المُجازفاتُ،عند شُعيب حليفي،رواياتٌ قصيرة جدا ترصُدُ مسار شخصيات رئيسية ومعلومة؛ المجازفاتُ رواياتٌ مستقلة ومتقاطعة ومتعانقة في الأسلوب وعوالم الحكاية والكتابة.يقترح علينا حليفي في روايته»مُجازفات البيزنطي»(منشورات القلم المغربي 2006) أربع روايات قصيرة جدا لكلّ واحدة شخصية محورية. في الرواية الأولى:محمد العيار؛في الرواية الثانية:العيساوي؛في الرواية الثالثة:أحمدالعباوي؛في الرواية الرابعة:مصطفى الخمري. أربع روايات قصيرة تؤثث المشهد الحكائي،اختار السارد أن يحكي عن تجربة هذه الشخصية أو تلك، وينقل بعض أخبارها لمّا تلتقي يوميا بمقهى بيزنطة حاملة معها اغترابها وقنوطها وهي تدخن الكيف، وحيرتها ومرارتها وهي تشرب الشاي. تكشف قراءة هذه الرواية عن خاصية الاقتصاد السردي الذي يقرنه شعيب حليفي بالإيحاء حينا والترميز أحيانا أخرى؛وللاقتصاد وظيفة حكائية مدارها تشذر أسلوب السرد وهو يتطوّرضمن هذه الروايات القصيرة في اتجاهات مختلفة ولا نهاية لها. عمر العيار،بطل الرواية الأولى،اسمه الحقيقي سيف ولد لالة فطيمة.ابن ملتبس النسب لعمر العيار كبير الحكائين في المغرب منذ الحرب العالمية الثانية حتى هزيمة العرب (ص9). كانت أمه لالة فطيمة امرأة جميلة تلبس الجلباب وتضع لثاما بلون القرنفل على وجهها،أبوه عمر العيار يروي حكاياته عن سيف بن ذي يزن . ولما خرج ذات فجر بعدما توضأ وصلى طلب منها أن تسمي الوليد سيفا،ثمّ اختفى مع قيام حرب يونيو.صبرت فطيمة وانتظرته لثلاث سنوات،دون أن تقدر على المزيد،فتركت سيفا عند أختها.يخبرنا السارد أن عمر العيار تربى وسط أبناء خالته حتى حصل على شهادة الإجازة في الاقتصاد،لكن ظروف طرده من طرف زوج خالته وأبنائها جعله يختار نسيان كل شيء،وقبول اسم والده عمر العيار اسما جديدا له بدل اسمه الحقيقي سيف ولد لالة فطيمة.وهو يسكن الآن مع ليمان صاحب مقهى بيزنطة ويعمل عنده نادلا. تبدو سيرة عمر العيار مرهونة بحدود رابط ملتبس بين الوحدة والعلاقة لطرد الضجر وألوان النحس التي تطارده مثل ما وقع له يوم سبت،أمام بائع الصوصيت،وهو يتأبط حبيبته في انتظار خبزهما وسط الأدخنة والضجيج؛وحين شدّ أحد البدو الفتاة من شعرها متيقنا من أنها هي من أخذت منه عربون الليل قبل حوالي شهر دون أن تأتي عنده يبدأ العراك،ويدخل عمر بعده السجن الفلاحي (عين علي مومن) لشهرين متتالين؛كلّ ذلك من أجل نوايا حسنة وفتاة تعرف عليها كي تصبغ النوايا وتكتري النهار بالليل ( ص14). بين الوحدة والعلاقة،على عمر العيار أن يحيا بدون قلب وعقل؛ لا يملك شيئا إلا هواه الذي أضحى معقودا بصبوة فاضحة ومفضوحة تضعف نبض القلب حين يدمّر الحبّ الزمن،ويكون على كلّ واحد منّا «أن يعيش أربعين عاما نبيا أو سيف ذي يزن حتى يحارب الفزاعات الكبيرة في رؤوسنا (ص15)». لعمر العيار أحلام عالقة بذهنه على الدوام، غيبة طويلة عن مقهى (ليمان) تورطه مرة أخر مع امرأة لما رمى برأسه عليها ليواصل الأحلام في مراكش؛تهمة جديدة بخمسة أشهر نافذة.احترف عمر في شيء واحد:الانتقام من ذاته. يقينا هو لا يسعى إلا إلى علاقة متحررة مع ذاكرته وذاته ومنفاه اليومي الذي يتوعّده بالغبن وألوان مهرّبة من العشق. ألم يستبدل عمر اسمه من أجل استعادة السلالة ومجد العبارة؟ يروي السارد في الرواية الثانية سيرة العيساوي، ويخبرنا أنه ولد حوالي 1913 قبيل الحرب العالمية الأولى، وهو أيضا مثل محمد العيار،تربى يتيما عند خالته بعدما تركه والده دون أن يراه معتقدا بموته، كما ماتت أمه منانة.وبدوره سيفرّ من بيت خالته ويصبح مريدا وتابعا للشيخ العساس. سينخرط في الحرب العالمية الثانية ضمن صفوف الجيش الفرنسي ويشتغل في مهن مختلفة،قبل أن يجاور فنانة شعبية ويكتب لها الأزجال ويسامرها ويحقق بعض موازينها. سيعاوده الحنين إلى الحرب ليلتحق بصفوف الجيش المصري محاربا ضد إسرائيل.مثلا كان عمر العيار يحمل اسمين ، ذلك أن العيساوي سيلتحق جنديا ضمن الجيش المغربي باسم علال العساس؛ سيستقدمه مطلع السبعينيات الكولونيل اعبابو بعد ترقيته إلى ضابط صف بمدرسة اهرمومو، ويقوده ضمن خمسة وعشرين شاحنة إلى مدينة الصخيرات في إطار انقلاب عسكري على الملك.فشل الانقلاب انسحب العيساوي مختفيا في شخصية جديدة بثلاثة أسماء: العيساوي،العسكري،الكابران... يحيا وسط الأسواق يبيع ويشتري في الحمير، ويمارس الحلقة بجامع الفنا لبضع سنوات قبل أن يصير واحدا من الرواد الأربعة لمقهى بيزنطة، يجيد الحكي ويبيع الكلام، خاصة أخبار سلالته : العيساوي الأب وجده العيساوي الكبير(ص 28-29). يتجاذب سيرة العيساوي تذكّر ونسيان،اختناق وانفراج، تأمّل بين الحلم والعته. ترى العيساوي الأب يكتفي بالتنهّد تعويضا عن رقصة ظلّ يدفنها في نفسه مثلما دفن الكثير من الضيم والإهانات دون أن يردّ عليها... روّض نفسه حتى صار قلبه مقبرة كبيرة لدفن كلّ شيء (ص32). تغدو صورة الدفن اختصارا للمسافة وطيا للشوق، مثلما هي صورة المسخ المصحوبة بالمرارة والتيه؛والدليل على ذلك أن والده العيساوي الكبير لم يمتسخ إلى أفعى، وإنما سافر إلى الحجّ، وأثناء رجوعه استهوته تلك الرمال بالجزيرة العربية، الملأى بالأفاعي،فتاه مسكونا بالشعر والصيد وبالتهام كلّ شيء يمشي على بطنه (ص33). عيساوي يتذكّر عيساويا آخر، ويتماهى مع ظله ووهمه. من العيساوي الكبير إلى العيساوي الإبن مرورا بالعيساوي الأب ، وحدها الذاكرة تقدر على استعادة حيوات أتعبها زمن مكرور وبطولة سامقة لم تعد قادرة على الصمود في وجه الخراب. ولا عجب أن يعلن العيساوي الإبن « الآن لم أعد أحيا إلا بصدى تلك الأشواق (ص41)» ؛ ويتساءل : « هل نساند الماضي للتشفي في الحاضر أم من أجل فهمه فقط؟(ص43)». لكلّ عيساوي إعلانه وسؤاله وتاريخه. لكلّ واحد منفاه وذكراه ... حقيقة واحدة تجمع بين عيساوة هذه الرواية الثانية:» لا فرق بين الأمس واليوم، فالكثير من الأعراض والسمات ما زالت حتى الآن لم تتغير إلا نحو الأسوأ (ص51)». وينقل لنا السارد في الرواية الثالثة بعض أخبار أحمد العباوي الذي أطلق على نفسه لقب النشبة. تربى بمركز الخيرية قبل أن يخرج منها إلى الحياة ويبحث عن موقع يحقق له وجودا ما دام أنه لم يستكمل دراسته ولا يتقن مهنة. من حارس كهف فوسفاطي مهجور إلى مخبر يكتشف عبث الحياة برمتها، سيتحوّل إلى روائي يتلقى تاريخا كاملا لمرحلة سقطت في براثن الكذب (ص67). تلعب الصدفة في هذه الرواية دورا بارزا في رسم حدود مجازفات أحمد العباوي؛الصدفة التي تعْدل القدر واللحظة النادرة،مثل تلك اللحظة التي سيسمع فيها العباوي خطو أشخاص يخزنون أسلحة نارية وبيضاء ومعدات على مقربة من مكان أثير اعتاد الجلوس فيه مساء خارج المدينة ليشرب زجاجة نبيذ.سيروي العباوي الحكاية كاملة للجنرال بعدما يلحّ على لقائه في ساعة متأخرة من الليل. وتتجاور هذه الصدفة عند العباوي مع طموحات قديمة كانت تيسّر له رسم الخطط حين سيشغله رجال الأمن المكلفين بمراقبة القطاع التلاميذي بمهمة التربص وتدوين التفاصيل والتحركات وأجواء الإضرابات. وتتخلل هذه المهمة حكاية جميلة بينه وبين يوسف الغواتي وفاطمة الحمري. تحكي الرواية الرابعة سيرة مصطفى الخمري، في الخامسة والستين من عمره،؛يحظى بتقدير كبير في مقهى بيزنطة التي يجلس فيها يوميا مع أصدقائه، يدخن الكيف ويستمتع بحكايتهم القديمة. هو عند بعض أصدقائه ورواد المقهى مجنون ومشرد ولكنه مسالم؛ عند البعض الآخر كاتب له مجموعة من الدواوين والمسرحيات والروايات (ص81). بهذا تكون الكتابة عند مصطفى الخمري قدرا يوميا للبحث عن كلمات محددة قادرة على وصف « طهرانية الأحلام». يبدو الخمري منشغلا بأسئلة وجودية :» هل نحن فعلا جيل يمكننا أن نتواصل مع الجيل السابق؟ أم أن ما يوحدنا هو الشتات والتيه والخيبات، فسرعان ما راكمنا دزينة إخفاقات؟ (ص85)». مصطفى الخمري كاتب يختار جمله بعناية لكي يقول الحياة. هو القائل:» أنا ألتقط بعيني الزمن العابر والمختل،أدونه وأعيد رسمه حتى أفهم ما يدور حولي (ص93)». وإذا لم تسعفه العبارة أو استعصى الفهم يمكنه أن يرمي الرواية، وقد فعلها ذلك الصباح حين « فتح الباب.رمى الرواية.أغلق الباب (ص105)». هذه هي المرة الأولى التي يحسّ فيها أنه لا يتفق مع أحداثها ومسارات شخصياتها، أقلقته كثيرا وعوض الدفع بها إلى الناشر،قرّر ? دون عناء كبير في التفكير- التخلص منها. هل خذلته الرواية؟(ص 106). الأكيد أن روايته الأخيرة ملعونة؛ بطلها سعيد الطالبي لم يخل يوم في حياته من نحس. واليوم أحس بنحس مضاعف حين رمى مصطفى الخمري بالرواية، ما عليه إلا الانتقام من المؤلف ، فلا يعقل أن يمضي الإنسان جزءا كبيرا من حياته في الخيال ! ملاحظات موجزة برسم الاختتام: 1. تبدو شخصيات رواية «مجازفات البيزنطي» لشعيب حليفي قريبة من الهزيمة والخسارة،لذلك فهي تلجأ إلى الوهم علّها تسترجع بعض اليقين. 2. تستثمر الرواية الإيحاء والترميز والتشذر بقصد. لِأَنها نصّ حكائي مشغول بسؤال المصير لمّا يحوّله إلى قدر جارح وضاغط ؟ 3. يأتي تنوّع الأصوات والرؤى السردية في الرواية مصحوبا بتضعيف الكتابة وقلب الأدوار الحكائية من الحضور إلى الغياب، ومن السّر إلى العلن. 4. المجازفات ، في رواية شعيب حليفي،مفارقات، لذلك تجد كلّ الشخصيات نفسها في مواجهة أسئلة تصوغها بكبرياء وبغير قليل من السخرية السوداء. 5. المجازفات معناها:عدم انتصار الواقع على الخيال، و قدرة الخيال على التحوّل إلى ندّ للواقع؛ بعد قراءتي لهذه المجازفات تحصّل لديّ الاقتناع بأن الواقع والخيال عالمٌ واحدٌ يكتنفه النسبي في كلّ شيء: لا بطولة مطلقة؛ ولا زمن لملاحم الماضي والتاريخ الراهن. 6. المجازفات كبوات:في الرواية وصف دقيق لمعنى الحرمان والانكسار العاطفي واليأس. يقينا... لمّا انتهيتُ من قراءة رواية شعيب حليفي «مُجازفات البيزنطي» أدركتُ أنّ لكلّ رواية مُجازفة تحْمِيها. شكرا « بويا» على هذا السرد البديع ! ??