صدرت للروائي شعيب حليفي «مجازفات البيزنطي»، و بهذه المناسبة خص الكاتب التونسي عبدالمجيد بن البحري جريدة «المساء»، بدراسة تقارب كتابتها السّرديّة وتقتحم مجاهيلها وعوالمها التخييلية القائمة في نظره على استراتيجيّة نصّية قوامها التّلاعب بأعراف السّرد الرّوائي ومواضعاته، وإرباك القارئ ومصادمة توقّعاته، وزعزعة اطمئنانه ويقينه و«أمنه القرائي». لا يمكن أن يكون ولوجنا عالم «شعيب حليفي» الرّوائي من خلال روايته الأخيرة «مجازفات البيزنطي» إلاّ من باب التّجريب، ولا نستطيع مقاربة كتابته السّرديّة واقتحام مجاهيلها إلاّ إذا انخرطنا في منطقها الإشكالي وتسلّحنا بروحها المغامرة وجازفنا معه في متاهات القصّ وأحابيل التّخييل. فما هي آليات التّجريب وتجلّياته في «مجازفات البيزنطي»؟ وفيم تتمثّل استراتيجياته الخطابيّة وإجراءاته النصّية؟ أحابيل الغواية إنّ البداية الرّوائيّة لدى شعيب حليفي- «مجازفة» وباب يقود المتلقي عبر اللّغة السّردية والأوصاف إلى عالم النصّ الرحب حيث يتشكل البناء وتتفاعل المكونات من أجل تحقيق أدبيّة النص.. والنّاظر في «مجازفات البيزنطي» لا يكاد يتخطّى عتبة حتى تفضي به إلى عتبة ثانية وثالثة ورابعة.. في ضرب من التعرّج المتاهي والتعثّر النصّي المفضيين إلى أبواب مغلقة، موصدة، يحتاج معها القارئ/السالك في دروب النصّ الملتوية إلى «مفاتيح» يستعين بها لتأويل دلالاته المحجّبة المستترة. إنّ البداية في «مجازفات البيزنطي» بدايات، فهي صادمة لوعي المتلقي ومربكة لأفق انتظاره وبنية توقّعاته، باعثة على القلق والحيرة والتّساؤل، منطوية على أسرار ملغزة وأَحَاجٍ معقّدة تنتظمها شبكة من الألفاظ لعلّها تكون هي «المفاتيح» المقصودة من العنوان : (متاهة – الوهم – تختلط – ألوان وأصوات – غايات ملتبسة – تحكي ما لا تعرفه أبدا – الثّرثرة – تدخين الكيف – تناوب فادح على الحكي..). وبهذا يمكن اعتبار البداية (الأولى) شبيهة ب«صندوق الأدوات» الذي يحتوي «مفاتيح» النصّ أو مضارعة «للجينوم النصّي» الحامل للبرنامج الوراثي للسّرد والموجّه لنشاطه والمتحكّم في مسارات تخلّقه وتكوّنه وصيرورته، ولن نجد عبارة أشمل دلالة ولا أدقّ تعبيرا عن هويّة العمل الرّوائي وماهيته من عبارة «متاهة» بكلّ ما توحي به من معاني الغموض والغرابة والالتباس والتداخل والاختلاط والهذيان والوهم والفانطازيا... وهي الملامح المميّزة للتجريب الرّوائي في «مجازفات البيزنطي» والسّمات المعبّرة عن خصوصيّته. إنّ العالم التخييلي المتاهي الذي يشيّده المؤلّف في عمله الرّوائي قائم على استراتيجيّة نصّية قوامها التّلاعب بأعراف السّرد الرّوائي ومواضعاته، وإرباك القارئ ومصادمة توقّعاته، وزعزعة اطمئنانه ويقينه و»أمنه القرائي»، وتلك هي حكمة الرواية –في نظر ميلان كونديرا-»حكمة اللاّيقين» وانهيار الثّوابت وثورة الشكّ والرّيبة، فالرّواية تنطلق ولا تبدأ، والعنوان يعيّن ولا يشير، يثبت وينفي، يبيّن ويعمّي، في ضرب من الاشتباه والتّمويه، وفي سياق ملتبس غامض لا يزيده سؤال التجنيس إلاّ تلبيسا وتدليسا. مجازفة التمرد لئن كانت الرّواية -على وجه العموم- جنسا مارقا خارجا على كلّ القوانين، فإنّ نصّ «مجازفات البيزنطي» لشعيب حليفي يعلن منذ عتباته النصيّة الأولى مناوأته لنظام الأجناس وتمرّده على قوانينه ومواضعاته، إذ تعمد القرائن والمؤشّرات الطّباعيّة إلى وسم الأثر بتسميتين أجناسيتين مختلفتين وهما «رواية» بصيغة الإفراد، و»روايات قصيرة جدّا» بصيغة الجمع المخصّصة بنعت (قصيرة جدّا). وإذا كانت التسمية الأولى مألوفة معهودة في الاستعمال والتّداول، فإنّ التسمية الثّانية مباينة للشائع والمعروف من المصطلحات الأجناسيّة الرّائجة في مجال الكتابة السّرديّة الرّوائيّة، ولعلّها المرّة الأولى التي يجنّس فيها كاتب روائيّ نصّا على هذا النّحو. ذاك هو ما يتكشّف للنّاظر حالما يستجلي النّسيج النصّي الذي ينتظم الأثر، فإذا هو مجمع أجناس (Archi-genre) ومحفل أنواع، فسيفساء من الأجناس والأنماط الخطابيّة، «جوقة» من الأصوات متآلفة في اختلافها، متناغمة في تنافرها، متنابذة في تجاذبها، إنّها كتابة مجاوزة للأنواع أو «عبر – نوعيّة» لا تخضع لنظام يوحّدها سوى فوضاها، ولا منطق يحكم تعالقها سوى غرابة تجاورها وتحاورها وتجاوزها. فإذا نحن إزاء أشكال من القصّ تتنازعها هواجس التأصيل ومنازع التحديث، فتتجاور «الرحلة» و«الخبر» و«السيرة» (الغيرية) و«الحكاية» و«أدب الأيام» و«تعبير المنام» والحكاية المثلية مع «الرواية» و«السيرة الذاتية» و«اليوميات» و«الترسّل»، وتتصادى الفنون القوليّة مع الفنون اللاّقولية من رسم وتصوير (صورة بدون إطار / حكاية بالأبيض والأسود..) وفنّ الفرجة (التقسيم إلى فصول ومشاهد..). غير أنّ ما يزيد في تقويض الهوية الأجناسيّة ل»مجازفات البيزنطي» وتهديد صفائها النّوعي إنّما هو ما عبّر عنه بعض النقاد بعبارة «تشعير الحكاية» (Poétisation du récit) وما يترتّب على ذلك من تنازع وتدافع، أو من توالج وتواشج، بين مقامين تلفظيين متباينين في الأصل والطبيعة والفاعلية وهما مقام التلفظ الغنائي (lyrique) بما فيه من ذاتية وانفعاليّة وتعبير استعاري وصوغ مجازي وتخييل شعري وانزياحات أسلوبيّة عن مألوف العبارة ومعهود القول، وبين مقام التلفّظ السردي بما فيه من «موضوعيّة» ونزوع إلى التمثيل والإخبار والتقرير، والإيهام المرجعي والحرص على التوصيل والتّبيين والتّوضيح. إنّ الإهاب الشّعري الذي يكسو اللّغة في نص حليفي هو الذي يحوّل وجهة الخطاب ويصرف اهتمامه من الوظيفة التمثيلية بالإحالة على العالم المرجعي إلى الوظيفة الشعرية بانعطاف الكلام على ذاته وافتتانه النرجسي بصورته في «مرايا التجلّي»... غير أنّ المكوّن «الشعريّ» في نصّ «المجازفات» لا يقتصر مجال اشتغاله على مستوى بلاغة العبارة وشعريّة اللّفظ، وإنّما يتجاوز ذلك إلى مستوى بلاغة الجنس وإنشائيّة النوع الأدبي، وهو ما يظهر بجلاء في مستوى تركيب الأفعال السردية وطرق انتظامها في هيأة من التشتّت والتبعثر والتفتيت، وفي مستوى بناء الفواعل ومنطق تشكيلها في ضرب من المراوحة بين الوحدة والكثرة، وبين التفرّد والتعدّد وبين الوجه والقناع، وبين الذّات والقرين، وبين الواقعي والعجيب، وبين الإنساني والحيواني... فالكلّ يرتدّ إلى الواحد يجمعه ويضمّ شتاته، والواحد يتشظّى إلى آحاد متفرّقة متباعدة، «فعمر العيّار» و«العيساوي» و«أحمد العباوي» و«مصطفى الخمري» جمع في صيغة المفرد أو مفرد في صيغة الجمع تفرّق بينهم أوضاع النشأة وأحوال المعيشة، ويجمعهم الانتماء إلى زمن التيه والخيبة والضّياع والهزيمة والانجذاب إلى متعة القصّ وصناعة الأوهام واختلاق التخاييل والالتقاء في مقهى «بيزنطة». رواية جريئة إنّ «مجازفات البيزنطي» لشعيب حليفي مغامرة روائيّة جريئة في اندفاعها نحو مجهول الكتابة ومستحيل إمكانها، وفي اقتحامها متاهة القصّ ولذّته الباذخة. إنّها نصّ المجازات يحتفي بالمغايرة والاختلاف، وينأى عن المطابقة والائتلاف، يصوغ قلق الذّات وأوجاعها وإخفاقاتها، ويبوح بخيباتها وهزائمها وانكساراتها، يصدم وعي القارئ ويخالف انتظاراته وتوقّعاته، يتلاعب بقواعد التجنيس وينتهك أعراف السّرد ومواضعاته، يحدّق في مرآة ذاته في افتتان نرجسيّ، يمزج الشّعر بالنّثر والواقع بالخيال والحقيقة بالوهم، والأليف بالعجيب،.. «يرتّق للحكاية فصولها الضائعة» ثمّ «يبدّدها ويذيبها وسط أوجاع السّنوات» (ص48). وقد عزم المؤلّف عامدا متعمّدا على إخفاء ما تسعى إلى إجلائه وحجب ما تعمل على كشفه، وإغماض ما ترمي إلى إيضاحه والإبانة عنه؟! يقول المؤلّف على لسان قرينه «مصطفى الخمري»: «رأيت كلّ شيء. لن أستطيع، الآن على الأقلّ، قول ذلك بكلّ فصاحة، ولكنّي هنا أتحدّث للتّمويه»! (ص. 93)!