يكاد اليأس يقتله. ملّ من الإنتظار. منذ أن تخرّج وهو ينتظر. قضى أعواما طويلة وهو يكافح ليحصل على تلك (الكرطونة). هي الآن معلقة عند رأسه. كلما نظر إليها شعر بالرغبة في تمزيقها.. وحرقها كما يحترق قلبه.. إنها لم تنفعه في شيء تلك الإجازة... يجلس في المقهي من الصباح إلى المساء. لا يأتي إلى البيت إلا في أوقات الوجبات ثم يرجع إلى المقهى من جديد. إنه عاطل.. عاطل عن العمل. هو لم يختر أن يكون عاطلا بإرادته لكنه لا يجد عملا يقوم به. ما ذنبه؟ صار يكره أن يُقال له عاطل.. أصبح يشعر بأن وجوده زائد فحسب.. إنه اليأس، والشعور بالاختناق. إنه يخجل من دخول البيت كي لا ينظر في عيون والديه اللذين كانا يتمنيان بأن يصبح موظفا أو أستاذا، وكانا ينتظران أن يساعدهما في مصروف البيت الذي يتكون من ستة أفراد. كل الأحلام تبخّرت، الأعوام تمرّ ولا انفراج في الأفُق.. يحسّ الآن وكأنه أصبح عالة على والديه.. لا ينفعهم في شيء.. حتى أنه في بعض المرات، يكره نفسه ويتمنى لو أنه لم يخلق في هذا البلد.. يشعر بالغربة.. بالألم.. بالقلق والاكتئاب... تعب من الإضرابات والاحتجاجات والاعتصامات إلى جانب رفاقه، لكن لا أحد يأبه بهم. لا أحد من المسؤولين يهتم لمأساتهم، ما دفع ببعضهم أن يصبّ على جسده النفط ويضرم في نفسه النار احتجاجا على عدم تشغيله، وبعضهم فضّل أن يتجرّع سمّ الفئران على أن يستمر في العيش مدلولا... هو لم يشعر بنفسه متى ولج عالم المخدرات، ولجه للهروب من الواقع المرير الذي يعيشه، وأصبح فضّا صعب المزاج.. هاجسه الوحيد هو أن (يحْركَ) إلى الضفة الأخرى، وبأي طريقة. باع والده نصيبه من الإرث، وباعت والدته ما تملكه من الحلي لكي يحققا له حلمه. (حركَ) إلى إيطاليا مع 29 شخصا. تكدسوا جميعا في قارب سعته لا تفوق نصف العدد.. لكن كل ذلك يهون ما داموا قد وصلوا إلى الضفة الأخرى. وبمجرد ما وطئت قدماه تلك الأرض، أحرق أوراقه وكل ما قد يُذكّره ببلده... هناك، في بلاد الغربة، عاش نوعا آخر من المعاناة. عاش منبوذا بلا كرامة. عمل في البداية ماسحا لزجاج السيارات ثم بائعا متجولا للزرابي قبل أن ينتقل إلى العمل في المقاهي. في إحدى المقاهي عرض عليه (بزناس) أن يعمل معه في تهريب المخدرات وتوزيعها فقبل، واشترط عليه شروطا فوافق عليها. التقاه في بيته، وقام بتدريبه على كيفية العمل. علّمه كيفية ابتلاع أكياس من الهيروين وكبسولات من المخدرات، وكيف يدرّب جسده على هذا العمل، وماذا يفعل إذا ما حدث أي خطأ. عمله الجديد هذا أغدق عليه أموالا طائلة. هو يعرف خطورة ما يفعله، لكنه مصمم على جمع المال.. المال الذي جعله يهجر وطنه. وفي اليوم الذي فكر فيه في التراجع، هدده البزناس بالقتل، بتصفيته هو وعائلته. مسكين، لا يعلم أن الدخول إلى المافيا ليس مثل الخروج منها. عاد إلى الوطن رغم التهديدات. عاد ليعمل مع والده في الفلاحة. بعد أن تبدّل إحساسه نحو وطنه، وصار وكأنّه جزء من دمه لا يستطيع العيش بعيدا عنه.. ولا يشعر بالأمان إلا فوق أرضه.. واكتشف –أخيرا- أن قطران بلده أفضل من عسل أي بلد آخر...