كان الحسن الثاني يثق ثقة كبيرة في مجموعة من جنرالاته، الذين كانوا على رأس العديد من الأجهزة العسكرية والأمنية، بل كان يسمح لقلة منهم بزيارته في مخدع نومه دليلا على الثقة الكبيرة التي كان يضعها فيهم، وجمعته بأغلبهم علاقات أسرية حيث كان أبناؤهم وزوجاتهم يدخلون القصر الملكي بشكل اعتيادي، لكن ما لم يكن يدور بخلد الحسن الثاني هو أن يتحول بعض هؤلاء الجنرالات إلى أشد أعدائه، بل يتجاوزون ذلك إلى محاولة تصفيته جسديا. في هذه السلسلة نحاول أن نرصد مسار أهم هؤلاء الجنرالات وعلاقتهم بالأحداث التي غيرت وجه المغرب السياسي في العقود القليلة الماضية. لو أمكن للملك الراحل الحسن الثاني أن يتأمل أكثر في صورة التقطت له في مسالك الغولف في الرباط، لتغيرت وقائع كثيرة في تاريخ المغرب الحديث. ليس أقلها تفادي أخطاء ارتكبت في التعاطي مع تداعيات المحاولتين الانقلابيتين الفاشلتين في صيف عامي 1971 و1972. ومع أن التاريخ في جانب منه يكتب عبر الأخطاء أو عبر الفرص الضائعة، أو ما بينهما من عدم استشعار اللحظة، فإن ماحدث يحيل على وقائع حروب صغيرة وكبيرة استخدمت فيها شتى الوسائل، وكما أن لا كبائر دون ضحايا، فلا ضحايا من دون متورطين غيبهم الموت ولم تغيبهم الأحداث. صورة واحدة وليس أكثر، بدا فيها الملك الراحل وإلى جانبه الجنرال محمد المذبوح، وقد صوب نظرة يشع منها الحقد تجاهه. فالصورة أيضا حين تلتقط على حين بغتة تفضح المشاعر التي يحاول البعض إخفاءها في لحظات ضعف أو استسلام، وقد غاب في العدسة التي التقطتها أنها كانت على موعد مع حادث تاريخي، يؤثر في مسار المغرب. نحن الآن في عام 1971، الحسن الثاني يمارس هوايته المفضلة: القذف بالكرة في اتجاه ثغرات العشب الأخضر التي تحسب المسافات ودقة الضربات على إيقاع نسمات الهواء النقي واتجاهات الرياح، والمشهد لا يكتمل من دون حضور كبير الضباط المرافقين الذي لم يكن سوى الجنرال المذبوح الذي كان بدوره يهوى لعبة الغولف وركوب الخيل، لكنه سيزداد أهمية إذ تلتقط عدسة المصور مشهدا غير طبيعي. كان في إيحاء الصورة ما يمكن أن يعفي البلاد والعباد من مغامرات ترتبت عنها معطيات ومواقف غير متوقعة في حينها. فالتأمل فيها ربما كان سيدفع الحسن الثاني إلى تغيير نظرته إلى رجل ثقته الذي سيحاول إنهاء نظامه عند أول منعطف، عبر انقلاب فاشل يختلف عما قبله وما بعده من محاولات. والظاهر أن رجالات الحسن الثاني العسكريين والأمنيين كانوا عودوه على أن المكروه يأتي من الخارجين عن بيت الطاعة، ولم يدر في ذهنه أن الوسادة التي يخلد إليها قد تصبح قنبلة موقوتة، من فرط الاستسلام إلى أن الشرور تأتي من خارج النافذة. لم يمض على التقاط تلك الصورة أكثر من بضعة أشهر، حتى حدث ما لم يكن يتوقعه الملك، حين جاءه اليقين بأن زلزالا كاد يعصف بعرشه، في يوم يمكن أن يخال فيه المرء أي شيء إلا أن يقترن الاحتفال بعيد ميلاد بمحاولة إزاحته من مربع السلطة والوجود، في ذلك اليوم سطعت شمس دافئة على ربوع المملكة، لعل الطبيعة من خلالها أرادت إشعار الناس بأن المؤامرات يمكن أن تدبر ليلا. ويمكن كذلك أن تنفذ تحت ضربات الشمس اللاسعة، حين يفر الجميع إلى البحر طلبا للاستجمام والراحة. ومع أن الحسن الثاني كان مولعا بالتاريخ إلى درجة استحضار جزئياته الدالة، فلم يخطر على باله يوما وقد أمضى حياته في تأمل حياة القائد المغربي طارق بن زياد الذي أحرق سفن المحاربين الفاتحين على ضفة الساحل المتوسطي، أن بعض أحفاد هذا القائد يطوقون قصره من كل جانب، وسيقدم بعضهم على اقتحام الصخيرات عنوة من واجهة الساحل الأطلسي، وليس في كل مرة يكون الجنود على بينة مما يفعلون. غير أن سفنا بلا أشرعة ستكون في انتظار الملك لإجهاض جنون المتمردين. في ذلك المساء سيتحول الاحتفال بعيد ميلاد الملك الذي حمل الرقم الثاني والأربعين، إلى مأثم لعلعت فيه شهب نارية غير اصطناعية، حصدت أرواح أبرياء ومتورطين في حادث أقرب إلى خيال الأساطير، إذ يمتزج العرق بالدم والوحل بالرمل. كان صيفا عاديا، لكنه أقل مدعاة للارتياح، في غضون الأزمة السياسية التي ألقت بظلالها على انتخابات 1970. خصوصا وقد أسفرت عن توجه جديد يروم إعادة عقارب الساعة إلى الوراء لردم الفجوة بين الأخوة الأعداء في حزبي الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية. وقتها جاهر زعيم الاستقلال الراحل علال الفاسي بأن مشكلة المغرب تكمن في أن خمسمائة أسرة هي من يستحوذ على كل خيرات البلاد، وسيغتنم الجنرال أوفقير الفرصة للمطالبة برأس علال الفاسي لشنقه في مكان عمومي، بسبب تصريحات قال فيها إن سيادة الشعب «لا يتصرف فيها»، وكان يغمز من اتفاق ترسيم الحدود بين المغرب والجزائر، وحين لم يجاره الحسن الثاني في طرحه عمد إلى مهاجمة مطبعة الرسالة التي تصدر «العلم» و«لوبينيون» في شارع علال بن عبد الله في الرباط، بهدف إخماد أنفاس صحافة الاستقلال. كان الصراع بلغ ذروته في ضوء المواقف التي اتخذتها المعارضة، خصوصا الاتحاد الوطني والاستقلال إزاء دستور 1970، والتي نتج عنها تشكيل جبهة وطنية ضمتها إلى جانب الاتحاد المغربي للشغل، فيما اتسمت التجربة البرلمانية بضعف كبير نتيجة تلك المواقف، فقد أسندت رئاسة البرلمان إلى المستشار الراحل عبد الهادي بوطالب، في ضوء أزمة سياسية أدت إلى خروج المستشار أحمد رضا غديرة من وزارة التعليم، فيما اعتقل محمد اليازغي وانطلقت أشواط محاكمة مراكش التي شملت قيادات داخلية وخارجية للاتحاد الوطني. غير أنه قبل ذلك ستسري إشاعات قوية حول تعرض الملك الحسن الثاني لمحاولة انقلابية في ربيع 1970. لكن السلطات نفت ذلك بشدة، مؤكدة أنها ستضرب بقوة مثل هذه التسريبات التي يعتقد أنها كانت تميل لإطلاق بالونات اختبار من جهات متعددة الأطراف. شاءت ظروف أن تغيب حقائق كثيرة عن الملك الراحل، وقد صارحه الجنرال المذبوح يوما بمشاغل أسرية لم يعرها الحسن الثاني اهتماما، أكثر من كونها «ظاهرة عادية» لا تختلف عن تداعيات فورة الشباب. وغضب الايديولوجيا وتقليعات العصر. الأكيد أن ما بين صورة المذبوح التي التقطت في مسالك الغولف، وبين مصارحته الملك الحسن الثاني بتلك المشاغل، كان هناك قاسم مشترك ضاع في زحمة انشغالات أخرى، كان يغطي عليها الاحتقان السياسي القائم، وسيأتي زمن يوضح فيه الحسن الثاني أنه في كل مرة أراد فيها الانفتاح المعارضة تحدث هزات داخلية ترجئ المشروع. حدث ذلك في عام 1965، على خلفية اختطاف واغتيال المهدي بن بركة، وحدث في عام 1971 حين ساد توجه يروم إعادة إحياء المشاورات السياسية لتشكيل حكومة ائتلاف وطني، ثم لاحقا في عام 1972، بعد أن كانت تلك المشاورات في طريقها لأن تثمر مولودا جديدا لم يكتب له أن يرى النور. بيد أن ما يلفت الاهتمام في هذه المشروعات أنها كانت تجهض تحت أقدام العسكريين وليس بفعل السياسيين فقط ، وإن كانت المواقف ظلت متباعدة، فما بال الرجل الذي سيقول لاحقا إنه بات يتوجس من وسادته، وقد استسلم إلى ثقة عمياء في مقربين إلى بلاطه جاءت منهم المخاطر، قبل أن تأتي من معارضيه الذين كان يعرفهم واحدا واحدا، وإنها لمفارقة أن يكون من بين ضيوفه في الصخيرات رجالات سياسة وزعماء أحزاب في المعارضة، فقد ساد اعتقاد راسخ بأن المغاربة، وإن اختلفوا في الميولات والمواقف الحزبية، فإنهم يلتقون في الأفراح والمآثم، حيث ينسون تلك الخلافات في تقاليد موروثة، لا مكان فيها للقطيعة النهائية. فالجنرال المذبوح الذي رعى المحاولة الانقلابية الفاشلة في الصخيرات هو نفسه الذي كان يرتبط بعلاقات مع زعامات في المعارضة، بل إن الجنرال أوفقير نفسه سيحاول مرات عدة الانفتاح على أقطاب المعارضة، ولو أنه أمسك يوما بمسدسه ووجهه إلى رأسه في مجلس وزاري، وقال:إذا جاءت المعارضة إلى الحكم علينا أن نستعد إلى الرحيل. غير أن أوفقير لن يحزم حقائبه ويرحل،لأن المعارضة جاءت إلى الحكم، ولكن لأنه أراد أن يقتحم أسواره بالدبابات والطائرات، قبل أن يلقى حتفه غير بعيد عن الموقع الذي سقط فيه الجنرال محمد المذبوح في فناء قصر الصخيرات، الأولى في ليلة السادس عشر من غشت 1972، والثانية في العاشر من يوليوز 1971. ويا لها من ميتة لا تفصل بين جبروتها غير مسافة قليلة بين التخطيط لمحاولتين فاشلتين في مثل طلقات الهواء التي ترعب ولا تصيب. وربما كان الفرق أن أوفقير عاين طلقات الرصاص التي وجهها العقيد محمد عبابو ضد الجنرال المذبوح، فيما أن هذا الأخير لم يكتب له أن يسمع عن طلقات رصاص انبعثت من مكان ما داخل الصخيرات أيضا وأردت الجنرال أوفقير الذي جاء يطلب المغفرة.