بمناسبة مؤتمر المحامين بأكادير خص الأستاذ النقيب عبد الرحيم الجامعي “مراكش بريس”مقالة ننشرها إيمانا بالخط التحريري للجريدة المبني عن التواصل والحوار والانفتاح على أجندة القضايا الوطني والجهوية والمحلية، لتعميق النقاش. النقيب عبد الرحيم الجامعي
أيها المحامون، تحية الإخلاص للمحاماة، لأخلاقها وآدابها، لأبنائها عبر الأجيال، لمن صنعوا أمجادها خارج ظلام الليل وحانات التواطؤ عليها وعلى سمعتها وطهارة دورها ونبل غاياتها، تحية لمن لا زال إلى اليوم يستميت من أجل مركزها ومقوماتها ودورها ومستقبلها وفعاليتها وسط الجسم القضائي الذي تنتسب إليه، ومع غيرها من المهن القانونية الأخرى.
تحية عبر منبر الصحافة، منبر الحرية والأحرار، لكل المحامين بالمؤتمر الذي تعقده جمعية هيئات المحامين بالمغرب بمدينة أكادير اليوم، تحية من محامي معكم، من منطلق ما يشعر به من واجب مهني، ومسؤولية معنوية، ينقل إليكم بأمانة ما يخالج مشاعره من أمل ومن تخوف وترقب في ذات الوقت، اتجاه العدالة والقضاء من جهة، و اتجاه ما يراه ويراه العديد منا ويسمعه العديد منا، عن مجالسنا وعن نقبائنا وما بَلَغَته أوضاع مؤسساتنا المهنية من تفكك وضعف وما يدور من حولنا كمحامين من اتهامات تكسر بعنفها وعاء الثقة فينا، لا يمكننا الاستمرار في السكوت عنه ولابد لنا من معالجته عاجلا لكن بالهدوء و المسؤولية ودون مزايدات أو انتقام أو حسابات، وفاء منا بالعهد على أن نعمل كلنا من أجل رسالة المحاماة أولا ومن أجل كرامة المحامين دون أي اعتبار آخر. فما هو حال قضائنا اليوم، وما هو حالنا نحن معشر المحامين؟ قضاؤنا اليوم بعد العشرين من فبراير، وبعد شعارات شبابه ومطالبه وتطلعاته، وبعد خطاب التاسع من مارس حول آفاق دستور جديد، برؤيا سياسية تؤسس لنظام ملكية جديدة وتعاقد جديد مجتمعي لابد، أحببنا أم كرهنا، من أن ينتعش من سباته وينتفض ضد تعاسته، وذلك من أجل أن يصبح قضاء آخر بمضمون وفلسفة أخرى، وبمكونات وشخوص ومؤسسات جديدة، يقطع مع الروتوش والبريكولاج الإصلاحي الهش والسطحي، وهي كلها جرعة مسكنة إن هي تكرست من جديد من قبل الهيئة المكلفة بالدستور، فإنها بالتأكيد ستشعل نار الغضب وفتيل انفجارات لا يمكن ترقب نتائجها وآفاقها وحدودها ليس فقط في أوساط المحامين بل في أوساط المتقاضين مستهلكي الخدمات القضائية، لأننا نؤمن فكرا وثقافة بأن العدالة قمة القمم، ليست كالانتخابات تتحمل التنازلات والتوافقات والنفاقات والتلاعبات، بل تحتاج لحل أزمتها إلى حلول جذرية و إلى مصلحين حقيقيين، غير ممخزنين أو متملقين أو مترددين أو محابين، وتحتاج إلى استعمال آلات القطع مع صفحات الماضي ومع التعفن والفيروسات، كالآلات التي يستعملها الأطباء في قاعة العمليات يعرفون كيف يقصون بها الأورام القاتلة من أصلها وجذورها. ومن هنا، لابد لنا كمحامين من أن نعتبر أن اللحظة التاريخية الممكنة اليوم لن يكون في الآتي القريب من السنوات مثيل لها، وعلينا أن نعلن بأعلى أصواتنا عن انتظاراتنا، وعن مستوى الإصلاحات التي لابد أن تأتي على رأس وفي قلب الدستور الجديد. كلمتنا اليوم في القضاء وفي عدالة المغرب للغد وللمستقبل وكلمة أجيال المحامين بأعمارهم المهنية، لابد أن تكون واحدة ونابعة من اعتقاد صميم أنه يستحيل أن يكون لكل واحد منا نظامه القضائي الذي يستجيب لذوقه ولمصالحة.
علينا اليوم أن نتوجه بمقرراتنا نحو النداء بمشروع قضائي وطني قائم على الأبعاد الأساسية ومنها: أن يَسْتَقل القضاء وينفصل عن كل السلط كيفما كانت، سلطة الملك وسلطة الحكومة وسلطة المال والنفوذ والوساطات والعائلات والتدخلات أن يصبح القضاء سلطة كباقي السلط له مراكزه وخصوصياته ومكوناته وميزانياته الخاصة ومؤسساته وأطره وخبراؤه واستراتيجياته. أن يتولى القضاء وحده البحث و البث في كل الجرائم بما فيها جرائم المال والجرائم التي يرتكبها أعضاء الحكومة، وأن يوضع حد للامتياز والتمييز بين الخصوم أمام القضاء، وأن يعترف له بالاختصاص الدولي لمتابعة والحكم في الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجريمة العدوان، وأن يراجع اختصاص المحكمة العسكرية لتظل مرتبطة بجرائم العسكريين وقت الحرب أن تسند للمجلس الأعلى للقضاء ما كان لوزير العدل من اختصاصات في ظل القانون الأساسي لرجال القضاء، وأن يقرر انفتاحه على ظاقات غير قضائية، ومنحه صلاحيات واسعة منها ما يتعلق بتعزيز الشفافية والنزاهة والتربية على الأخلاق القضائية، ومنها ما يهم مسار القضاة المهني، وسلطة التأديب والمراقبة والتفنيش، ليبقى التفتيش الإداري للمحاكم وموظفيها إداريا من صلاحيات الوزارة أن ترفع ضمانات حماية القضاة ماديا ومعنويا ومهنيا، وأن تقرر مقابلها مبدأ المساءلة مع المسؤولية. هذه أسس السلطة القضائية غدا، سلطة غير موالية، وقضاء مستقل فكريا وثقافيا ومؤسساتيا وتشريعيا وإداريا
أما نحن معشر المحامين، فقد آن الأوان أن نضع حدا للانهيار المهني بكل سرعة وبكل حزم وبكامل الجدية، وأن نراجع أنفسنا لكشف أسباب ضعف مجالسنا، أعضائها ونقبائها، وسبب اهتزاز مواقعهم وكراسيهم وسلطاتهم المعنوية، وسبب ابتعادهم عن وظائفهم التاريخية في شحن الفضاء المهني بما يوفر الكرامة للمحامين، وتعبئتهم في نطاق برامج محددة ومندمجة ترد لهم قوتهم وتقربهم من محيطهم وتعيد لهم الثقة في دورهم وتدمجهم في محيطهم الوطني والإقليمي والدولي اليوم وأمام الأحداث التي تجري بسرعة تتاح للمحامين بمؤتمرهم الفرصة لتغيير واقعهم القانوني والمؤسساتي والسوسيوثقافي وأن يندمجوا في آفاق التغيير ومع قوات التغيير وشباب التغيير وفي ربيع التغيير. إنه حان الآوان ليقوم المحامون بقراءة جديدة لقانون المحاماة، نظاما ووظائف ومؤسسات، يعيد ترتيب علاقات الأجهزة بالمحامين، ويعيد النظر في اختصاصات الهيئة ويعطي وظيفة للجمعيات العمومية للمحامين ويرفع من فعاليتها ومعنى وجودها، ويرفع من أساليب ومساطر مراقبة المحامين لأجهزتهم سواء مراقبة النقيب أو أعضاء المجلس والتعاون معهما ودعم جهودهما، ومساطر مراقبتهم لمالية الهيئة وصرفها وتوظيفها واستثمارها، ووضعهم في موقع الفاعل الإيجابي والطاقة المتجددة في خدمة أهداف المحاماة النبيلة وأخلاقها.
إنه لم يعد مقبولا اليوم أن تصبح أجهزة الهيئات مدبرة فقط للأزمات اليومية للمحامين، وصندوقا لشكايات المتقاضين ومفتيا للعقوبات وشرطيا بين المحامي وبين النيابة العامة. لم يعد مسموحا للهيئات كذلك أن تشرف حصريا على تنظيم الفوضى المهنية لتكون وعاء جمع الأوحال المعلقة ما بين المحامي وزبونه. ولم يعد مسموحا للهيئات أن تتصرف من الآن في مالية الهيئة كما تشاء في بعض السفريات غير المنتجة أو المفيدة، وبالضبط لم يعد لها أن تصرف مالية المحامين في لقاءات النفاق والتضليل، بعد أن تأكد أن الأنظمة التي كان يروج لها أباطرة وأمراء إتحاد المحامين العرب، والذي كانت هيئات المغرب تشارك فيه بنشاط وبحسن نية وطوية، كانت أنظمة دكتاتورية لها مصالح ضد مصالح شعوبها وضد قيم النزاهة أنظمة مرتشية فاسدة غير ديمقراطية، وعلى الهيئات أن تجمد أدوارها وأن تطالب بمساءلة الأمناء السابقين للإتحاد ورؤسائه والمتصرفين في ما كانت تلك الأنظمة تغدقه عليه مقابل التمجيد والإنشاد والتواطؤ وأن تتوقف عن ضياع الوقت والمال. إن الوقت حان كذلك لخلق مؤسسة مهنية وطنية في قلب قانون المهنة، لها مهام واختصاصات عامة وطنيا إلى جانب الهيئات، ومن مهامها أن تشرف على وضع سياسة ولوج المحاماة، وعلى سياسة ومتطلبات التكوين وإعادة التكوين لأن تكوين المحامي اليوم لا يخضع لأية منهجية ولا لمقومات ولا لحاجيات بل هو نمطي تعالجه كل هيئة بأسلوبها وطريقتها أي أن الهيئات تتخبط في فوضى لا مثيل لها مما ينعكس بالسوء على المحامين الشباب على الخصوص وعلى مقومات عملهم، وتشرف هذه المؤسسة المهنية كذلك على معهد الدراسات المهنية بطرق حديثة تلبي حاجيات المحامين، وتصبح الهيئة قبل المجلس الأعلى هي المكلفة بالطعون المهنية استئنافيا، وتصبح الهيئة هي المكلفة قبل المجلس الأعلى بالنظر في الطعون الإنتخابية، وأن يعهد لها بنشر أخلاق المهنة وثقافة الإخلاص لها والالتزام بها ووضع مدونة القيم والنزاهة ومحاربة الرشوة والارتشاء في الوسط المهني، والحرص على سلوك الشفافية في العلاقات بين مكونات الجسم القضائي وبين المتقاضين والمحامين. إنه حان الوقت كذلك، لكي يفكر المحامون وهيئاتهم في سبل التواصل والتقارب والتعاون، والتعايش عن قرب مع التنظيمات المهنية المستقلة الأخرى التي تعمل في المحيط القضائي، ولماذا لا التفكير في تأسيس مكاتب مهنية متنوعة الاختصاصات بين المحامين وغيرهم من المهن القانونية المشتغلة بالعدالة، حسب ضوابط ومساطر وشروط قانونية ومراقبة ومتابعة مؤسساتية واضحة. أصبح من واجبنا اليوم أن نشكل حزاما بشريا وأدبيا قويا لحماية القضاء من السماسرة والمتاجرين بحقوق الناس وبالملفات، وأن نتصدى للمحامي الفاسد وللقاضي الفاسد وللموظف الفاسد، وللمسئول الفاسد وللمتقاضي الفاسد، لأننا ندرك أن حلقة الفساد والإفساد حلقة ثلاثية تتكون من المتقاضي والقاضي والمحامي على الأقل، وأن نجاح الوقاية والتصدي للفساد ونشر النزاهة والأخلاق هي مهمة مشتركة لا سبيل لكل من له دور في مجال العدالة إلا أن يشكل مع الآخرين جبهة قوية في سياق برنامج مهني للنزاهة.
ونحن بالمؤتمر وفي لقاء لن يأتي قبل ثلاث سنوات، علينا أن نقترح مراجعة شاملة لنظام جمعية هيئات المحامين، لنؤسس لها قفزة هيكلية وتنظيمية جديدة تلتقي مع القراءة التي علينا أن نطرحها بالنسبة للقانون المهني، ومن شأنها أن تخلق حيوية داخل الجمعية حتى لا تبقى حبيسة انكماش أو ضعف الهيئات العضوة، وأن تمكنها من لعب أدوار مهنية كبرى ومركزية، وأن لا تبقى جهازا ينظم اللقاءات والمؤتمرات واجتماعات لتوزيع الكلام وتأجيل القرارات، ويبقى رئيسها رهينة بين التماطل والتكاسل والحسابات والمشادات.
ونحن بالمؤتمر العام للمحامين، يجب أن نفكر كذلك في دور المحامي داخل الجمعية، إذ أن مؤتمر الجمعية يحجه المحامون للكلام بين المحامين وتفجير قريحتهم دون أن يستطيعوا بمناسبته محاسبة أحد لا رئيسا ولا نقيبا لأنهم أصلا لا يضعون لا برامج الجمعية ولا يساهمون في تنفيذها ولا يقدمون هم كمؤتمرين كذلك لا حسابا عن نشاطهم و أدائهم بها، ولأنهم لا ينتخبون لا رئيسا ولا مكتبا لها، ولأنهم دون ادوار واقعيا بها، فإن الجمعية والمحامين كلهم مطالبون ثقافيا وأخلاقيا بأن يضعوا حدا لهذا النموذج المائع والغير القابل للحياة في ظل الظرفية القانونية والسياسية التي يجري وراءها المجتمع المغربي اليوم.
ونحن بالمؤتمر العام للمحامين بأكادير، وأمام الإضرابات المتتالية لقطاع العدل وشلل المحاكم، لابد لنا من وضع الاختناق الخطير في الموقع الحقيقي له، ولابد من التأكيد أن الأزمة بالمحاكم ليست أزمة إضراب الموظفين فقط، إنها ظاهرة سياسة فاشلة للدولة في علاقتها ورؤيتها للقضاء ومركزه في سياساتها واهتماماتها، إن الأزمة بالمحاكم هي أزمة قضاء بكل مكوناته ومؤسسات تعمقت مع استقالة للدولة وعصيانها سياسي لها تجاه مرفق أساسي من مرافقها وهو القضاء، ومن هنا لابد من أن ينكب المؤتمر على طرح هذه القضية وإعطائها الوقت للمناقشة وتقديم مقترحات في شأنها إنني أعتقد أن الوقت حان لكي نفك قيود الانتظار و لابد من أن يؤكد المؤتمر ويطالب المحامون: أولا، بتحميل الدولة مسؤولية العجز عن التجاوب مع مطالب الموظفين والتعامل معها بايجابية ثانيا، بتحميل الدولة مسؤولية توقيف وعرقلة المرفق العام والسير الطبيعي للمحاكم مرافقها ثانيا بتحميل الدولة تداعيات وننائج ضياع حقوق المتقاضين والتأخير في معالجتها رابعا، تحميل الدولة الخسارة التي تعرضت لها مكاتب المحامين من جراء عدم عقد الجلسات ومتابعة الملفات وتأخيرها وتوقف إجراءات كتابات الضبط وعرقلة الخدمات الإدارية والقضائية بالمحاكم خامسا، تحميل الدولة مسؤولية الاضطراب الحاصل للقضاة أنفسهم في ممارسة مهامهم بشكل عادي ونتائج تراكم المؤخرات من الملفات وتوقف طبع أحكامهم وتجهيز ملفات جلساتهم
وعلى المؤتمر أن يحدد مطالب أساسية عقب هذا الوضع منها: أن يطالب بأن يمنح للمحامين تخفيضا استثنائيا بنسبة خمسين في المائة من نسبة الضريبة على الأرباح المهنية للسنة الجارية للشباب من المحامين أقل من عشرين سنة من الممارسة. أن يطالب المؤتمر من وزير العدل تبني هذا المطلب ويعتبره ملفا اجتماعيا ومهنيا يباشر الدفاع عنه لدى الحكومة أن يرفع المحامون مساطر أمام القضاء الإداري في مواجهة الدولة للتعويض عن الضرر بسبب مسؤوليتها الإدارية عن وقف المرقف العام القضائي أن يتوجه المحامون عبر هيئاتهم وجمعيتهم نحو المنظمات السياسية الوطنية الديمقراطية لمطالبتها بالتحرك الفوري والضغط القوي على الحكومة لمعالجة وضعية الموظفين وتلبية مطالبهم وحماية سمعة القضاء والقضاة والأمن القضائي للمتقاضين. أن يقرروا عند صمت الدولة وتماطل الحكومة إعلان وقفات ومسيرات، واحتجاجات مدنية، ولتبقى الأبواب مفتوحة لمبادرات أخرى يمكن أن تصل في حالة الضرورة إلى عصيان منهم مضاد لعصيان الحكومة ورفض منهم لرفض الحكومة.
على المسئولين المتربعين على كراسي المسؤولية بالهيئات، أن لا يتعاملوا مع التغيير في ربيع المحيط العربي ببرودة، عليهم أن يبادروا مع المحامين بوضع منهجية أصلاح المحاماة وإصلاح القضاء، ويستمعوا للمحامين وأن ينزلوا من مواقعهم نحوهم وأن لا تكون انتخاباتهم المقبلة هي قصدهم وقبلتهم، وألا تنجرف انتظارات المحامين نحو النفاق الانتهازي والانتخابي فالمرحلة دقيقة والمهام المقبلة ثقيلة وجسيمة. ويا شباب المحامين ويا شيوخ الشباب، إن اليأس مرض خطير لابد لنا أن نقف أمامه حتى لا ينتقل إلى نفوس المحامين ويسكنها ويجر عليهم الموت البطيء، واليأس وسط المحامين هزيمة لهم ونهاية معنوية لمقاومتهم، واليأس هو ما دفع بشباب العشرين من فبراير نحو الإحتجاج، ونحو رفع مطالب سياسية واقتصادية واجتماعية، ولن يعيب أحد إن استلهم المحامون شبابا وشابات من شباب العشرين من فبراير مسيرتهم وإصرارهم من أجل معالجة قضاياهم وعلى رأسها قضية القضايا وهي إصلاح القضاء أولا وأخيرا.