ذكرى استرجاع أقاليمنا الجنوبية    الرباط.. إطلاق العديد من مشاريع التسريع المدني للانتقال الطاقي    حكومة إسبانيا تعلن خطة مساعدات بعد فيضانات خلفت 219 قتيلا    لفتيت: وزارة الداخلية بصدد إطلاق مشروع "هام" يرسخ شفافية وصدقية حسابات الأحزاب    وقفة تستنكر زيارة صحفيين لإسرائيل        وزير الشباب والثقافة والتواصل يحل بمدينة العيون    عندما طلب مجلس الأمن وقف «المسيرة « وأجاب الحسن الثاني : لقد أصبحت مسيرة الشعب    وهبي للمحامين: هل تريدونني أن أنبطح أرضا على بطني؟ ادخلوا للأحزاب وشكلوا الأغلبية وقرروا مكاني    بنك المغرب يكشف حقيقة العثور على مبالغ مالية مزورة داخل إحدى وكالاته    "يوسي بن دافيد" من أصول مغربية يترأس مكتب الاتصال الإسرائيلي بالرباط    الوداد يواجه طنجة قبل عصبة السيدات    "الأطفال وكتابة الأشعار.. مخاض تجربة" إصدار جديد للشاعرة مريم كرودي    18 قتيلا و2583 جريحا حصيلة حوادث السير بالمناطق الحضرية خلال الأسبوع المنصرم    مجموعة بريد المغرب تصدر طابعاً بريدياً تذكارياً بمناسبة الذكرى العاشرة لمتحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر        أخنوش: خصصنا في إطار مشروع قانون المالية 14 مليار درهم لدينامية قطاع التشغيل    الأحمر يغلق تداولات بورصة الدار البيضاء        قرض ب400 مليون أورو لزيادة القدرة الاستيعابية لميناء طنجة المتوسط    التجمع الوطني للأحرار يستعرض قضايا الصحراء المغربية ويشيد بزيارة الرئيس الفرنسي في اجتماع بالرباط    جدل في البرلمان بين منيب والتوفيق حول الدعوة ل"الجهاد" في فلسطين    أنفوجرافيك | أرقام رسمية.. معدل البطالة يرتفع إلى 13.6% بالربع الثالث من 2024    تحقيقات جديدة تهز كرة القدم التشيلية    بن صغير يكشف أسباب اختياره للمغرب    كَهنوت وعَلْموُوت    رئيس الحكومة يستعرض إنجازات المغرب في التجارة الخارجية    التساقطات ‬المطرية ‬أنعشت ‬الآمال ..‬ارتفاع ‬حقينة ‬السدود ‬ومؤشرات ‬على ‬موسم ‬فلاحي ‬جيد    "روائع الأطلس" يستكشف تقاليد المغرب في قطر    وزارة الاستثمار تعتزم اكتراء مقر جديد وفتح الباب ل30 منصب جديد    الاحتقان يخيم من جديد على قطاع الصحة.. وأطباء القطاع العام يلتحقون بالإضراب الوطني    مستشارو فيدرالية اليسار بالرباط ينبهون إلى التدبير الكارثي للنفايات الخضراء و الهامدة بالمدينة    "متفجرات مموهة" تثير استنفارًا أمنيا في بولندا    فن اللغا والسجية.. المهرجان الوطني للفيلم/ جوائز المهرجان/ عاشت السينما المغربية (فيديو)    الأرصاد الجوية تتوقع ارتفاع الحرارة خلال الأيام القادمة في المغرب    غير بعيد على الناظور.. حادث سير مروع يخلف عشرة جرحى    حقيقة انضمام نعية إلياس إلى الجزء الثالث من "بنات للا منانة    أولمبيك أسفي يوجه شكاية لمديرية التحكيم ضد كربوبي ويطالب بعدم تعيينها لمبارياته    القفطان المغربي يتألق خلال فعاليات الأسبوع العربي الأول في اليونسكو        آس الإسبانية تثني على أداء الدولي المغربي آدم أزنو مع بايرن ميوني    الانتخابات الأمريكية.. نحو 83 مليون شخص أدلوا بأصواتهم مبكرا    وزيرة التضامن الجديدة: برنامج عمل الوزارة لسنة 2025 يرتكز على تثمين المكتسبات وتسريع تنفيذ إجراءات البرنامج الحكومي    صاعقة برق تقتل لاعبا وتصيب آخرين أثناء مباراة كرة قدم في البيرو    دقيقة صمت خلال المباريات الأوروبية على ضحايا فيضانات فالنسيا    ترامب يعد الأمريكيين ب"قمم جديدة"    استنفار أمني واسع بعد العثور على 38 قذيفة في ورش بناء    تصفيات "كان" 2025.. تحكيم مغربي المباراة نيجيريا ورواندا بقيادة سمير الكزاز    أطباء العيون مغاربة يبتكرون تقنية جراحية جديدة    الجينات سبب رئيسي لمرض النقرس (دراسة)        خلال أسبوع واحد.. تسجيل أزيد من 2700 حالة إصابة و34 وفاة بجدري القردة في إفريقيا    إطلاق الحملة الوطنية للمراجعة واستدراك تلقيح الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة بإقليم الجديدة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    أسماء بنات من القران    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



داخل غرفة نوم الحسن الثاني
نشر في هسبريس يوم 24 - 04 - 2008

مرت ذكرى وفاة الحسن الثاني، وِفق التقويم الهجري، وتحدَّث الكثيرون عن جوانب من حياته، تفوَّق فيها، ومنها، بدون شك قِيادته للقطيع المغربي، الذي كان يُسميه بطريقة ماكرة "شعبه العزيز" طوال ثمانية وثلاثين عاما. وهو إنجاز ضخم حقا، بالنظر إلى الطريقة الكارثية التي حكَم بها البلاد والعِباد، بيدين، واحدة من حديد، والأخرى بقفاز.
""
إنًَّه بدون شك واحد من أهم السلاطين الذين تعاقبوا على حُكم المغرب والمغاربة، حيث فهِم جيدا الطريقة "الملائمة" لقيادة القطيع المغربي إلى ... حتفه. وهو نجاح "كبير" من منظور التدبير السياسي الميكيافيلي. غير أن مَن استحضروا شخص الحسن الثاني لم يلتفتوا إلى جانب خطير من حياته، ويتعلق بطرائق سلوكه بين أبنائه و "حريمه" إذ لا يخفى أنه في مثل هذا الفضاء تتضح الشخصية الحقيقية للمرء، حيث تُعلن عُقده الظاهرة والدفينة عن نفسها، نبسط أمامكم أجزاء متوفرة من حياة الحسن الثاني بين أفراد أسرته، عساها تمنحكم إضاءات عن طبيعة التكوين النفسي لواحد من أخطر الحكام الديكتاتوريين في القرن العشرين.
يضرب أبناءه وخدمه بحبال مبللة ويُصلح أعطاب قنوات المياه
لم يكن أحد من زوار الحسن الثاني، مهما بلغت أهميته، يعرف ما عليه الحياة داخل قصوره، لقد كانت تلك هي القاعدة، حتى لو تعلق الأمر برؤساء الدول والملوك من أصدقائه، أو كبار الوزراء الذين كان الحسن الثاني يدعوهم لحفلات أعياد ميلاده في نهاية السنة، فكل هؤلاء من كبار الضيوف، وغيرهم لم يكونوا يعرفون شيئا عن حميمية حياة الحسن الثاني.
كيف لا؟ وقد كانوا يجهلون كل شيء عن الحياة الخاصة للحسن الثاني، وأبعادها السرية، وارتباطاتها وتناقضاتها. لم يكونوا يعرفون مثلا، أن الملك السابق للمغرب، كان يعيش في عالم تؤثثه عشرات النساء، تسهرن على خدمته بشكل خاص، وأنه كان قادرا على ضرب واحد من خُدامه - أو أحد أبنائه – بواسطة حبال مفتولة ومبللة بالماء والملح، وفي نفس الوقت، البرهنة على أريحية مذهلة، وبشكل سري، اتجاه أسرة أحد الخدم تعيش ضنكا في العيش، وأيضا إرسال خادم آخر إلى مستشفى الأمراض العقلية، مُتهم بنسج علاقة غرامية مع إحدى نساء حريمه، كما كان يُمكنه - أي الحسن الثاني دائما - أن يعهد لخدمه بمهام سرية.
إنه ذات شخص الحسن الثاني العقلاني، الذي كان مهووسا بالتنجيم، حيث يحمل في معصمه سلسلة تحميه من الأرواح الشريرة، كما أنه كان قادرا أن يكون قاسيا بشكل رهيب، حيث والتأكيد على أن لديه قلبا من حجر، وفي نفس الوقت، إرسال مئات العشرات من المغاربة المجهولين للحج إلى مكة على نفقته، كما أن ذلك السيد المتعالي والمُنطلق (مطلوق) المُحاط على الدوام بجيش من الخدم، كان مُدِرا مُمتازا لأعطاب البيت، حيث كان بإمكانه القيام بدور العامل الرصاص (بلومبيي) لإصلاح عملية تسرب للمياه، أو النقاش حول نوعية خلطة إسمنت، ولا يُفوت أية فرصة للتأكيد على أنه فنان فريد من نوعه، كما كان يرسم تصاميم سيارات، وعمارات، ويخترع أشكال مجوهرات، ويصمم نماذج من ألبسة نسائية، كان يضطلع بتنفيذها مزودوه الأوروبيون بإخلاص، وكان يؤدي لهم أتعابهم عدّا نقدا، نعم لقد كان ذلك يتم بشكل متأخر لكنه لم يكن يتنصل من الأداء.
كان هناك ظل أساسي يُخيم على حياة الحسن الثاني وأبنائه، حيث كان مسدودا عليها بباب كبير ضخم والمفتاح الوحيد كان دائما بيده.
باب ضخم موصود ومفتاحه عند الملك
الحسن الثاني كان ملكا رحالة. فقد كان لديه نحو عشرون قصرا رهن إشارته، موزعة على مدى المدن المغربية من طنجة حتى أكَادير، ومن مراكش إلى إفران، مرورا بالدار البيضاء.. قصور كبيرة، بعضها كان حميميا، قصور ملكية في مِلكية الدولة، وأخرى خاصة أو فيلات مُصممة على أساس أنها قصور، مُخبأة خلف أسوار ضخمة، محروسة ليلا ونهارا من طرف رجال مُسلحين. كما أنه - أي الحسن الثاني - كان يملك إقامات فاخرة بالخارج، منها اثنان على الأقل بفرنسا، هي "آرمان فيليي" في الضاحية الباريسية، وبها مائتا غرفة، وإقامة "بيتز" الأقل شساعة نسبيا.
إن القصر الأكثر أهمية، وإن لم يكن المُفضل، هو ذاك الذي يوجد بالرباط، فهو رمز عُمراني لسلالة العلويين الحاكمة. ويتعلق الأمر بمدينة قائمة الذات، بأزقتها وشوارعها، ومصحة ومقبرة ومجزرة وثانوية،وإسطبل ومسبحين، وملعب غولف به ثمانية عشرة حفرة، وملاعب كرة المضرب، وفيلات وغابة وسجن، إنها مدينة غافية ومهجورة، ينحصر وجودها في الغالب، ضمن الخرائط السياحية في بقعة بيضاء غامضة.
بقعة محروسة جيدا... فعند أي واحد من أبواب القصر ثمة حراسة مشددة. فهناك يلتقي بشكل مُتزامن، رجال الأمن الملكي، والمضليين وعناصر الألوية الخفيفة للأمن، التابعين أيضا لقيادة الجيش، وخدام القصر "لمخازنية" أو "لفرارج" (الديوك) كما يُلقبون لارتدائهم الشاشية الحمراء والبذلة البيضاء.
إقامات الأمراء والأميرات
إن القصر الملكي بالرباط يُحيل على ديكورات قصص الكاتب الأرجنتيني لويس خورخي بورخيص: عالم من التهويمات، والأشياء المًُصطنعة والمتاهات. ففي رحاب القصر، ومخافة و قوع انقلاب آخر، فإن كل ما يُعتبر هاما يتم إخفاؤه، وما ليس كذلك يُترك مكشوفا،. فأبواب خشب الأرز المنحوتة البالغة الضخامة، تُفضي إلى ساحات فارغة، والممرات هي منعطفات أكثر من أي شيء آخر، أما الأبهاء فلا تنتهي إلا لتضيع، في حين أن المداخل المجهولة، والأسوار التي لا أبواب لها، والأدراج الضيقة، يُمكن أن تُفضي لقدس الأقداس، أي الإقامات الخاصة للملك.
من أجل الدخول إلى قصر الرباط، فإنه كان على رواده الحميمين - الأمراء والأميرات، وكذلك الخدم - ألا يستعملوا المدخل الرئيسي، بل باب مرآب )كَاراج) يوجد على الهامش. ويُفتح على موقف للسيارات وبناية مجهولة حيث يقضي السائقون والحراس الشخصيون سحابة يومهم. الإسطبل ليس بعيدا، عن ذات المكان، وتوجد فيه العربة الملكية. ثمة أيضا غرفة أخرى يشغلها "مخازنية". إنهم رجال يفعلون كل شىء، مثل جلب الغذاء لجراء (كانيش) الأميرات، أو حمل الزرابي الكبيرة حينما يتنقل الملك، أوتقديم كؤوس الشاي لضيوف الحسن الثاني، أو حراسة أبواب القصر الملكي من الداخل، إنهم هناك متوفرون للقيام بشتى المهام.
المنزل الصغير حيث أقام محمد السادس، في فترة المراهقة، يوجد على بُعد خطوتين، وهو مُشيد على نفس مقاسات علو باقي البنايات الأخرى، وبه حديقة. يتعلق الأمر بمنزل صغير ومُغر وبمرافق لا مبالغة فيها: صالة الطعام، ومطبخ وغرفة للأمير، وأخرى مزودة بسريرين لأصدقائه. وحينما نال ولي العهد شهادة الباكالوريا ذهب لقصر الرميلات بضواحي سلا، ليتسلم أخوه الأصغر رشيد البيت بعده. أما حينما كان الاثنان معا أكثر صغرا، فقد كانا يعيشان بقرب، ما كان يُسمى داخل القصر، ب "إقامة الأمراء والأميرات" وفيما بعد فرض الحسن الثاني على ابنيه الرحيل إلى مكان آخر، لأنه لم يكن يريد أن يستمر ابناه، بعد سن الخامسة عشرة أو السادسة عشرة، في الالتقاء بالفتيات اللواتي كن ملازمات للأميرات.
إقامة الأمراء عبارة عن مسكن كبير أبيض، بحواجز تفصلها عن باقي بنايات القصر المتوجة أسوارها بالقرميد الأخضر. كل أبناء الحسن الثاني أقاموا ودرسوا في ذلك المكان بشروط إسبرطية.
كيف كان الحسن الثاني يحترم محظيات محمد الخامس؟
وإذا ما واصل المرء السير عبر الطريق المحفوفة بالورود، والتي تؤدي بالتدرج هبوطا إلى الفناء الداخلي للقصر، فسيصل إلى المصحة التي وُلد فيها أربعة من الأبناء الخمسة للحسن الثاني. وهناك أيضا يتلقى هذا الأخير العلاج بشكل مناسباتي. صحيح لقد كان يُجهد نفسه ليبدو كما لو كان بصحة من حديد، غير أنه كان يعاني من اضطرابات هضمية، مقيمة ومؤلمة، التقطها في بداية سنوات خمسينيات القرن الماضي، حينما كان إلى جانب والده بجزيرة مدغشقر، وذلك خلال نفي محمد الخامس بين سنتي 1953 و1955 من طرف المستعمر الفرنسي.
يسير المصحة أطباء يوغوسلافيون، ولا شيء ينقصها: قاعة للعمليات، ومختبر التحليلات الطبية، وجهاز سكانير، وصيدلية، وصالة لعلاج الأسنان، وذلك في الطابق السفلي، بمعية بضع غرف، وثمة أيضا صالة أخرى لعلاجات الأسنان، وبضع عشرة غرفة إضافية، مؤثثة ومُعتنى بها جيدا، حيث يأتي إليها لفيف من خيرة الأطباء الفرنسيين والأمريكيين، مرة كل شهرين من أجل إنجاز كشف صحي شامل للحسن الثاني. كما أن طبيب أسنان القصر كان يأتي من الخارج.
وبالجوار تسكن آخر خليلات الملك محمد الخامس. فحينما توفي هذا الأخير جراء عملية جراحية عادية سنة ،1961 كان رجلا حيويا في العقد الخامس من العمر، أما محظياته فكن أغلبهن في نحو الثلاثين العمر. وبعد مرور قرابة أربعين سنة، ما زالت هناك نحو عشرين منهن تسْكُنَّ المكان ذاته، وقد بلغن في معظمهن سن السبعين. كان الحسن الثاني يُعاملُهُن باحترام. كل واحدة منهن تتوفر على شقة. ومسبح قريب وحديقة، وسائق يسهر على مُشترياتها من وسط المدينة. كان السكرتير الخاص للملك يصرف لأولئك النسوة اللواتي لا معيل لهن، رواتب ببضع مئات آلاف من الدراهم، كل شهر، ليتمكنَّ من الاستمرار في الحياة. هؤلاء الخليلات القديمات، هن الزبونات الأساسيات للبقال والخباز والجزار الذين يأتون كل صباح لفتح دكاكينهن الصغيرة داخل رحاب القصر.
على مبعدة من هذا المكان ببضعة أمتار، يبدأ حي آخر. حيث توجد قاعة العرش، التي كان يلقي فيها الملك خُطبه، ويعقد بها ندواته الصحافية، وهناك أيضا تجري اللقاءات الرسمية، والأحاديث الدينية خلال شهر رمضان. وهناك أيضا، وعلى الأخص، خلف حيطان غير معروفة، ونوافذ ضئيلة تختفي الإقامات الخاصة للحسن الثاني، وحيث تعيش عشرات النساء. وأبناء الحسن الثاني الذين كانوا يأتون، كل واحد ودوره، للسلام على والدهم، وذلك حسب ما تقتضيه أعراف البروتوكول، وباستثناء ثلاثة من الأشخاص الذين يضطلعون بالترفيه عن الملك وبضعة خدم كبيرين في السن، صامتين مثل القبور.. باستثناء هؤلاء لا أحد يضع قدميه في ذلك المكان، وحينما يكون ضروريا تبديل أحد مصابيح الكهرباء، أو مد إحدى الزرابي الجديدة، فإن العمال الملحقين بالقصر يدخلون لعين المكان لكن يُرافقهم دائما أحد أفراد عبيد العافية، وهو واحد من سلالة عبيد القصر السود.
ويا ويل العامل الذي يتجرأ على رفع عينيه على النساء اللواتي يجدهن في طريقه. حيث إن قلب القصر يجب أن يظل غير مُخْتَرَق.
لم يكن هناك أي مستشار أو وزير أو رئيس دولة مهما كان مقربا، مسموحا له أن يتقاسم العالم الحميمي والسري للحسن الثاني.
ممرات وسراديب سرية إلى غُرف إقامة الحسن الثاني
كان الحسن الثاني يعيش في الطابق الخامس والأخير ضمن بناية بلون أبيض مُخضب. ومن هناك، وعبر ممرات أقل أو أكثر سرية، وسراديب مخفية، وأبهاء غامضة، حيث يُمكن الالتحاق بأجزاء من القصر، دون أن يكتشف أحد ذلك، والذهاب إلى المصحة، والالتحاق ببنايات محضيات محمد الخامس، بل وايضا، كما تفيد بذلك بعض الشائعات، مغادرة القصر الملكي خُفية، غير أن سيد المكان - أي الحسن الثاني - هو الذي كان يعرف لوحده التصاميم السرية للمداخل والمخارج وطرق استخدامها، كما كان الشأن أيضا بالنسبة لباقي القصور والإقامات، حيث كان يتوفر على مفتاح متعدد الاستعمالات لفتح جميع الأبواب.
الطابق الخامس عبارة عن صالونات متسلسلة، ومكاتب وغرف نوم، وحمامات حيث تتمشى نساء بأقدام عارية،أو يطللن من أبواب غرفهن، في انتظار أن ينادي عليهن الملك بكلمة "إيه" باترة. في بعض الغرف ثمة صور كبيرة معلقة أو مسنودة إلى الجدران، تثير الانتباه. يتعلق الأمر برواق لصور الحسن الثاني، ومن صورة لأخرى تتنوع الأوضاع والديكورات وتختلف، وفي بعضها كان هناك أحد أفراد أسرته إلى جانبه، غير أن الملك يظل هو الشخصية المحورية. إنها الصور التي سيتم توزيعها على الأقرباء، وهي من الكثرة بحيث بالكاد يُمكن ملاحظة أن الحيطان المغطاة بقطع قماش باللونين الأخضر والأصفر، حسب موضة سنوات السبعينيات، تتقاطع بعنف مع غطاء الأرضية ذي اللون البني، وأحمر الزرابي الصوفية. أما في السقف فتتأرجح منه الثريات الإيطالية المزودة بمصابيح محمية من التفحم.
الحسن الثاني يراقب كل شيء من الطابق الخامس
في كل الغرف تقريبا ثمة تدفئة لفصل الشتاء ومكيف للصيف، أما الأثاث فيقتصر على كرسي وجهاز تلفاز موصول بموزع فيديو داخلي. ففي بعض الليالي يكون الحسن الثاني مُحاطا بنساء حريمه لمشاهدة مسلسلات أمريكية مثل "ديناستي" أو "دلاس"... إلخ. وفي العديد من الغرف ثمة أكداس من الهدايا التي لم يتم فتحها أبدا، ورزم الجرائد والمجلات الأجنبية، من "لوفيغارو" و "لومند" و "الإكسبريس" و "لوبوان" مرورا بمجلات الغولف وأسبوعيات العمال الأنغلوساكسونية، عشرات العناوين، وبالمقابل فإن مكاتب وصالونات وغرف الحسن الثاني مزدحمة بسلال المهملات حيث تتكدس ساعات موشاة بالماس وايقونات الصلاة من العاج وولاعات فضية... والمجموع يمنح الانطباع بجوطية باذخة.
غير أن الأكثر مدعاة للدهشة في الطابق الخامس، هو المسبح المكشوف، بمساحة محترمة، ماءه دافئ، غير أن الحسن الثاني لم يكن يستفيد منه أبدا. لقد توقف عن السباحة في مستهل سنوات ثمانينيات القرن الماضي بعد موت الرقم الثاني في النظام - رسميا في حادثة سير - ونعني به الجنرال احمد الدليمي. حيث كان الحسن الثاني يعيش في خوف مقيم من عملية انقلاب جديدة. وبالتالي خوفه من أن يُفاجأ وهو في وضعية غير لائقة مرتديا مايوه سباحة، ودون أية وسيلة للدفاع في مواجهة انقلابيين محتملين.
الرؤية بانورامية من الطابق الخامس. فهي تمتد عبر ملعب الغولف - الذي يُسمى، بتواضع مصطنع أو بسبب الحرج: الحديقة. من ذلك المكان المرتفع كان الحسن الثاني يراقب كل شيء متزودا بمنظار مُكبر، فمن محطة المراقبة تلك كان يتتبع عمليات الدخول والخروج من مختلف مداخل القصر، وفضاء اللعب في ساحة الاستراحة بالمدرسة الملكية، والزيارات التي تتم إلى إقامة ولي العهد، والتحركات في مكتب المستشارين، لا شيء كان يُفلت عن بصره.
غرفة مكدسة بملايين الدولارات
الطابقان السفليان حيث قلما كان ينزل الحسن الثاني، مخصصان للخليلات و ل"أم الأمراء" كما تُلقب زوجة الحسن الثاني، ما دام أن لقب الملكة غير موجود في المغرب. تتوفر لطيفة على إقامة شاسعة يمتد على مدى الطابقين. وبجوارها نحو ثلاثين استوديو مجهز بشكل جيد حيث تقيم محظيات الحسن الثاني، والممرضات الفيلبينيات الشابات اللواتي منحهن له الرئيس الفيلبيني السابق فيرديناند ماركوس، وكذلك مدلكات الحسن الثاني وهن من أصول كورية أو يابانية.
كل الاستوديوات متشابهة: غرفة نوم، وبهو بأرائك صغيرة، وصالة حمام وقاعة استقبال. وثمة صور موضوعة كديكور للحيطان، لا يتعلق الأمر بصور أفراد الأسر الذين تركوهن خارج القصر، فهؤلاء لا وجود لهم. حيث تنقطع أية صلة لهن بهم عند "اختيارهن" العيش في ظل الملك، بل بصور رسمية لهذا الأخير وهو في هيئة ملكية أو محاطا بأفراد أسرته. وكل نسوة الحريم مطالبات، في حالة مرافقة الملك في أسفاره، بأخذ تلك الصور معهن كما لو تعلق الأمر بأيقونات ثمينة.
وفي الأسفل ثمة العديد من الحجرات المُقفلة التي تستخدم كمستودعات. مخازن لألبسة القفطان (زي نسائي مغربي تقليدي) وفساتين الظهور الطويلة الخاصة بالنساء، ومستودعات قمصان وأحذية الملك المصنوعة كلها على المقاس بإيطاليا، ومخزن خشب الصندل الذي يُعتبر القصر أكبر مستهلكيه، وهناك في الأخير مخزن الأوراق النقدية، المُقفل بطريقة غرفة بنك مصفحة، وثمة بداخلها خزانة حديدية (كوفر فور) تتوفر على رُزم العملة الفرنسية والسويسرية والألمانية والدولار والانجليزية... مُرتبة بعناية في أكياس بلاستيكية. والمجموع بعدة ملايين الدولارات.
كيف كان الحسن الثاني يشاهد أفلام الرعب والمغامرات وبجانبه مسدسه؟
هناك أيضا قاعة عرض سينمائية، مصبوغة باللونين البني والليموني، تم إعدادها في صالون قديم بالطابق السفلي. حيث كان الحسن الثاني يستطيع أن يدلف إليها عبر مصعد مُخصص له، انطلاقا من غرف نومه بالطابق الخامس. في القاعة المذكورة، ثمة نحو خمسين مقعدا، يوجد في وسطها كرسي الملك، بلون مختلف. وأمامه طاولة وُضِع فوقها جهاز هاتف ومِطفأة سجائر، ومِسْبَحَات.
كان الحسن الثاني يرتاد قاعة السينما بشكل مُكثف، وحينما كان يفعل فإن "طاقمه" الحريمي كان يُرافقه. وأقربهن إليه تحمل في يديها ما يشبه حقيبة يوجد بداخلها مسدس الملك. وبمجرد ما يتم إطفاء الأنوار تلتحق الخادمات بقاعة العرض دون إحداث ضجيج.
كانت تُعرض أفلام الرعب والمغامرات، ففي حين كانت أمه تُفضل أفلام الهنود الحمر. كان الحسن الثاني يُفضل أفلام "ألان دولون" و"كاترين دونوف" و"لويس دو فينيس" و"سين كونري".. وأفلام التاريخ القديم المدبلجة بالفرنسية التي تعود لسنوات الستينيات، وكل أفلام الجمهور وعشاق السينما، كان يُشاهد كل الأنواع.
وفي مواجهة قاعة السينما كان هناك بهو رخام أبيض يؤدي إلى صالة استقبال. تتوسطها نافورة، المكان مخصص للأعياد الكبرى الرسمية، حيث كان الحسن الثاني يتلقى التهنئة من النساء (حيث كُنَّ يُقبلن قدميه) ومن جزء من أفراد أسرته.
خادمات القصر والعيش بين الصراصير
ثمة أيضا أبهاء أخرى تُفضي إلى جناح مخصص للخادمات القائمات على خدمة الملك وخليلاته. المكان غادره البذخ الموجود في المرافق والأجنحة السابقة، ويحيل على الاكفهرار بالأحرى، ففي الصيف تظهر فيه الصراصير، أما في الشتاء فإن عدم توفر التدفئة يجعله قاسيا. إن الخادمات اللواتي يصل عددهن إلى نحو الستين، يعشن كما أغلب الناس خارج القصر مختلطات ببعضهن البعض. وتنام كل ثلاثة منهن، في فراش واحد، وتفصل بينهن أغطية موضوعة كالأشرعة أمام كل فريق منهن، ويطبخن طعامهن أمام غرفهن. لقد مرت العديد من السنوات منذ أن جيء بهن إلى القصر، حينما كان المطلوب أن يذهبن إلى المدرسة، وبذلك فإنه كان محكوما عليهن أن يقضين حياتهن منعزلات عن باقي العالم، اللهم إذا قرر الملك أن يُزوجهن بأحد موظفي القصر. وإذا ما كان من بينهن بضع شابات، فإن أغلبهن عبارة عن نساء مسنات. إذ أن بعضهن كانا في "الخدمة" أيام محمد الخامس.
حينما يهجر الملك القصر، فإن الخادمات لا يستطعن الذهاب إلى الطوابق العليا. وحينها فإنهن يظلن قابعات في أماكنهن، حيث كان يقتصر فضاؤهن على حمام القصر ورقعة زرقاء من السماء.
لماذا كان الحسن الثاني يكره قَصْرَيْ الرباط وطنجة؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.