توطئة تطرح جدلية الكتابة في قطبيها : الإبداع والنقد إشكالات عميقة مرتبطة أساسا بثنائية متفرعة عن مفهوم ملتبس يعتبرها، أولا : تشكيلا ذاتيا و حرا للموجودات والتصورات عبر اللغة، وثانيا : تمَثّلا موضوعيا وموجها عبر تراكمات واعية للذات الكاتبة، ويبدأ الإشكال من المحاولات الفاشلة والواهمة نحو تحديد معيارٍ قارٍّ للكتابة ، والتي شحذت عدّتها النقدية لرسم معالم واضحة للفعل الإبداعي وقوالب موجهة من جهة ومحددة من جهة أخرى، ولعل التنظيرات المتراكمة بخصوص تحديد الأماكن الفاصلة في ألوان النوع الأدبي المتعدد، نجحت إلى حد كبير في بناء هذا التراكم النّقدي الكفيل بإنتاج النص النمطي وتوجيهه إلى القالب المرصود له مسبقا؛ إلا أن الأدب بطبيعته المنفلتة ، فرض سلطته الأخيرة، وظل دائما مائعا نزقا، متملصا من سطوة التجنيس، ولربما يرجع ذلك إلى الذات الكاتبة وخاصيتها النرجسية العنيدة والمتحررة، ولنا أن نتساءل في إطار تصور عام يحكمه إشكالُ الأسبقية في الوجود: النّص أو الميعار، الانزياح أو القاعدة ، موجهين التحليل تحت حقيقة صارمة: ينبع التراكم النقدي التنظيري والتقعيدي للأدب مما وفرته النصوص الإبداعية الأولى من إمكانيات نقدية جمة تجعل الإبداع في الأساس هو المتحكم في توجيه القاعدة . وقد تنبّه النقد في مرحلة قريبة إلى هذه الإشكالات تنبها فرضته نصوص اختلفت عن بنات جلدتها، في تعميق هذا الالتباس الذي يمكن رصده من زاويتين : الأولى : أنها نصوص فرضت انتماءها إلى أنواع أدبية متباينة عبر تداخلٍ لا يمكن تجاهله، ولكنها في نفس الوقت اشتركت في مقومات للإبداع وآليات للكتابة تحكمها سلطة النوع وحتمية التجنيس . وأصبح النقد يتحدث عن المقامة والقصة، والرواية والحكاية ، والقصة القصيرة جدا ، ولكنه يدخلها جميعا في باب السرديات. الثانية: أنها نصوص دفعت النقد إلى كسر الجدار الصارم للنوع الأدبي في كثير من الأحيان، وأصبح الحديث عن تداخل الأجناس الأدبية ، وتداخل مناهج تحليلها، ومنها البحث عن السردي داخل الشعري والشعري داخل السردي. وبين هذا وذاك تطالعنا نصوص امتنعت عن هذه الرؤى وخلقت لنفسها فضاء نقديا مفترضا خاصا، ربّما لم يُحدد بعد بالشكل المطلوب ، إذْ أنها تخلق ارتباكا واضحا لدى الآليات التي تحاول محاصرتها أو القبض عليها لتدخلها سجن النمط الأدبي. وأرى أن " عناكب من دم المكان" كإصدار أدبي وإبداعي يحمل على غلافه تصنيف كلمة (نصوص) هو مُنجز يدخل في هذا الإطار، ويخلق استقلاليةً تحيل إلى تعدد الرؤى النقدية في قالب التجنيس، فلعلّ من النقاد من رآه (مجموعة قصصية)، ومنهم من اعتبره (رواية) وغيرها من التصورات التي تؤكد الارتباك سالف الذكر، وتضمن للمنجز أن يكون ضِمن النصوص المتعددة القراءات . بداية نتكئ على فرضية نقترحها لهذه المقاربة : ألا يمكن اعتبار ما نستثنيه من القاعدة، قاعدةً جديدة يجب تبنّيها، إذا حكمها مبدأ تراكم الاستثناءات اعتبارا لمفهوم الوظيفة المهيمنة ؟، وهل ينجح النّص السّردي المعيارُ ، أن يكون مرجعا حاسما للظفر بحلِّ عقدة النوع الأدبي باعتباره قالبا نهائيا وضابطا لكلّ مقومات الكتابة القصصية. من المُرجّحِ بشيء من التفاؤل أن يفشل الجزء الثاني من الفرضية على الأقل في السياق الحالي . الشاعر ساردا أو منطق الحكي في "عناكب من دم المكان لقد أكدت نظرية المنهج الشكلي على ضرورة توفر الغرض في البناء الحكائي ، والخضوع لمبدأ السببية والنظام الزمني ، استحضارا للحوافز ( (Les motifs كدعامة ضرورية لإماطة عالم القص، وهي "حوافز مشتركة" و"حوافز حرة،" تحيلنا على التفريق بين المتن الحكائي باعتباره نقل الشّكل الواقعي بحذافيره كمادة أولية للحكاية في القالب اللغوي اللاّزم، وبين المبني الحكائي وهو نظام ظهور الأحداث في الحكي ذاته أي طريقة عرض القصة في مستواها الفني، لا كما يُفترض أنها جرت في الواقع. وعبد السلام المساوي لم يلتزم تماما بهذه الحوافز الأساسية المشتركة التي يفترضها منطق الحكي، وإنما أمعن في استحضار الحوافز الحرة كما يُسمّيها "تشوماتفسكي"؛ وإمعانه ذاك، ناتج عن رغبة ملحة في خلق أحداث خاصة غير كاملة، وليست لها أهمية في ذاتها إلاّ باعتبارها سندا ضروريا لنقل تصورات ومواقف الذات الكاتبة، التي كانت حريصة جدا أن نشعر بما خَبِرَتْهُ من دفقاتٍ وجدانية عميقة وخاصة جدا إلى حدِّ غرابتها ؛ ويعتمد الكاتب في تنزيل هذه التقنية على خداعٍ جميلٍ في الكتابة يحفل بالمبنى الحكائي دون التدقيق في رصد المتن الحكائي، إذ يبدو أنّ غرضه الأسمى لم يكن منصبا على نقل أحداث دقيقة مسترسلة تخضع لمنطق الحكي، وإنما في نقل حالة وجدانية دافقة تتصل بالذات أساسا، لكنها ترتبط عميقا بالأمكنة والأزمنة والشخوص في الوقت ذاته، وارتباطا بذلك عمد الكاتب إلى استثمار تقنية (التحفيز La motivation ) بأنواعها الثلاثة " التحفيز التأليفي (compositionnelle) والتحفيز الواقعي، والتحفيز الجمالي "(1)، وذلك أن " التحفيز" الذي تضمنته " عناكب من دم المكان " لعب دورا حاسما في الحفاظ على الخيط الحكائي الممتد بين كل النصوص، والإشارات الجديدة التي كانت تظهر كل مرة، فلم تكن بشكل اعتباطي بل كانت لها وظائف أساس داخل النص يفرضها التحفيز " التأليفي"، وهذا ينطبق على ما يمكن أن نُسميه ملحمة [ الباب الكبير]، الذي جعله الكاتب مدخلا دائما و مستمرا للذّة الحكي واستحضارِ ما ورائه من تفاصيلَ مُمْعنة في الخاصّ والحميمي ، ولعل الحوارات المفترضة التي أنشأها السّارد مع هذا الباب، يُحيل على حضور المُتخيل بشكل طاغٍ عما يفترض أن يطرحه النص السردي ، وللتخفيف من حدة الجانب التخييلي الذي يقود إلى خلخلة البناء السردي، يلجأ الكاتب إلى " التّحفيز الواقعي " بأحداث محتملة الوقوع على الأقل في ذهن القارئ ، حيث تكون كثير من الأشياء متخيلة ، ولكنها توهم بما هو واقعي، ورغم ذلك، لم يقع الكاتب في فخّ إقحام الأحداث التي قد تسبب النشاز الفني ، ونجده استثمر " التحفيز الجمالي بشكل ناجح " إلى حد توحد الخيالي والواقعي في جسد واحد. وهذا ما يساعد البناء الجمالي على التفوق أثناء كل لحظات السرد. في سياق آخر يلتزم المنجز ببنية الوظائف (Les fonctions) التي يفرضها، المبنى الحكائي، وهي العناصر الثابتة التي يسندها السارد لشخوصه الدائمة ، وهي عبارة عن أعمال محددة من زاوية دلالتها داخل جريان الحبكة ، ومن ذلك شخصية [ الأمم الساردة] و [ شخصية مسعود ] العابث ، المحترف للرقص، وشخصية الفقيه ، والنساء العجائز إلخ ، ولتقوية البناء الحكائي بمزيد من الوظائف يلجأ الكاتب إلى شَخْصَنة الأشياء وإسنادها وظائف رئيسة في عملية الحكي ، ك [ الباب الكبير] و [ البقرة الصغيرة ] و [ آيلة ] ... وغيرها، وهي عملية تتجاوز الارتباط النمطي في محاورة الشخوص الآدمية إلى فتح حوارات أخرى يصعب القبض عليها لحظة السّرد. ومعنى هذا أن نصوص " دم من عناكب المكان" تُؤسّسُ لتوجّهٍ مختلف لمفهوم " الوظائف " في المبنى الحكائي حيث يُخرجها من قالب النمطي المتعارف عليه إلى عناصرَ ذات وظائف خاصة يستثمرها السرد لغاية التعبير عن حالة وجدانية يروم الكاتب إيصالها والتعبير عنها بدقة، وهذا التوجه يجعل من الشخصية البطلة، شخصية مهيمنة تجعل من باقي المكونات ، مكملات ودعائم مساعدة لإبراز ذاتها، ولعلها الذات الشاعرة نفسها التي تحافظ على نرجسيتها الإيجابية، وحضورها الطاغي في منظومة معقدة تكون الفضاء الحكائي للحظة السرد (La narration)، إننا نحس أن هناك قصة ما، ونكاد نُعيِّن الطريقة التي تحكى بها تلك القصة، ولكننا في الغالب نفشل فشلا ذريعا ولذيذا في هذا الفعل ، الذي يزجنا فيه السارد حين يَخرج في معظم النصوص عن مقتضيات السرد إلى مناطق غير درامية تخلو من الحركة ومن الصراع ولا تخص الأحداث، بقدر ما أنّها تخص السارد ( الراوي) نفسه، وهو يطرح تعليقات وتأملات واستنتاجات وتساؤلات بطلها الوصف الذي يستند فيه إلى لغة المجاز بكثافة والتشخيص وتوليد الاستعارات الرمزية الشاعرية وتوظيف الكنايات ، وهذا الخروج الذي أشرنا إليه يدعم البعد الذاتي الوجداني وكثافة الانزياحات باتجاه الأسلوب الشعري، هكذا تكون نصوص الشاعر السارد التي تروي بضمير الأنا تأملاتها ورؤاها الخاصة . النّص جنسا أدبيا مستقلا ( من سرد الشكل إلى تشكيل السّرد) (أنت الأرض التي لا تستقر فوق صهوة.. والمزمنون وحدهم يفهمون لماذا يبدأ التاريخ فيك من باب الماء، عند أول ينبوع فجرته الصدفة؛ كأني بإسماعيل يتلوى من العطش، وهاجر تنبش بأظافر الحيرة ترابا يهجس بالماء، ويمهر الشفاه النبوية بالرواء..... أنت المركز الذي تجردت فيه السّماء من غلالاتها لتضاجع أرضا عاقرا.. فكان أن توزعت من بشارة التكوين مدن سافرت في اتجاهات حدودها، بينما التماعات قوس قزح ترشد المزمنين إلى أدراج الجنة بين خمائل الصفصاف). ص 7. ( دليني على عطرك السّخي.. ذاك المنبعث من ضباب اللّيمون وانتفاضة القرنفل.. ذاك الذي يسحب ذاكرتي إلى بقع بهية حيث الزعتر والآس يختصمان تحت سماء مرصعة بالأحلام. دليني على عطرك كي أخرج من دائرة الخراب وأتبع خطوي المعاند إلى نهايته، إلى جلال الينابيع والسواقي الأولى، تلك التي أطلقتها يد ربانية من زوادة الرواء اللذيذ.. أيها الوجه الموشوم بإبر العوسج ورماد القدر القديم: بسمتك عرس، فيض طير أبيض، وخلخالك في الخطو إيقاع مزهر على رصيف المساء، ومبارزة السيوف على دم الغريب ) ص 13. لَوْ أخرجنا هذه المقاطع وغيرها كثيرٌ في جسم المنجز إلى سياقات أخرى ، نطالع دون شك، نصوصا شعرية لا هوادة في أجناسيتها الواضحة ، لولا أنّ مساحات جمةً تحشد نفسها أمكنةً قارة ، ( آيلة ، ورغة ، الصخرة البيضاء ، البطمة ، باحة المنزل ... ) توحي بترَسُّخ المكان في ذاكرة الحكي الشعري وتكسّر إمكانية جزمنا بهيمنة هذا الأخير. يدفعنا هذا للقول إن زاوية رؤية الراوي أو ما اصطلح عليه شكل التبئير (Focatisation) باعتبارها التقنية المستخدمة لحكي القصة المتخيلة ، هي زاوية مستقلة ومتفردة تقترب أكثر من الطرف الثاني للسرد وهو السرد الذاتي في مقابل السرد الموضوعي الذي يفترض الحياد في نقل الأحداث، فالسّارد في "دم من عناكب المكان" ينقل الفضاءات من الزاوية التي يراها مصاحبا لشخصيات يتبادل معها المعرفة بمسار الوقائع، وبهذا يمثل نموذج البطل الإشكالي بامتياز. إن امتزاج الشعري بالسردي في منجز عبد السلام المساوي ليس إلا مدخلا لإشكالات أخرى تطرحها نصوصه ، فإلى جانب حضور النوع الشعري والنوع الروائي والقصصي ، هناك جانب مهم من حضور ملمح السيرة ، والتّتبعُ الدقيق لبنية النصوص متصلةً بخيطٍ أسلوبيٍّ واحدٍ، يجدها سيرة ذاتية واضحة المعالم، تبدأ بطفولة السّارد في مسقط رأسه ، وتنتهي بالعودة إليه في ذاكرة تعتمد على القّص الاسترجاعي، تقف على فصول مختلفة من مراحل حياته ؛ والغاية من سَوْقِ هذا الافتراض هو الخلوص إلى مقترح مفاده أن النّص في حد ذاته يمكن أن يكون جنسا أدبيا متفردا ومستقلا ، وليس من الضروري توصيفه، على هذا المستوى. لقد وفرت الكتابة في هذا المنجز نوعا من التشكيل الفني ؛ يوقّع لوحات بألوانَ متحركة تنبض بالحياة؛ وعند مطلع كل نص يَجِدُّ الكاتب في ملأ البياض وتأثيثه بالفضاء الحكائي الذي يعادل المكان ، معتبرا إياه ، المستوى الأساس في تطوير باقي المشاهد، ومن هذه اللوحات: لوحة مسعود ، ص : 51. " من شفاه الطير تدلت عناقيد الغناء .. وتهامست الألوان على الأجنحة زهورا تعقدها النسمات العذبة في فضاء ( أيلة) قرية العزلة البهيجة ... وخاتم الشمس كان يتضوع بالعطر الأصفر، ويقطر فوق الحقول الخضراء وفوق شجر التين المثمر (...) تدلت قدما مسعود في حوض الماء البارد، وهو يسوي لفافته للنشوة الوحيدة، ويصلح الكآبة الفاقعة بمد خيط الأحلام مخترقا خلجان العليق وشجرة الدردار الكبيرة؛ وبدا كما لو كان يطرح صنارته في الماء المتحجر كي يصطاد جنية الوقت واهبة الفرح الموقع في (( الصك الأخضر )) المحروس بآلاف البنادق " ، إنّ هذا المقطع وغيرَه يشكل لوحات فنية حقيقية ، يستطيع القارئ أن يضعها أمام مخيلته كشريكٍ ضروري في التعاقد على فضاء الحكي في جزئه المكاني كأرضية مشتركة لتسلسل الأحداث، بمعنى آخر، أن السارد هنا يقترب من الكتابة المشهدية في عالم السيناريو المسرحي والسينمائي ، حيث يكون البدء بتوضيب وترسيخ فضاء الأحداث، له أولوية خاصة وقصوى ، والغرض من إثارة هذه القضية هي تأكيد ما سبقت الإشارة إليه من تعدد الخصائص الأجناسية داخل أحادية النص في مفهومه العام، وهكذا يمكن اعتبار النص جنسا أدبيا قائم الذات دون ضرورة تجنيسه أو على الأقل تصنيفه ، وذلك راجع بالأساس إلى ما سبق التأكيد عليه، والمتمثل في انفتاح المنجز على محددات فنية تَمزجُ مشاربَ أسلوبية متعددة ، وأجناس أدبية متباينة ، فيها الشعري ، والسردي وملامح السيناريو ، ومفاهيم التشكيل ، وهو مزج يفترض قراءات خاصة وعُدّة فريدة لإدراك خفاياه الجمالية وأسراره الأدبية. تقنيات النوع السردي في عناكب من دم المكان (عبد السلام المساوي راويا ) كما هو معلوم فإن أدوار الراوي في الحكي، تنقسم إلى ثلاث رؤى : 1) الراوي أكبر من الشخصية الحكائية (الرؤية من خلف vision derrière) 2) الراوي يساوي الشخصية الحكائية (الرؤية معَ vision avec .) 3) الراوي أصغر من الشخصية ( الرؤية من خارج (vision de dehors وينتمي الشاعر السارد إلى النوع الثاني الذي يندرج ضمن السرد الذاتي ، حيث يهيمن ضمير المتكلم أو الغائب ، ولكن مع الاحتفاظ دائما بمظهر [ الرؤية مع ] [vision avec] ، والشخصية هنا هي التي تروي الأحداث ، لكن باعتبارها راويةً مُمَثّلة في الحكي ، أي مشاركة في الأحداث ، إما شاهدة أو بطلة ، والحال هنا أنها تتقمصهما معا ، فيظهر الشاعر بلغته الخاصة في كل تفاصيل المنجز، بطلا ينسج رؤيته الخاصة الشاعرة للأشياء ، كما فعل في حواره مع الباب الكبير أو في نص " بابنا على بيت غريب " ويظهر أيضا ساردا شاهدا على الأحداث والتغيرات، يرصد بدقة طقوس الأيام في القرية ( آيلة) زمانا ومكانا من جهة، واستحضارا للتأملات والتصورات والعواطف المنبثقة من سياق الأحداث من جهة ثانية ، وتأسيسا لذلك نجد الكاتب استعمل مجموعة من التقنيات السردية لتحقيق هذه البغية ومنها(2): -(الخلاصة sommaire) التي تعتمد في الحكي على سرد أحداث ووقائع يفترض أنها جرت في سنوات أو أشهر أو ساعات ، واختزالها في صفحات أو أسطر أو كلمات قليلة دون التعرض للتّفاصيل : ونجد عبد السلام المساوي نجح في تنميق هذه الخلاصات باحترافية قَلَّ نظيرها وربما ذلك يرجع لاستثمار الخاصية الشّعرية في الكتابة التي تعتمد على تكثيف اللحظات وضغطها في مقاطع قليلة تحيل على مساحات شاسعة من الدلالات . -أما تقنية (الاستراحة Pause) والتي تُكَوّنُ في مسار السرد توقفات معينة يحدثها الراوي بسبب لجوئه إلى الوصف، وفي "دم من عناكب المكان " اتكاءٌ ذكي على هاته التقنية ، تركت القارئ مساحات جمالية مهمة ، حين يتوقف الكاتب ليصف لنا أوضاعا ولوحات مشهدية(3) يقول في أقواس الألم : (وقفوا سورا آدميا أمام الباب الكبير، لم يرفعوا سعف النخيل المنتصر، ولم يوقعوا على دفوف الانتظار.. وجوه، يومئذ، كالحة قد وسع الغضب حدقاتها التربة. تزاحمت الأيدي الخشنة واستلت الوديعة المنكودة من غمد الإزار. ولما بان وجهه الطفولي رأوا شروقا داميا لفجر قديم.. ) -ونجد أيضا تقنية ( القطع l?ellipse )حيث يتم تجاوز الكثير من مراحل القصة دون الإشارة بشيء إليها ويُكتفى بإشارة دلالية إلى مرور زمن مهم ؛ ( سقط رأس مسعود من رحم أمه ذات شتاء في مدشر بعيد) ص 53. (أين البارودي.. وصدى مذياعه الذي كان يملأ القرية بأغان، وكلام يخرج العذارى من خدورهن المحروسة؟) ص 58. ويستثمر عبد السلام المساوي هذه التقنية ببراعة لتحقيق سرده الدرامي عبر نقلات مكانية وزمانية متماسكة متعددة، ولتُزامِن بعض الأحداث المتوترة في لحظة واحدة، ولكنّه في الآن ذاته لا يمعن في الاتكاء عليها كليا لأنّ بغيَتَهُ تنحو إلى التكثيف و الإيجاز على سبيل الأسلوب الشعري و ليس الإسهاب في تفصيل الأحداث التي تشكل نسيج الحكاية كنوع أدبي. نخلص من خلال ما سلف أن عبد السلام المساوي كان مخلصا في نصوصه لمجموعة من المحددات والمكونات التي تطبع الخطاب السردي في لون السيرة، وعبر الأسلوب الشعري الذي يتقنه بامتياز و استطاع أن ينتصر لرؤية خاصة متمردة في الكتابة تطوّع آلياتها و إمكاناتها دون ضرورة الالتزام بالقوالب الجاهزة و المحدّدات المعدة سلفا والمتواضع عليها ضمن عناصر كل نوع أدبي؛ و هذا يفرض على الدارس عُدّةً خاصة كي يتجاوز أي ارتباكٍ نقدي في محاولة تسقيف النص تحت أي مظلة أجناسية بدافع ضرورة وجود النوع الأدبي، إن الكاتب في عناكبه يكتفي بالشق الثاني ويحفل بالأدبية درجةً أولى في الكتابة، ويُسقط الشّق الأولَ كونه مفهوما قد يحاصر الحرية التي اعتاد عليها الشّاعر. الهوامش 1) عناكب من دم المكان ، عبد السلام المساوي، منشورات مابعد الحداثة، الطبعة الأولى، 2001،فاس. 2) بنية النّص السردي "، حميد الحميداني، المركز الثقافي العربي، 2000، الدارالبيضاء. J.L Dimortière et Fr Plazanet : pour lire le récit . E Duclot ( 3) المراجع 1 - نقلا عن " بنية النّص السردي " ، حميد الحميداني، المركز الثقافي العربي ، 2000 ، الدارالبيضاء ، ص : 22 ? 23. 2 - هذه التقنيات الثلاث مستفادة من : J.L Dimortière et Fr Plazanet : pour lire le récit . E Duclot 3 - ما يُعرف بالكتابة المشهدية.