يحاصرك بننظراته وبتأويلاته وبمواقفه منك..، يهتم بك كثيرا، يراقب حركاتك وسكناتك وأنت داخل وأنت خارج..، إلى درجة أنه ينسى أنفسه، يجلس في المقاهي لهذا الغرض ليراقب من يدخل ومن يخرج، لا يفعل أي شيء سوى المراقبة، يتحدث بينه وبين نفسه عن الآخرين: "فلان غبي جدا. فلان ذكي جدا. ذلك الرجل البدين الأصلع الذي يجلس من التاسعة صباحا إلى الثانية عشر في زاوية المقهى، تزوج فتاة رائعة ثم طلقها كم هو غبي. صاحب هذا المقهى بائع مخدرات، ليس بائعا بسيطا، بل لديه علاقات خارجية يقوم بتهريب الحشيش، لديه علاقات مع الشرطة لذلك لم يتم إلقاء القبض عليه..، ابنه متدين جدا يصلي الفجر في المسجد كل يوم لا يشبه أباه في شيء، حفظ أربعين حزبا من القرآن. إمام مسجد الرحمة يدخن ويشرب الخمر أحيانا، لديه مشاكل عائلية، اتهم زوجته بالخيانة وطلقها، زوجته امرأة طيبة ولا يبدو أنها ستجرؤ على ذلك. لا أعرف ما قصة ذلك الشاب الذي يمر من أمام هذا المقهى ست مرات كل يوم، سألت عنه فقيل لي إنه يعاني من مرض نفسي لا يستطيع بسببه الجلوس لأكثر من ساعة، عليه أن يتحرك باستمرار ليتخلص من تلك الهلوسات." كم هو طيب صاحبنا هذا يهتم بأمور الآخرين وكأنه خلق من أجل ذلك، من أجل نسيان أموره الشخصية والاهتمأم بالآخرين، أليس لديه شيء يفعله غير ذلك؟ لا داعي لأن نكثر الأسئلة حوله وإلا صرنا مثله، هذا مرض معدي، أحس أن العدوى أصابتني أنا أيضا وهذا ما جعلني أكتب هذه الكلمات، للملاحظة فقط صاحبنا هذا ليس استثناء، إنه نموذج مفترض ضمن مجتمعنا أولئك الذين تسببوا في ظهور مقولة "ادخل سوق راسك" فلا مواضيع السياسة تهمهم ولا الاقتصاد ولا العلم ولا الثقافة..، لا يقرؤون في الجرائد إلا أخبار المشاهير وهم نادرا ما يفعلون ذلك، هم في الغالب عاطلون عن العمل وعاطلون أيضا عن التفكير في شؤونهم الشخصية، لا يرغبون في تنمية ذواتهم ولا الاهتمام بها جسديا أومعنويا، المشكلة ليست هنا بلا في كون هذا المرض معدي، ينتشر بسرعة. حتى تتضح الصورة أكثر، أنا لا أقصد أولئك الذين يهتمون بأحوال الآخرين وأخبارهم بشكل بريئ، بل أولئك الذين يحاولون نزع ثياب غيرهم واقتحام خصوصياتهم..، الإعلام أيضا يفعل ذلك أحيانا والمتلقي هو من يتحمل المسؤولية لأنه لا يستطيع أن يخفي شغفه الكبير لاقتحام خصوصيات الآخرين..، لندخل أسواق رؤوسنا قليلا، ولنهتم بتنمية الأفكار والذات والمجتمع وبمعرفة ما تفيدنا معرفته أكثر من اهتمامنا بمعرفة ما لا فائدة من معرفته، الرسالة موجهة للإعلام لأنه يساهم في تغيير اهتمامات المواطنين. * باحث في الفلسفة وعلم الاجنتماع، وإعلامي متدرب.