ما زال الكثيرون ممن عاصروا مرور السلطة الملكية، من محمد الخامس إلى الحسن الثاني، يتساءلون عن "السر" المكنون الذي جعل هذا الأخير يتخذ له ضابط الجيش الفرنسي ذو السجل الدموي الرهيب، مساعدا مقربا له في شؤون الحكم، ونعني به اليوطنان كولونيل مولاي حفيظ العلوي. الواقع أن الحسن الثاني الذي كان قد تسلم العرش وعمره إثنان وثلاثون سنة، لم يخف تعلقه وانجذابه للشخص المثير للجدل الذي نحن بصدده، وثمة معطيات متوفرة عنه تزيد المطلع عليها، وهي يسيرة في واقع الأمر، حيرة وذهولا. فمن هو عبد الحفيظ العلوي؟
ولد الرجل سنة 1917 حين كان العالم يستعيد أنفاسه من حرب كونية مدمرة، حيث كانت جثث القتلى بالأكوام في شوارع المدن الأوروبية، أما في المغرب فكان الناس يتجرعون إهانة معاهدة الحماية، التي كان السلطان عبد الحفيظ قد وقعها، قبل أن يهرب إلى فرنسا خلسة في أحد المراكب التجارية العادية، كانت السلطة قد آلت للإقامة الاستعمارية، وبطبيعة الحال، لم يكن من المتيسر لهذه الأخيرة أن تحكم بلدا بالتعقيدات الاجتماعية والسياسية والعرقية، التي كان عليها المغرب دون مساعدة بعض من أعيان ونخبة أبناء البلد، وفي الواقع فإن هؤلاء الأخيرين كانوا من الكثرة ومن "الكفاءة" مما سارت بذكره الركبان.
ومن هؤلاء كان هناك شاب ينحدر من منطقة جنوبمراكش، اسمه حفيظ العلوي، الذي أقنع الضباط الفرنسيين بأنه جدير بعنايتهم بالنظر إلى الشراسة التي أبان عنها في أكثر من مناسبة، باعتباره ضابط صف حديث الالتحاق بالجيش الفرنسي، في التنكيل ببني جلدته، وبطبيعة الحال لم تتأخر المكافأة كثيرا، حيث ترقى حفيظ العلوي، في مراتب عسكرية متقدمة، حتى أصبح ليوطنان كولونيل في جيش فرنسا، وهي رتبة كبيرة بطبيعة الحال كان هناك مغاربة قلائل جدا، يُعدون على رؤوس الأصابع استطاعوا الترقي إليها، منهم مثلا محمد أوفقير والمحجوبي أحرضان، والشنا - صهر اوفقير – ذلك لأن أمر الترقي يتوقف على اعتبارات كثيرة منها "الكفاءة" في سحق المظاهرات التي كانت تنظمها الأجنحة المدنية لأعضاء جيش التحرير في المدن، وبالفعل فإنه يوجد في السجل "الحربي" لليوطنان كولونيل حفيظ العلوي "إنجاز" كبير، تمثل في قيادة سرية عسكرية لسحق المدنيين المغاربة سنة 1933 وقتل العديد منهم بدم بارد بل وبمتعة سادية لازمته طوال حياته كما سنرى فيما بعد.
وحسب المعطيات التاريخية المتوفرة عن الرجل في تلك الحقبة، فإن جناحا للمقاومة نظم كمينا لضابط الجيش الفرنسي حفيظ العلوي سنة 1954 حيث كانت هناك محاولة لاغتياله والتخلص من شره، بيد أنها لم تنجح، واحتفظ منها حفيظ العلوي بجرح غائر في كتفه، كان يقول أنه أصيب به أثناء الحرب، وهو ما لم يكن صحيحا بطبيعة الحال، حيث لم يخض أية حرب باستثناء أعمال القمع الوحشية، التي احترفها ضد بني جلدته لصالح مشغليه الفرنسيين. لم يكن الاستعمار قد رحل بعد من المغرب، حين تعرف الحسن الثاني الذي كان حينئذ وليا للعهد، على الضابط الفرنسي حفيظ العلوي، والمناسبة كانت هي زيارة الملك محمد الخامس لمدينة طنجة، ولإلقائه لخطابه الذي اعتُبر تاريخيا آنذاك، وكان ذلك يوم 9 أبريل من سنة 1947 ، تقدم حينها عبد الرحمان الحجوي - الذي أصبح فيما بعد مديرا لتشريفات السلطان بن عرفة - من ولي العهد الحسن وقدم له حفيظ العلوي، ومنذ ذلك الحين لم يفترق الرجلان، وغني عن القول أن حفيظ العلوي أصبح بعد ذلك الآمر الناهي في محيط الحسن الثاني حتى وفاته - أي خفيظ العلوي - يوم 14 دجنبر 1989 .
وبالرغم من أن الرجل - أي عبد الحفيظ - تسلم منصب باشا على مدينة سطات من يد الباشا لكَلاوي، وبالرغم من أنه لم يكتف فقط بمبايعة السلطان بن عرفة، خلال نفي محمد الخامس في بداية سنوات الخمسينيات من القرن الماضي، بالرغم من كل ذلك، فقد وجد نفسه بعد الاستقلال يتسلم منذ سنة 1963 منصب وزارة القصور الملكية والتشريفات والأوسمة، حيث يتفق الكثيرون ممن اختلطوا ببلاط الحسن الثاني، أو اقتربوا منه لسبب أو آخر، على أن عبد الحفيظ العلوي كان هو مَن أسس البروتوكول الملكي، ووضع مراسيمه التقليدية الصارمة، كما يعرفها على الأقل ثلاثة أجيال من المغاربة، وكان لا يتردد في ضرب ودفع مَن لا ينحني لتقبيل يد الحسن الثاني من الوزراء وكبار الشخصيات، كما أنه - حسب الإفادات التي استقيناها من بعض عارفيه - لم يكن يتردد في التنكيل بالذين يخالفونه الرأي، يحكي أحد السياسيين المغاربة القدامى هذه الحكاية الدالة: "حدث ذات مرة أن ثارت ثائرة ساكنة منطقة سيدي يوسف بنعلي بمدينة مراكش لسبب من الأسباب، وكان يُرأس مجلسها البلدي أحد قياديي حزب عتيق، فكان أن أرغم وزير القصور والتشريفات والأوسمة، القيادي الحزبي المعني على الإتيان للقصر في وضع غريب حقا، حيث جاء إلى قاعة العرش وهو مكبل اليدين خلف ظهره، واضعا موسى بين أسنانه، وهو يزحف على بطنه حتى وصل أمام الملك تعبيرا عن اعتذاره لما بدر من ساكنة جماعته.
كانت تلك "تخريجة" عبد الحفيظ العلوي كي يصفح الحسن الثاني عن الساكنة ورئيس مجلسها البلدي، ليس ذلك فقط بل إن عبد الحفيظ - حسبما يحكيه أحد الذين احتكوا به – كان هو المهندس الحقيقي، لفكرة إنشاء سجن سري للمحكومين في قضية الانقلابين العسكريين في بداية سبعينيات القرن الماضي، فحسب مصدرنا الموثوق، فإن عبد الحفيظ لم تعجبه الأحكام التي صدرت في حق العسكريين الانقلابيين، لذا عمد إلى التعبير عن ذلك للحسن الثاني، الذي كان لديه نفس الرأي، فكان أن وُُلِدت فكرة السجن الرهيب واختطاف العسكريين المحكوم عليهم، ليوضعوا فيه بغاية أن يموتوا بشكل بطيء، في ظروف غاية في الوحشية والسادية.. "كان عبد الحفيظ - يقول مصدرنا - يذهب في رحلات مكوكية بالطائرة، إلى منطقة تازمامارت ليشرف على كل صغيرة وكبيرة من المعتقل السري البشع، وكان هو مَن اختار نقط النظام العسكري الصارم، الذي سار عليه المعتقل والعاملون فيه، طوال عقدين من الزمن، حيث إن تلك التفاصيل الممعنة في التنكيل والسادية، التي رواها بعض الناجين مثل محمد الرايس وأحمد المرزوقي، كانت من بنات أفكار عبد الحفيظ العلوي". وقد دارت الأيام - حسب نفس المصدر دائما - ليُصاب عبد الحفيظ العلوي في أواخر سني حياته بمرض عجز الكلي الرهيب، حيث كانت تقله إلى فرنسا بانتظام، نفس الطائرة التي كان يستقلها للذهاب إلى تازمامارت، مرة كل أسبوع لتصفية دمه.
عبد الحفيظ العلوي، كان أيضا لا يتورع في الإلحاح على المدعوين إلى القصر، في مناسبات عديدة رسمية وخاصة، ليصطحبوا معهم زوجاتهم، لا لشيء إلا لأنه كان مولعا بالإيقاع بزوجات الآخرين، يحكي أحد الذين خبروا هذه العادة السيئة لديه أنه كان يتعمد عدم إحضار زوجته معه فكان أن قال له عبد الحفيظ العلوي: "إننا نمنحك دعوة مكتوب فيها: إلى السيد فلان الفلاني وحرمه فلماذا تأتي وحدك؟" فكان أن تخلص المعني من الموقف بروح الدعابة المعروف عنه، حيث أجاب الرجل المشهور بقسوته الأسطورية: الدعوة موجهة إلي أساسا وحرمي مُلحقة بواو المعية فحسب".. فكان اكتفى حفيظ العلوي بتكشيرة، يعتبرها هو ابتسامة، في وجه محدثته البشوش.
الصورة : عيد ميلاد الملك الراحل الحسن الثاني يوم 9 يوليوز 1972 ويوجد خلفه بالجلباب مولاي حفيظ العلوي
وصف الدكتور بلقاسم البلعشي، حفيظ العلوي في كتابه الهام "بورتريهات رجال سياسة مغاربة" الصادر باللغة الفرنسية منذ بضع سنوات عن دار النشر إفرقيا الشرق قائلا: "..لقد كانت لديه سحنة أحد أشخاص الإيس الإيس (أي ضباط المخابرات الألمان أيام هتلر ) بجمجمة صلعاء ووجه أملط وعينين دائريتين، خلف عدستي نظارة سميكتين، وصوت كهفي - نسبة للكهف - كأنه قادم من العدم، كان يتحرك مثل شبح، ساهرا مثل عفريت على كل ما يُقال ويُفعل. كان بمثابة ظل كاره للنوع البشري، بالنسبة للملك، يتابع كل حركة أو كلمة تبدر منه. يتعقبه دائما (...) إنه شخص بارد، وبذهن متوقد ينتبه للشاذة والفاذة، كائن خارج للتو من عالم ميكيافيلي للمؤامرات الشيطانية. كل الاستقبالات وكل اللقاءات وكل الاستشارات تمر عبره، وإذا ما نفذ أمرا فقد كان يفعل ذلك على طريقته (...) كل الوزراء كانوا يخشونه، كان يدفعهم، ويشتمهم بشكل لاذع، لإرغامهم على خفض جناح الذل، وان يضعوا كرامتهم، إن كانوا يتوفرون عليها، في جيوبهم. كان يمنح الأوامر في كل شيء، ويقحم أنفه في كل شيء، كان شخصه الرهيب يخيم على الأبهاء، لقد كان رجل المداخل المعتمة. كما أن مجموعة حاشية الملك كانت تتصرف حسب مشيئته. ولا شيء كان يُمكن أن يصل إلى الملك بدون موافقته (...) كل القرارات مرت عبره، وكان يتفاوض عليها بعائدات مالية هامة...".
ثمة حكاية فظيعة وبشعة يعرفها بعض الخاصة من حاشية الحسن الثاني، وما زال ضحيتها حي يُرزق، وتتلخص في أن هذا الأخير الذي نرمز له بحرفي( ل.س) كان من ضمن كبار مساعدي الحسن الثاني، وحدث أن ضبط عليه وزير القصور والتشريفات والأوسمة عملية اختلاس في قضاء أحد مآرب القصر، فكان أن أخضعه حفيظ العلوي لعملية استنطاق مكثفة، دامت زهاء ثلاث ساعات، اعترف في ختامها الرجل بما اقترفه، وبلغ من شدة ما قاساه من رعب بين يدي رجل القصر الرهيب، أن قضى حاجته الطبيعية في سرواله، ولاحظ حفيظ العلوي ذلك، فما كان منه إلا أن أمر الرجل الخائف، الغارق في غائطه، أن يفك حزامه ويلعق ما أفرزه، ثم قال له اذهب إلى حال سبيلك. وحسب المصدر الذي نقل إلينا هذه الحكاية البشعة، فإن الرجل المُعاقب بهذه الطريقة الفريدة من نوعها، تقلد عدة مناصب عليا في الحكومات المغربية المتعاقبة على مدى عقدين من فترة حكم الحسن الثاني.
نأتي الآن إلى جانبين أخيرين، من هذه السمات الشخصية الداكنة لرجل استثنائي بشره وقساوته، ويتعلقان ببعض تفاصيل أواخر أيام حياته، والثروة التي جمعها الرجل، نقل بعض العارفين بجوانب خاصة من حياة حفيظ العلوي أنه غرق في صمت أكثر فأكثر، حيث يبدو أن صوته الكهفي، عاد فجأة إلى مصدره الممعن في الخواء، وذلك منذ وفاة ابنه البكر بشكل مفاجئ، حيث ذاق الرجل مرارة الفقد التي طالما كان قد أذاقها لعشرات الأمهات والآباء في أبنائهم.. تحول الرجل إلى طيف أسود لا يتحرك الآخرون من حواليه سوى بتأثير من سلوكاته الجبروتية القديمة، ومما حدث خلال تلك الآونة، أن ذلك الرجل"القوي" تحول في أواخر أيام حياته إلى مجرد عجوز خائف مثل طائر مبلل، مرتعد من قوة مجهولة، فقد روى عنه بعض عارفيه، أنه أمر سائقه ذات يوم، بأخذه إلى خارج مدينة الرباط، وعندما توغلت السيارة وسط جانبين غابويين، في طريق زعير، أمر السائق بالتوقف، وترجل لوحده ثم دخل وسط الغابة، ليعتقد السائق أنه يريد قضاء حاجته، وعندما طال غيابه، خاف الرجل أن يكون قد حدث له مكروه فانطلق في أثره، وكم كانت مفاجأته كبيرة حينما وجد الرجل ذي القسوة الأسطورية، يلطم رأسه ووجهه مثل امرأة عجوز وهو يبكي ويصرخ.."سامحني يا ربي راه ما درتش باش نلقاك".
في يوم بارد جدا برودة حياة الرجل الرهيب، وبالتحديد 14 دجنبر من سنة 1989 توفي حفيظ العلوي، بعدما ترك وصية استغرب لها الكثيرون، سيما بعض العارفين، وهم قلائل جدا من رجال البلاط، بشأن الثروة الهائلة التي تركها وراءه، بل كانت وصيته هي أن لا يوضع جثمانه في صندوق، وأن لا يقام له ذكرى وفاة لا في اليوم الثالث ولا في اليوم الأربعين... أي أن يموت وكفى. غير أن رجال المخزن الذين فتشوا في بيت غير معروف، كان يملكه الرجل بالعاصمة الرباط، وجدوا أنه عبارة عن خزينة عملات نقدية كثيرة جدا مكدسة، يرجع بعضها إلى عهد محمد الخامس، وعشرات المئات من كيلوغرامات الذهب والفضة والحلي والمجوهرات، مما تصل قيمته إلى مئات الملايين.. بما كان يتعلق الأمر؟ بطبيعة الحال بما حصله الرجل المخزني البشع من "مفاوضاته" على الخدمات التي كان يؤديها لمختلف الشخصيات السياسية التي طالما أكلها طمع القرب من الحسن الثاني، والحصول على مناصب في الدولة، أما باقي الممتلكات العقارية والشركات والضيعات، وغيرها مما يتسابق رجال المخزن على مراكمته قيد حياتهم، فكان هائلا جدا، لدرجة انفتحت لها الأفواه دهشة.. وبطبيعة الحال فقد "ترَّك" المخزن ممتلكات الرجل الميت، وترك لذويه بعضا منها وهو ليس بالجزء اليسير. لقد ترك الرجل منذ وفاته منصبه فارغا إلى جانب الحسن الثاني، حيث لم يتول منصبه بعده أي احد، وتم الاكتفاء بأقرب مساعديه، وهو السيد عبد الحق لمريني، الذي تولى مديرية البروتوكول، خلفا لرئيسه الذي تحرك في ظله بخفة، وذلك ديدن الذين يترعرعون حوالي رجال قساة غلاظ من طراز حفيظ العلوي.