كان الحسن الثاني يثق ثقة كبيرة في مجموعة من جنرالاته، الذين كانوا على رأس العديد من الأجهزة العسكرية والأمنية، بل كان يسمح لقلة منهم بزيارته في مخدع نومه دليلا على الثقة الكبيرة التي كان يضعها فيهم، وجمعته بأغلبهم علاقات أسرية حيث كان أبناؤهم وزوجاتهم يدخلون القصر الملكي بشكل اعتيادي، لكن ما لم يكن يدور بخلد الحسن الثاني هو أن يتحول بعض هؤلاء الجنرالات إلى أشد أعدائه، بل يتجاوزون ذلك إلى محاولة تصفيته جسديا. في هذه السلسلة نحاول أن نرصد مسار أهم هؤلاء الجنرالات وعلاقتهم بالأحداث التي غيرت وجه المغرب السياسي في العقود القليلة الماضية. مضى صيف عام 1971 ثقيلا، ما بين محاكمة مراكش التي كانت بدأت في يونيو. ثم إحباط المحاولة الانقلابية في الصخيرات، ثم الاتجاه لفتح كتاب المغرب أمام القراء. وقبل أقل من شهر على مرور الحادث، سيقدم الحسن الثاني استقراءات نقدية لما وقع، داعيا نخب المثقفين والمفكرين ورجالات السياسة إلى الانكباب على دراسة أسباب وخلفيات ما حدث. سيصارح الحسن الثاني العقيد أحمد الدليمي المدير العام للأمن الوطني، وقد جاءه بعد ذلك يعرض تقريرا حول الأوضاع الأمنية، إن كان تنبه لشيء قبل المحاولة الانقلابية في الصخيرات، أمسك الحسن الثاني بمجلة «باري ماتش»، وقال للرجل الذي جلس أمامه يتحدث بهمس: -انظر، هل توحي لك الصورة بشيء أكبر مما حدث ! عرف عن الحسن الثاني ولعه الشديد بالتقاط الصور المعبرة، فقد كان يروق له أن يختزل المواقف في لقطات يحرص على انتقائها، وهو يصافح فلاحين بسطاء للإيحاء بارتباطه بالأرض قبل اختراع مقولة «الملك الفلاح»، أو يوجه بندقية صيد في اتجاه طريدة تائهة في الغابة، لإبراز ولعه بالصيد الذي لا يتقنه إلا من يلم بطبائع الطرائد، خصوصا حين تتحول رحلة الصيد إلى مباحثات سياسية، بعيدا عن الأنظار، أو ممتطيا صهوة فرس يحاور زعيم دولة كبرى. كانت تأسره نزعة سينمائية دفينة، وكان أشد إعجابا بإيحاءات الصور والمشاهد المثيرة التي لا تخلو من لمسات مخرج سينمائي أضاع طريقه نحو مهنة الحكم الذي أصاب فيه وأخطأ مثل من يضع يده في النار. فبعد بضع سنوات، سيدعو الحسن الثاني إلى تنظيم المسيرة الخضراء التي كانت تشد الانتباه إلى براعة مخرج يصر على أن يحمل عابرو الحدود الوهمية في اتجاه الصحراء مصاحف وأعلاما، ويرددون »الله أكبر» كما في الفتوحات الإسلامية. كذلك فإن بناء مسجد الحسن الثاني الذي سيأتي بعد مرور حوالي عقد من الزمن على المسيرة الخضراء، كان يراد لفرض سطوة الإيمان، إذ يستوي بيت الله على ضفاف البحر واليابسة في آن واحد. غير أن ما بين السينما والواقع ستكون نظرته إلى الأشياء مزيجا من الواقع والخيال. ألم يقل الحسن الثاني يوما في ثمانينيات القرن الماضي، بعد أن وضع وزير الطاقة والمعادن آنذاك موسى السعدي أمامه أحجارا أطلق عليها الصخور النفطية: إن من حق المغاربة أن يحلموا سواء عثروا على النفط من بين الصخور وقاع البحر، أو لم يجدوا لها أثرا، فالحلم لا رادع له غير المزيد من الحلم. هذه المرة في ربيع 1971غاب عن الحسن الثاني أن يتطلع إلى صورة حميمية جمعته والجنرال المذبوح في لحظة وداع، لم يكن موعده قد حان. ولم يدرك الجنرال أن عدسة آلة تصوير ستسبقه إلى النفاذ إلى مشاعر دفينة. طالما عمل على إخفائها بدهاء، وهو يخطط لعملية في منتهى السرية بعيدا عن العيون. حين كان الدليمي يقدم تقريره، بعد أن سبقته تقارير أخرى، شاركت كافة القطاعات العسكرية والمدنية في وضعها، على مقاس استكناه مواطن الخلل في تدبير شؤون الدولة، دار حديث جانبي حول حكاية الجنرال المذبوح وابنته، فقد كان ذلك جزءا من سيناريو محبوك، لإحاطة عمليته بأقصى درجات التكتم، ولم تكن مصارحته الملك بأنه يخشى على إحدى بناته من الانقياد وراء تنظيمات يسارية راديكالية، كانت تفرض سطوتها على الجامعات في المغرب وخارجه، سوى الإعلان عن مناهضته لتلك الحركات، التي كانت تستهدف النظام. سبق للمذبوح لدى عودته من الولاياتالمتحدة أن لمس في الحسن الثاني ميلا إلى رفض مجاراته في استغلال وقائع اقتصادية وتجارية، كانت وضعت المغرب تحت المجهر، نتيجة تورط شخصيات متنفذة في الاستيلاء على أموال وممتلكات أجنبية في الدارالبيضاء وغيرها. لكنه في الحقيقة كان يضع مسافة بعيدة بينه وبين إمكان انفضاح ما كان يخطط له. لعله كان يدرك أن إبداءه المخاوف حيال وضعية نجلته سيجعله أكثر قربا إلى الملك الذي كان يخاطب فيه الأب ورب الأسرة، عدا أن الانشغال بقضية جانبية مثل هذه، قد يدفع الحسن الثاني إلى غض الطرف عن أي شكوك أو وشايات. فاللافت أن الرجل الذي كان أقرب مسافة إلى أذن الملك، وهو الجنرال أوفقير لم يعرض في أي وقت إلى أي نوع من الارتياب إزاء رفيقه الجنرال المذبوح، وبسبب هذا الموقف كان صعبا على العقيد الدليمي وقد دخل على خط القضية أن يجاهر بعكس ذلك، فهو لم يكن يعرف، وسيؤكد لاحقا أن رأسه سيكون مطلوبا في مؤامرة الصخيرات، عدا أنه لم يكن يرغب في أي مواجهة مباشرة مع الصقور العسكريين الذين سيصبح واحدا منهم في الآتي من الزمن. ترى لو أن الحسن الثاني جارى المذبوح في ميولاته التي كانت تروم الاقتصاص من بعض الوزراء ورجال الأعمال، هل كانت أحداث الصخيرات ستتم وفق التوقيت ذاته، والطريقة نفسها؟ ما الذي حذا بأوفقير بعد مرور بضعة أشهر على المحاولة الانقلابية في الصخيرات لأن يدفع في اتجاه اعتقال وزراء ومسؤولين كبار ورجال أعمال، إن لم يكن إدراكه بأن القضية كانت مطلبا خارجيا لحيازة دعم خارجي؟ أم أنها الرغبة في امتصاص التداعيات وتحويل الأنظار عما كان يزعم تنفيذه حذت به إلى التضحية بأولئك الأشخاص الذين لم يكن لهم أن يتبوؤوا المكانة الإدارية والتجارية لولا دعمه غير المباشر. قد يكون الحسن الثاني أراد التأكيد، بعد حادث الصخيرات، أنه سيد القرار وأن في إمكانه أن يفتح كل الملفات من دون حرج، لذلك اختار مرور خمسة أشهر للإيذان بتنظيف البيت الداخلي، انطلاقا من المعطيات التي توفرت حول تورط وزراء وشخصيات سامية في فضيحة شركة الطيران الأمريكية، وهنا تحديدا يمكن ملاحظة نقاط الالتقاء بين ما كان تردد عن الجنرال محمد المذبوح لدى عودته من الولاياتالمتحدة، وبين فتح هذا الملف الشائك الذي أطاح برؤوس كثيرة، وكان في مقدمة الأسباب التي أدت إلى أحداث محكمة العدل الخاصة للنظر في ملفات نهب المال العام من طرف موظفي الدولة، وليس القطاع الخاص. ما بين انحياز الجنرال المذبوح إلى طروحات أمريكية، حيث أصبح أشد اقتناعا بأن تداعيات زيارته إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، واجتماعه بمسؤولين في الكونغريس وشخصيات نافذة، لم تمر من دون ردود أفعال غاضبة، وبين تسريع وتيرة خطته الانقلابية، هناك خيط رفيع، يكمن في إصراره على احتواء ردود الأفعال قبل وقوعها والعمل على احتوائها بطرق شتى، فهو يدرك حساسية الملك إزاء الحوار مع الأجانب، خصوصا حين يأتي من طرف شخصية عسكرية، يحظر عليها التدخل في غير ما تقتضيه الأعراف. وإن حاول المذبوح إخفاء ما يروج في خاطره، فقد كانت تغالبه شكوك إن لم يقل كل شيء، فإن هناك من سيفعل ذلك نيابة عنه، خصوصا من طرف جهات أمريكية صديقة أو معادية، طالما أن لا مكان للصداقة في العلاقات بين الدول، وإنما هناك المصالح المتبادلة والمنافع المشتركة. فهل أكرهه الخوف من انفضاح خطته على الالتفاف عليها بوسائل شتى؟ أم أنه كان يتصور أن السباحة بعد الارتماء في النهر تفرض نفسها، حتى على من لا يجيد الغطس في أعماق بحر السياسة؟.