنبعث بعد جيلين أو ثلاثة أجيال. وحسب تقدير الوسط الأدبي للأنساق، فإنه يمكن تصنيف هذه الأخيرة إلى مدركة وغير مدركة. إن النسق يمكن أن يكون مدركا لسبين اثنين: أقدميته البالغة أو جدته البالغة. فالأنساق الخلقة، القديمة، المتداعية تكون مدركة؛ مدركة كبقيا مزعجة، وكظاهرة فقدت معناها لكن تستمر في الوجود بسبب جمودها، كجسم ميت بين كائنات حية .خلافا لذلك، تصدمنا الأنساق الجديدة بطابعها غير المعتاد، خصوصا عندما تستعمل في حصيلة كانت، إلى ذلك الحين محظورة عليها؛ مثل استعمال الكلمات السوقية في الشعر الراقي." وعلى العموم، تنمو الأنساق البنيوية وتتطور ، ثم تموت، ثم تتجدد. وفي هذا، يقول توماشفسكي:" هكذا، تولد الأنساق ، تعيش، تشيخ، ثم تموت.وتبعا لتطبيقها، فإنها تغدو آلية، فتفقد وظيفتها ولا تعود فعالة.وسعيا لقهر آلية النسق، فإنه يجدد بفضل وظيفة جديدة أو معنى جديد. إن تجدد النسق هو شبيه بالاستشهاد بقول كاتب قديم في سياق جديد، وبدلالة جديدة." وعلى العموم، يتحدد النص أو العمل الأدبي بوجود نسق بنيوي سردي معين، تتداخل فيه المكونات الثابتة والسمات المتغيرة جنبا إلى جنب. الأنواع الأدبية: إذا كان الأدب الحي هو تجمع ثابت للأنساق، فإن الأجناس والأنواع الأدبية تتحدد انطلاقا من أنساق معينة هي التي تميز نوعا أدبيا عن نوع آخر. ويتفرع الجنس إلى النوع والنمط. ومن ثم، تتميز الأنواع الأدبية بمجموعة من الملامح والسمات والمكونات الثابتة والمتغيرة، وقد تتمثل هذه المعايير التمييزية في طبيعة الكلمة ، أو الأسلوب، أو نوع الخطاب، أو حسب السجل اللساني، أو حسب الغرض والوظيفة والمقصدية ، أو حسب الشكل، أو حسب الصيغة والمضمون، أو حسب الكلام واللغة، أو حسب البلاغة، أو حسب المتلقي، أو حسب التصوير ... ويمكن الاحتكام إلى القيمة المهيمنة للتمييز بين الأنواع الأدبية، وهذا المعيار موجود أيضا لدى رومان جاكبسون (JAKOBSON) . وتعني هذه الخاصية هيمنة عنصر أو ملمح داخل نوع أو جنس أدبي ما.فعندما تهيمن الوظيفة الجمالية على النص، فنحن آنئذ أمام نص إبداعي. وحينما تهيمن الوظيفة التأثيرية، فنحن أمام خطبة - مثلا-. وحينما تهيمن الوظيفة الوصفية، فنكون أمام نص نقدي. وحينما تهيمن الوظيفة المرجعية، فنكون أمام نص إخباري كالتاريخ - مثلا-. وحينما تهيمن الوظيفة الحفاظية، فنحن أمام حوار تواصلي أو مكالمة هاتفية. وحينما تهيمن الوظيفة الانفعالية، فنحن أمام نص شعري. وحينما تهيمن الوظيفة الأيقونية البصرية، فنحن أمام صورة أو مخطط سيميائي ما... وهكذا، فملامح النوع، " بمعنى الأنساق التي تنظم تركيب العمل الأدبي، هي أنساق مهيمنة.أي: إن كل الأنساق الأخرى الضرورية لخلق المجموع الفني تكون خاضعة لها.إن النسق المهيمن يسمى " المهيمنة". ومجموع المهيمنات يمثل العنصر الذي يسمح بتشكل نوع معين. إن هذه الملامح متعددة الصلاحية، وهي تتقاطع ولا تسمح بتصنيف منطقي للأنواع حسب معيار وحيد." وعليه، فالأنواع الأدبية تنمو، وتعيش، وتموت، وتنقرض، وتنبعث من جديد مثل الكائن البشري. لذا، تنبني الأجناس والأنواع الأدبية على مجموعة من القوانين ، مثل: مبدإ المشابهة، ومبدإ الاختلاف، ومبدإ الثبات، ومبدإ التغير، ومبدإ التحول، ومبدإ التباين، ومبدإ التطور، ومبدإ التدرج، ومبدإ الاشتراك، ومبدإ الترابط،ومبدإ التفكك والتحلل، ومبدإ التوالد والتناسل، ومبدإ التنظيم، ومبدإ التعاقب، ومبدإ الحلول، ومبدإ التسرب، ومبدإ الوظيفة، ومبدإ التمييز ، ومبدإ التصنيف، ومبدإ التنميط، ومبدإ التفريع، ومبدإ التنويع، ومبدإ الهيمنة... ويستلزم تصنيف الأجناس والأنواع الأدبية والفنية الأخذ بالمنهج الوصفي للتمييز بينها على أسس المبنى والشكل ، وتوزيع المادة في الأطر المحددة. وبالتالي، يكون هذا التصنيف بنيويا أو شكليا أو سيميائيا. و" إنه من الواجب أيضا أن نلاحظ بأن تصنيف الأنواع هو عمل معقد .فالأعمال الأدبية موزعة في طبقات شاسعة تتمايز، بدورها، إلى أنماط وأصناف. في هذا الاتجاه، سنذهب، نزولا في سلم الأنواع، من الطبقات المجردة إلى الفوارق التاريخية الملموسة ... وحتى إلى الأعمال الأدبية المفردة." وعليه، فإن نظرية الأدب هي التي تدرس الأجناس والأنواع والأنماط الأدبية والفنية وفق مقاييس التصنيف والتجنيس والتفريع. ومن ثم، يبقى معيار المكونات والسمات، أو ما يسمى أيضا بالأركان والشروط، من أهم المعايير النصية الموضوعية للتمييز بين الأجناس والأنواع والأنماط . منهجية توماشفسكي في تحليل النصوص السردية: تعتمد المنهجية البنيوية السردية والشكلانية ،عند بوريس توماشفسكي، على مجموعة من الخطوات الإجرائية على النحو التالي: قراءة النص السردي قراءة عميقة بغية فهم الغرض العام أو الدلالة المحورية التي ينبني عليها النص. تقسيم النص إلى مقاطع وفقرات ومتواليات مذيلة بعناوين غرضية أو تيمات جزئية. التمييز بين المتن الحكائي والمبنى الحكائي أو بين القصة والخطاب. دراسة عناصر الحبكة السردية، واستجلاء وضعياتها (وضعية الافتتاح، ووضعية الاضطراب، ووضعية الصراع، ووضعية الحل، ووضعية النهاية)، ثم تصنيف الحوافز والتمييز بينها( الحوافز الأساسية، والحوافز الثانوية، والحوافز الديناميكية والحوافز القارة، وحوافز الوضعيات والحوافز الممهدة)، ثم دراسة أنماط التحفيز ( التحفيز التأليفي، والتحفيز الواقعي، والتحفيز الجمالي)، ثم تبيان نوع الترتيب الحدثي (سببي أو زمني). دراسة الشخصيات الديناميكية والثابتة، وتبيان مواصفاتها ومحدداتها الجسدية والنفسية والأخلاقية والاجتماعية ، والتوقف عند أسمائها العلمية ووظائفها داخل المسار السردي، وتحديد وضعياتها الثابتة والنامية، ثم التركيز على البطل ، بتبيان مواصفاته الكمية والكيفية، ثم مقارنته بالشخصيات الأخرى في القصة أو الرواية. تحليل الفضاء السردي، من خلال التمييز بين الأمكنة القارة الثابتة وأمكنة الانتقال، ثم دراسة زمن القصة وزمن السرد، باستجلاء مختلف المؤشرات الزمنية الصريحة والضمنية، ثم دراسة المدة والسرعة بطءا (الوقفة والمشهد) وسرعة (حذفا وتلخيصا)، بله عن دراسة الانحرافات الزمنية (الاسترجاع والاستشراف). تبيان علاقة السرد بالسارد، من خلال التمييز بين الكاتب والراوي، وتحديد وظائف الراوي ومنظوراته ووجهات نظره وأصنافه وأشكاله داخل السرد. دراسة الوصف ضمن المبنى الحكائي ، من خلال التوقف عند وصف الشخصيات، ورصد الحوافز الثابتة القارة والمؤشرات الوصفية التي تساهم في تأزيم الأحداث وتعضيدها متنا ومبنى. استجلاء مكونات النسق السردي داخل النص، من خلال التوقف عند مكوناته الثابتة وسماته الثانوية، وتبيان طبيعة النسق: هل هو خاضع للقاعدة أم هو انتهاك للقاعدة؟وهذا له علاقة بالتقليد والتجديد الأدبي. استخلاص مكونات التجنيس الثابتة والثانوية داخل النص السردي، وتصنيف أنساقه ضمن جنس أو نوع أو نمط أدبي معين.وهنا، لابد من الاحتكام إلى معايير نظرية الأدب، من خلال التحليل النصي البنيوي والشكلاني للنصوص. وعلى العموم، يلاحظ أن توماشفسكي لم يدرس، ضمن خطاطته السردية، ما يسمى بالصيغة (Mode) التي تعنى بتبيان أصناف الأسلوب، كأن نميز بين الأسلوب المباشر(الحوار) ، والأسلوب غير المباشر (السرد)، والأسلوب غير المباشر الحر (الجمع بين أقوال الشخصية والسارد)، والحوار الداخلي(المنولوج أو حوار قولي أو مناجاة باطنية)، والحوار الذهني(حوار فكري داخلي). ويمكن الحديث أيضا عن طبيعة الكلمات وسجلاتها اللغوية واللسانية، وحقولها الدلالية والمعجمية، ثم دراسة بنية الجملة داخل مسار السرد. الخاتمة: وخلاصة القول، يتبين لنا ، مما سبق ذكره، بأن بوريس توماشفسكي قد قدم، في مقاله القيم (نظرية الأغراض) الذي نشر سنة 1925م، تصورا منهجيا واضحا حول علم السرد، أو طرح مقاربة بنيوية شكلانية لدراسة السرد بطريقة علمية وموضوعية.وبهذا، يكون من الرواد الأوائل الذين سبقوا إلى تأسيس معالم علم السرد (Narratologie). وبهذا، يكون قد هيأ الأرضية للبنيوية الفرنسية لكي تتمثل آراءه وتصوراته النظرية والتطبيقية في تحليل النصوص تحليلا وصفيا. ويلاحظ أن منهجيته الشكلانية تتسم بالعمق ، والتفصيل، والرؤية الشمولية في معالجة مختلف مكونات السرد، واقتراح منهجية بنيوية سردية عملية في مقاربة النصوص والخطابات، من خلال التأرجح بين مكونات القصة والخطاب، أو مكونات المتن الحكائي والمبنى الحكائي، أو مكونات المضمون والشكل. بيد أنه أهمل عنصر الصيغة الذي يحيلنا على الأسلوب واللغة والكلام والجملة...وقد خصص له جيرار جنيت- فيما بعد- فصلا خاصا به في كتابه (صور 3). وعليه، فمن يقرأ الكتابات النقدية في مجال السرد عند كل من: رولان بارت، وكلود بريمون، وجيرار جنيت، وفيليب هامون ، وگريماص، وجوزيف كورتيس، وغيرهم، فسيجد بصمات بوريس توماشفسكي واضحة بشكل دقيق، بطريقة صريحة أو ضمنية.