قبل حوالي عقدين لم يكن المتتبع لأحوال المغرب، ولا رجل الشارع العادي،حين يفكر في" الشلوح" أي إخوتنا الأمازيع، يتفلسف ولا يعاني من "حريق الراس"، ولا يتوجس من شيء حيال بني جلدته. لم يكن مصطلح "الشلوح"، الذي اكرهه واعتبره تعبيرا قدحيا، يعني أكثر من مغاربة يتعاطون التجارة ويتحدثون لغة أخرى إلى جانب الدارجة المغربية، التي هي مزيج من العربية والأمازيغية ولغات أجنبية أخرى. اليوم صار الحال غير الحال.تغيرت أمور عديدة، وانضافت أبعاد كثيرة، لموضوع بسيط في العمق، غير قليل التعقيدفي تفاصيله.وفي التفاصيل يكمن الشيطان ويستأسد. أمازيغ متطرفون وقوميون أكثر تطرفا.أمازيغ "علمانيون" إلى حد الجهالة، وعروبيون متشددون إلى حد الغثيان.جمعيات نبتت، ومؤسسات رسمية وغير رسمية أطلت برأسها. "دستورانيون" يطالبون بمأسسة الأمازيغية ودرسترتها.جماعات تدعو لفك الارتباط بكل ما هو عروبي وإرجاع أهل الناقة والجمل إلى الجزيرة العربية لأنهم "غزاة"،وقوم مازالوا يمضغون قصة الظهير البربري..علكا لا مذاق له. من هو المغربي اليوم؟ سؤال يستحق التوقف عنده فعلا. مسألة الهوية ليست مطروحة على المغرب فقط، بل على جميع المجتمعات التي تعرف تعددا ثقافيا.فهل سيصبح التدبير غير الحصيف للتعدد الثقافي لعنة تطارد شعوب الأرض في هذا القرن؟ ربما. لنعد إلى مغربنا. تعرفت إلى كثير من أفراد النخبة الأمازيغية بالمغرب. وبصدق،وجدت فيهم مزيجا كبيرا من التوجهات.منها ما لا يمكن أن تكرهه، ومنها ما لا تستطيع أن تحبه أو تسايره على الأقل. عندما يتعلق الأمر بالنخب، تطل السياسة والمصالح برأسها.وعندما نكون إزاء شعب، بأبعاده الثقافية والإنسانية الأصيلة،نكون بصدد الأصل الذي لا تغيره الأغصان المعوجة، ولا الثمار الفاسدة. بداية أقول إن الحكم على الناس، كل الناس، يكون دوما من منظور فردي بالأساس مهما ادعينا الموضوعية.التجربة الاجتماعية أساس تقويم الأشخاص.والأشخاص هنا، بالنسبة لي، في هذا السياق، هم الأمايغ..كما عرفتهم، لا كما قيل لي. اسمحوا لي أن أكون ذاتيا وأن أصف لكم الأمازيغ كما عرفتهم.إنهم كثيرون، والتعامل معهم كان متشعبا.لكن،ثمة قواسم مشتركة بين كل من عرفتهم من إمازيغن:المعقول،الوفاء، القيم الأصيلة المتوارثة، الوفاء بالوعد. سأتحدث عن "قضيتي الأمازيغية الشخصية"، بلا مبالغة ولا رياء ولا تبخيس. النماذج التي سأتحدث عنها هم أشخاص أمازيغ عرفتهم وتعاملت معهم لسنوات كانت كافية كي أحكم. لا يتعلق الأمر بحالات معزولة لا يقاس عليها، بل بسلوك وأخلاق مشتركة بينهم.علميا، عندما يتكرر الأمر يصبح قاعدة يمكن الاطمئنان إليها. كلما تذكرتهم صرت مطمئنا أن هذه البلاد لا خوف عليها من أي انفجار عرقي مقيت. با الحنفي: تاجر سوسي صديق أبي وصندوق بريدي.رجل ناجح في مهنته.هادئ الطباع، كريم إلى درجة تنسف الرأي الغلط حول بخل سواسة.بابه مفتوح لأصدقائه العروبيين. براريد شايه تصل ساخنة من البيت إلى الدكان بانتظام.يقرض الناس ويصبر.كان عنوانه هو بريدي الحقيقي لسنوات.أحيانا كانت الرسائل تظل هناك لبضعة أشهر.بمجرد أن أسلم على با الحنفي أو ابنه المصطفى تمتد يد أمينة إلى ركن وتسلمني جواباتي. سقى الله أيام با الحنفي. عبد الحكيم الإدريسي: جمعتني به ظروف السكن بالحي الجامعي القنيطرة سنة 1993 بالشقة 10 عمارة 15.شاب كان يحضر الدكتوراه في علوم الرياضيات.نالها بميزة مشرف جدا مع تهانئ اللجنة وتوصية بالنشر.عبد الحكيم ذلك الشاب المتدين المتواضع الوسطي بلا انتماء سياسي،كان أكبرنا سنا وأكبرنا مستوى علميا.كنا فقراء جميعا، وكان يجود بكل ما لديه:وقته، قنينات زيت العود..مهارته في الطبخ.كان يكرم كل طلبة الشقة 10، بل اكثر من ذلك كان يستيقظ لصلاة الفجر فلا نسمع له صوتا، يبدأ في حل معادلات كثيرة ثم لما نستيقظ لا نجد له أثرا سوى كثير من الأوراق التي استعملها في تطبيقات رياضية ووجبة إفطار لنا جميعا. حدث مرة أن سمعته يستيقظ لصلاة الفجر، ولما تناول إفطاره وهم بالخروج حمل بطانيات من بيته وغطانا بها ثم انصرف.عبد الحكيم متدين جدا، ويستحيل أن تسمع منه ما لا يرضي، يستحيل أن يشارك في اللغو، يستحيل أن تكرهه...لم يقل لأحد صل ولكن لم يكد العام ينتهي حتى صار كثير منا يولي وجهه شطر القبلة.لم يقل لأحد خفض صوت الموسيقى ولا نهى طالبا عن كلام بذيء..لكن رويدا رويدا صار الكل منضبطا.كان نموذجا حي للدعوة الصامتة. حضوره لم يكن ثقيلا على غير المتدينين ولا حتى على من كانوا يتعاطون الخمر.أحبته جميع أطياف الشقة 10.في العام الموالي غادر الحي واستقر بسكن بسيط بحي الساكنية شهران قبل نيله الدكتوراه.زرته يوما فدعاني للغذاء معه لكني كنت مستعجلا.سألني عن السبب فقلت إني ذاهب إلى أهلي لأني كنت بحاجة إلى حوالي الف درهم لتدبير أموري.قال لي:خلينا نتغداو ويحن الله.فعلا تناولنا وجبة سوسية لذيذة ثم أمدني بالمال.شعرت بالحرج، وقلت له أنت طالب مثلي ولا داعي لإثقال كاهلك فاقسم أن اخذ المال.امتثلت.تواعدنا عل اللقاء بعد أسبوع.عدت إلى مقر سكنه لكنه كان قد انتقل إلى مكان أخر.بحثت طويلا فلم أجده إلا بعد عامين بالرباط جاء ليحضر مناقشة أطروحة في الأدب لصديق له.فرحت وكانت بحوزتي أكثر من 1500 درهم، أي منحة نهاية السنة.تنحيت جانبا وناولته المبلغ الذي بذمتي لكنه أقسم وتمنع وأضاف: نحن إخوة ولا ديون بيننا.دعا لي بالتوفيق في نهاية اللقاء ونظر إلى صورة لي ببطاقتي وقال لي جملة لن أنساها: "هذا الأستاذ أحمد ما شاء الله، والله هذا وجه صحافة وشاشة".لعل الله تعالى استجاب لعبده الحكيم فولجت عالم الصحافة المكتوبة والمرئية.عبد الحكيم السوسي ابن تزنيت الطيب العالم، افتقدته كثيرا وأدعو الله أن التقيه بعد طول غياب.ذكراه في القلب والذهن راسخة. رشيد خويا: واحد من أجود مراسلي الصحف الوطنية الذين تعرفت إليهم خلال العقد الأخير.اطلاعه الواسع على واقع الصحراء،وأمازيغيته، وسعة ثقافته وكثرة اللغات التي يتقنها..وقبل هذا وذاك أخلاقه وعفته وبعده عن الارتشاء وزهده في التهافت على الدنيا الفانية جعله محط احترام اهل الصحراء.على ذلك أشهد. هو الآن أستاذ للغة الانجليزية بالسمارة.يستحيل ألا يذكر اسمه كلما تعلق الأمر بالمعقول والكفاءة. رشيد هذا سوسي حتى النخاع،عروبي بشكل لا يصدق، صحراويحساني إلى حد الإدهاش.كان تعارفنا صدفة.تطورت العلاقة بينا وصارت أخوة.وفي المحن يعرف الصديق.رشيد خويا أصبح اخي بالفعل ووقف معي في شدائد عز فيها الصدقان.إنه "مغرب أصيل يمشي على قدمين".عرفني إلى صديقه حسن، استاذ الانجليزية أيضا بأكادير.في بيت حسن، اكتشفت معنى أن تكون سوسيا اصيلا، معنى الانتماء إلى شتوكة ايت باها.في إقامة النسيم تنسقت نسيم تمغريبيت ببعدها الأمازيغي الذي هو ثروة وعنوان انتماء للأرض الطيبة المساة مغربا. محفوظ.. مول الحانوت ساقتنيظروفي أن يكون محفوظ، الأمازيغي المتحدر من آيت عبد الله، صاحب الدكان الذي يطل في بيتي مباشرة.بدأت العلاقة تجارية. هاك أرى.."كاس إفكاك".مرت سنتان تقريبا وتطورت العلاقة أيضا إلى "طعام مشترك" ومواقف تبين الرجولة من الخذلان.مرة أخرى وجدت نفسي إزاء تراكم ثقافي وتربوي أنتج شخصا قمة في الصدق والوفاء.محفوظ هذا، والله يشهد، لو كان ربع الناس مثله، لخلت المحاكم من المتخاصمين وساد السلام بين الناس.مرت السنين ولم يكذب علي مرة واحدة.عولت عليه في مواقف كثيرة فكان هامة طويلة في الشهامة.هل صدفة أن تكون هذه السلوكات بعيدة عن كون هؤلاء أمازيغ؟ مستحيل.أقولها بقناعة. ثمة قائمة طويلة جدا ممن تعاملت معهم من الأمازيغ.كلهم بادلوني حبا بحب ووفاء بوفاء. إلى درجة أن حظي، فعلا لا قولا، في طول الدنيا وعرضها، أمازيغي عموما، سوسي تحديدا.لقد قال لي رشيد خويا مرة مازحا:" إنك أمازيغي فقد هويته".جملة بليغة ذكية تلخص كل هذا اللغط والتسييس حول القضية الأمازيغية.إن الخوض فيها هو خوض في قضية وطن يسمى المغرب.وتهميشها هو تهميش لهوية شعب.حرام أن ينظر إلى "القضية الأمازيغية" كأنها قضية "الآخر".وليس حراما أن نكون مسلمين بجدور غير عربية.الفرس مسلمون.الأفغان مسلون..وغيرهم مسلمون لكنهم فخورون بهويتهم.أين المشلكة؟ الإسلام لم يأت ليخرب الثقافات.والله سبحانه هو الذي خلقنا شعوبا وقبائل.لكن العيب فينا لأننا لمنتعارف بالشكل المطلوب. ومن آياته اختلاف ألسنتنا وألواننا، فمن يعترض على معجزات الخالق؟ لا شك أن مكامن مقومات الشخصية الأمازيغية التي اكتشفتها في النماذج التي تحدثت عنها، وفي كثير من أمثلة أخرى لا يتسع المجال لتعدادها، ليست صدفة.لكن الوقوف على الحقائق بلا قناع يفتح أعيننا على أمور أخرى لا تقل أهمية. ومن بين ما أثار اهتمامي منذ فترة طويلة كانت تعبيرات الحضارة الأمازيغية الفنية.وسأقتصر على قضيتين: الرقص والغناء. وسألفت الانتباه إلى مقارنتين. من الأطلس إلى سوس، مرورا بالريف، لاحظوا الكم الهائل من الإيقاعات الموسيقية وألوان الرقص.لاحظوا أيضا أن لكل رقصة نظاما يحكمها ولا مجال للفوضى.وقارنوا، مشكورين غير غاضبين، بين انتظام أحيدوس وفوضى كثير من أشكال الرقص في باقي مناطق المغرب.هذه الأشكال التعبيرية تنم عن حضارة لن تطمرها القرون ولا تصاريف الحكم و"السياسة". اصدقائي الأمازيغ، الذين يتبنون طروحات شاذة تعرفون أن الإيمان بالتنوع وحده هو الذي يجمع ويقوي.وأن المحبة هي الضامن للسلم الاجتماعي.رجاء، كثيرا من الحكمة. أصدقائي المتعصبين للعروبة.رجاء،انظروا إلى شعوب تعتز بأساطير لا قيمة لها في التاريخ ولا في الجغرافيا،اصحوا قليلا،أين هي "الحضارة العربية"؟ أمام باقي الأمم اليوم؟.رجاء، كثيرا من التبصر. لدينا رصيد أمازيغي يجعلنا "عربا" بقيمة مضافة، المستقبل لها. هذا منظوري الخاص للأمازيغية، ولست مستعدا لتبديله مهما حصل.رأي فقط، لا ألزم به أحدا، مادام لن يطاع.. تمينسيوين تسعديين.