قرر عبد السلام ياسين سنة 1974 توجيه رسالته الشهيرة إلى الحسن الثاني "الإسلام أو الطوفان".."إسلام" سيرفع الحسن الثاني إلى مصاف القادة التاريخيين ويعيد تكرار نماذج الخلفاء والملوك أشباه عمر بن عبد العزيز.. إن هو أخذ بنصيحته، أو طوفان سيصنعه ياسين رويدا رويداً بعد بناء جماعته التي ستصلح أمور البلاد من فوق، لكن من موقع آخر غير موقع الحسن! فماذا كان رد فعل الحسن الثاني؟ تقول رواية ياسين إنه خطط لتصفيته قبل أن يتراجع عن ذلك ويقرر إدخاله إلى مستشفى المجانين. لم تكن رسالة "الإسلام أو الطوفان" أول مبادرة يطرق من خلالها عبد السلام ياسين باب القصر الملكي على عهد الحسن الثاني -رحمه الله- فقبل أن يحدث مؤسس جماعة العدل والإحسان القطيعة مع زاوية مداغ (الطريقة البوتشيشية) بشكل رسمي سنة 1974، كانت فكرة التغيير من أعلى تسيطر على جميع مخططاته.. فبمجرد ما انتهى من تأليف كتابه "الإسلام بين الدعوة والدولة" حتى بدأ يبحث عن طريقة لإيصاله إلى يد ملك البلاد، معتقدا أنه بمقدوره أن يحل ضيفا على مربع صناعة القرار بالمملكة من خلال دعم أمير المؤمنين في مواجهة رياح الماركسية وموضة الانقلابات العسكرية.. ففي نفس السنة التي سينجو فيها الملك الحسن من بطش انقلابيي قصر الصخيرات (عام)1971، سيبعث عبد السلام ياسين -الذي كان وقتها تحت جناح الشيخ العباس (والد الشيخ الحالي للطريقة البوتشيشية)- بنسخة من مؤلفه الذي سرد فيه تجارب الشخصيات التي مزجت بين الدعوة والدولة في نضالها ومشروعها، إلى الديوان الملكي.. خاب أمل عبد السلام ولم يجد أي صدى لمؤلفه في رحاب القصر.. وبعد شهور سيفقد شيخه المربي، وسيجد نفسه بعيداً عن سر وراثته.. خاوي الوفاض من إذن التربية الذي يسمح له بالجلوس على كرسي مشيخة البوتشيشيين.. فكر الرجل مليا في مصير مشروعه الفكري، وواقعه التنظيمي.. ثم قرر أن يضع بيضه كاملا في سلة واحدة.. واتخذ قرار كتابة "الإسلام أو الطوفان".. "إسلام" سيرفع الحسن الثاني إلى مصاف القادة التاريخيين ويعيد تكرار نماذج الخلفاء والملوك أشباه عمر بن عبد العزيز.. إن هو أخذ بنصيحته، أو طوفان سيصنعه ياسين رويدا رويداً بعد بناء جماعته التي ستصلح أمور البلاد من فوق، لكن من موقع آخر غير موقع الحسن! هكذا شرع الشيخ عبد السلام في البحث عن حجج التاريخ، ومنطوق الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ومزايا شجرة نسب العلويين.. ليحرر رسالته المطولة التي تتأرجح بين النصيحة والتهديد.. قبل أن يخط صفحاتها الأولى باللغة الفرنسية ويقرر كتابتها بلغة الضاد، جمع أصحابه الذين يثق بهم وخيرهم بين أمرين: إما أن يساعدوه لكن شريطة أن يعلموا بأن طريقه قد ينتهي بالموت، وإما أن يبتعدوا عنه كاتمين سره حتى لا يطالهم أذى السلطان. سنة قبل حدث المسيرة الخضراء وبداية صفحة جديدة بين الاتحاد الاشتراكي وملك البلاد.. كان صديقاه أحمد الملاخ ومحمد العلوي السليماني يجلبان الحروف المعدنية ويصففان نص الرسالة صفحة صفحة بطريقة الطبع البدائية بعيدا عن أعين المخبرين بالمدرسة التي كان العلوي مديرا لها بحي دوار العسكر بمراكش. وحين أصبح عدد النسخ المطلوب جاهزا، فضل ياسين أن تصل الرسالة إلى السياسيين والعلماء والمثقفين قبل أن تقع بين يدي الملك الحسن.. جمع أصحابه من جديد وأسر لهم أنه اقتنى كفنه، في إشارة منه إلى كونه مستعدا لجميع الاحتمالات بما فيها الأسوأ.. وقرروا جميعا الشروع في عملية توزيع الرسالة.. وبقي السؤال عالقا.. ما الذي سيقرره رئيس الدولة في شأن صوفي يغرد خارج سرب زاويته البوتشيشية التي حل بها شيخ جديد (الشيخ حمزة) ورث إذن التربية عن والده ويتجرأ على تهديد أمير المؤمنين بالطوفان؟ الجواب لم يتأخر كثيرا في الوصول إلى صاحب الرسالة، فبعد أقل من 24 ساعة من وصول نبأ "الإسلام أو الطوفان" إلى علم الملك الحسن حلت سيارة مستشفى الأمراض العقلية بباب منزل عبد السلام، ليصبح جارا للمجانين.. فالذي تسرب من داخل أسوار القصر هو أن الملك سأل مستشاريه والعلماء المقربين منه ماذا يفعل بصاحب الرسالة، فكان جواب أحد العلماء هو أن الذي يجرؤ على كتابة مثلها سيكون بالتأكيد من المجانين.. وإذا كان الشيخ ياسين قد قضى حوالي ثلاث سنوات ونصف بمستشفى المجانين معزولا عن أصحاب الأمراض العقلية، ليغادر أسواره في ربيع سنة 1978، فإن صاحبيه العلوي والملاخ قد حلا ضيفين على زنازن "درب مولاي الشريف" لأزيد من 15 شهراً، حيث قاسما معتقلي الحركة الماركسية اللينينية نفس وجبات التعذيب.. فهل بالغ عبد السلام حين اقتنى كفنه واعتقد أن رأسه قد تكون أينعت في منظار حجاج الملك الحسن؟ الجواب عند أعضاء جماعة "العدل والإحسان" وقادتها سيكون بالنفي، فحسب الرواية المعتمدة لديهم فإن الملك الحسن الثاني -رحمه الله- قد أمر بتصفية عبد السلام ياسين قبل أن يتراجع عن قراره في ليلة نفس اليوم.. "حين غادرت معتقل درب مولاي الشريف بصحبة الأخ الملاخ -يحكي محمد العلوي السليماني عضو مجلس إرشاد الجماعة- التقيت بأحد أفراد عائلتي.. الأستاذ مولاي الصديق الذي كان مدرسا بمدرسة مولاي يوسف، وحكى لي أن (الجنرال) مولاي حفيظ -وهو بدوره من العائلة- قد تلقى الأمر بتصفية عبد السلام ياسين من فلان.. وفلان -يشرح العلوي لمستمعيه ضاحكا- هو الحسن الثاني الله يرحمو..". هذه الرواية ستصبح حقيقة لا غبار عليها عند أتباع الجماعة بعدما أكدها مرشدهم بنفسه، لكن ما علمه العلوي السليماني بداية لم يكن دقيقا. "في ليلة نفس اليوم- يشرح المسؤول في "العدل والإحسان"- عاود الحسن الثاني الاتصال بمولاي حفيظ وقال له ذاك الأمر لا تنفذه. والذي حكا لي هذه الواقعة -يوضح- قال لي إن والده محمد الخامس أو عباس السبتي قد وقف عليه في المنام.. وقال له: «إذا درتي يدك على فلان فذلك هو اليوم الأخير لك..". أما الصيغة المعتمدة فهي تلك التي حكاها عبد السلام ياسين بنفسه للعلوي لاحقا. فبعد مرور 6 أو 7 شهور -حسب ما يحكي عضو مجلس الإرشاد- طلع عليه سي عبد السلام بالخبر اليقين على حد تعبيره. فمرشد "العدل والإحسان" كان على علاقة بمجذوب (المجذوب عند الصوفية يعتبر وليا من أولياء الله ويحظى بمكانة خاصة لديهم)، كان قد تعرف على الملك الحسن أول مرة -حسب رواية ياسين- حين نفته السلطات الاستعمارية الفرنسية بصحبة الملك محمد الخامس وأفراد العائلة الملكية إلى جزيرة مدغشقر.. "كان يقول لهم -ينقل العلوي عن ياسين- انتما غير تهناو.. دابا ترجعوا للعرش ديالكم وترجعوا للملك ديالكم. وحين عادوا إلى المغرب اصطحبوه معهم، وأصبحت له اليد الطولى داخل القصر سواء بالدار (المبنى الذي يقيم به الملك) أو غيرها..". هذا المجذوب هو الذي سيجعل الحسن الثاني يتراجع عن قرار تصفية عبد السلام ياسين وفق الرواية التي يقدمها هذا الأخير. "هادوك كانوا قاعدين في الليل (أي الملك الحسن الثاني وحاشيته) حتى سمعوا دقان قوي فالباب.. فسألهم (الملك) شكون هذا اللي كيتهجم على الباب.. فلما ذهبوا ينظرون وجدوا المجذوب وأخبروه.. فأمر الحسن بإدخاله، وقال له زيد أسي المجذوب.. فقال له:"ما نزيدش.. مالك مع عبد السلام ياسين.. تفرق مع عبد السلام ياسين.. راه باك ماخلانيش ننعس.." يقول العلوي على لسان الشيخ ياسين. ففي آخر رسالة "الإسلام أو الطوفان" ألحقها عبد السلام ياسين بنداء يخاطب به "أهل الدعوة" يقول فيه: "واعلموا أن صاحبكم (يقصد الحسن الثاني) إن طرح النصيحة، وماطل وراوغ.. ذاهب أمره وصائر إلى ما يصير إليه من أخذته العزة بالإثم حين قيل له: "اتق الله". ليس لي منظمة ولا أعوان إلا أنتم معشر المسلمين. فإن قرأتم في رسالتي صوابا وحقا فكونوا أنصارا لله، واعتصموا بالمساجد، وادعوا إلى رفق الإسلام يوم تضطرب المدلهمات بقوم غافلين، وإن موعدهم الصبح، أليس الصبح بقريب. لا تسكتوا عن الحق بعد اليوم..". لا شيء من هذا تحقق، بل إن العديد ممن توصلوا برسالة ياسين ذهبوا بها إلى رجال السلطة يتبرأون من مضمونها وصاحبها.. وإذا كان جواب الملك الحسن قد عرفه عبد السلام ياسين مباشرة، فإن أصدقاءه وأفراد أسرته لم يعلموا بمصيره إلا بعد مرور أيام.. فبحديقة مستشفى الأمراض العقلية.. صادف صاحب الرسالة عاملا بالمصحة تبادل معه أطراف الحديث، فوجد أنه يقطن بنفس حي صديقه علي سقراط.. فطلب منه أن يبلغه بمكان تواجده، وبعد أن طمأن سقراط أسرته وأخبرها بنقل عبد السلام إلى مستشفى المجانين.. أصبحت زوجته تزوره بشكل يومي.. كان هم الشيخ ياسين هو أن يعرف مصير رسالته، فطلب من صديقه سقراط عن طريق زوجته أن يكتب إليه رسالة يحدثه فيها عن مستجدات "الإسلام أو الطوفان".. أخبره علي بأن الناس يظهرون ما لا يضمرون، وأن المتعاطفين معه يجهرون بخلاف موقفهم، خاصة وأن السلطات شرعت في استدعاء كل من علمت بتوصله بنسخة من الرسالة لاستنطاقه. غادر ياسين مستشفى الأمراض العقلية ووجد أن الناس نسوا أمر رسالته، والعديد من أصدقائه قد أعرضوا عنه، والمثقفين قد ابتعدوا عنه.. لكنه لم يتنازل عن مضامين "الإسلام أو الطوفان".. وبدأ يبحث عن لبنات بناء جماعته التي ستصبح الطوفان الذي يهدد الملك الحسن.. لكن هذا الأخير توفي دون أن يبلغ ياسين مراده، وإن كان قد أضحى المعارض رقم 1 للحسن الثاني في سنوات حكمه الأخيرة. ومات الملك ومرشد "العدل والإحسان" محاصر في بيته، لم يغادره إلا بعد أن تقلد مقاليد الحكم الملك محمد السادس، الذي تلقى بدوره رسالة "مذكرة إلى من يهمه الأمر" من الشيخ ياسين.. لكن رد فعل الملك الجديد لم يصنع أي قصة محاولة تصفية جديدة لمرشد "العدل والإحسان". عن ملف نشرته أسبوعية الأيام -عدد 321