لقاء مع عبد الجليل البوصيري مقاوم: كثيرون هم الذين أساؤوا للأمير مولاي عبد الله في دردشة مع عبد الجليل البوصيري وجد أن الأمير مولاي عبد الله ظل معروفا بطيبوبته وتواضعه، وقريبا على الدوام من والده وأخيه الملك الحسن الثاني، في السراء والضراء. قبل إجراء مفاوضات "سان كلو" و"إيكس ليبان"، جرت عدة محادثات بخصوص من سيحكم المغرب، وفي هذا الإطار طرحت جملة من الاحتمالات صادرة عن سلطات الاحتلال الفرنسي، منها إبعاد الملك واقتراح إقامته معززا مكرما بالديار الفرنسية مع ضمان كل ظروف الحياة اللائقة بملك، أو إبعاد الملك وولي عهده وتعيين ابنه الأصغر، الأمير مولاي عبد الله ملكا تحت وصاية مجلس للعرش، إلا أن هذه التخريجات تكسرت بفعل الوحدة المتينة للعائلة الملكية، وقد دارت مثل هذه الأحاديث في زيارة المحامي "إيزار" الفرنسي للملك محمد الخامس بمنفاه. آنذاك كانت جملة من الجرائد الفرنسية، اجتهدت لإشاعة مثل هذه التخريجات، لأن الفرنسيين المتطرفين كانوا يكنون أكبر العداء لولي العهد وقتئذ (الملك الحسن الثاني)، وحاولوا ذلك بجميع الوسائل؛ وفي هذا الإطار روجت بعض الصحف لفكرة تنصيب الأمير مولاي عبد الله كسبيل لإبعاد الملك الحسن الثاني، إلا أن مثل هذه الأفكار سرعان ما اندثرت ولم يعيرها أحد أي اهتمام. وظلت علاقة الأمير مولاي عبد الله بأقطاب الحركة الوطنية وبالقادة السياسيين حسنة، قوامها الاحترام والتقدير على امتداد حياته، لذا كان يلعب دور السفير والدبلوماسي المحنك بينهم وبين الملك، لاسيما عندما تتشنج العلاقات بين القصر والأحزاب وفي أصعب اللحظات التي اجتازتها البلاد، فكلما كانت تلك العلاقات تتوتر، يتدخل الأمير مستغلا ارتباطاته الطيبة مع الأقطاب السياسية، وغالبا ما كان ينجح في هذه المهمة بفعل التقدير الذي كان يحظى به لديهم، وقد رأى بعض المقربين للملك الحسن الثاني والمحيطين به، في هذه العلاقة وهذا التقدير، خطرا عليهم، لذا تفننوا في تسميم الروابط بين الأخوين. فالأمير مولاي عبد الله كان على علاقة وطيدة وطيبة بعبد الحفيظ القادري، عضو اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال ووزير سابق، وكذلك بنقيب المحامين اعبابو وزوجته ثريا بنت عبد القادر برادة، باشا مدينة فاس. وظلت علاقات الأمير بعبد الحفيظ القادري قوية رغم توتر العلاقة بين الملك وحزب الاستقلال عندما أصبح معارضا. ولعب الأمير تقريبا نفس الدور في الشرق الأوسط اعتبارا لعلاقاته الطيبة مع رجالاته وقادة البلدان العربية لاسيما في نهاية الستينيات والسبعينيات. هذا الدور الذي كان يلعبه الأمير سبب له جملة من المتاعب، إذ أن بعض المحيطين بالملك الحسن الثاني شعروا بأن ما يقوم به الأمير في هذا المضمار يشكل عليهم خطرا، فحاولوا افتعال المشاكل بين الأخوين، لاسيما القريبين من الجنرال أوفقير وزبانيته. وكان معروفا عن الأمير مولاي عبد الله تعلقه بأصدقاء طفولته وشبابه، لاسيما الذين درسوا معه في المعهد المولوي، ومنهم عبد الحق القادري وجنان، وكان هذا الأخير قائما على جملة من مصالحه، ورغم أن الكثيرين من المقربين للأمير أساؤوا له، فإن الأمير مولاي عبد الله ظل عفوا عنهم وكان يغفر للمخطئين في حقه بسهولة. وقد استغل بعضهم طيبوبة الأمير والقرب منه واستعملوا اسمه لقضاء مآربهم والاستيلاء على شركات وعقارات والسطو على أراضي فلاحية باسمه وبدون علمه، وقد انفضح أمر بعضهم عندما انكشفت بعض القضايا مثل محاولة السطو على أراضي أولاد خليفة، كما أن جملة من شركائه تنكروا لذلك، وبذلك ضاع جزء كبير من أمواله وأملاكه، وهذا ما دفع أخاه الملك الحسن الثاني بعد وفاته إلى البحث عن الكثير من الذين كانوا يتصرفون في أموال وعقارات أخيه الراحل، عندما اكتشف أنهم نصبوا عليه. ومن أسباب الخلافات بين الأمير والملك، أن هذا الأخير لم يتفهم قبول صفح أخيه عمن كانوا يسيئون له، إذ كان يغفر لهم بسهولة، وكان هذا موضوع خلاف بينهما، ومن النوازل التي أقلقت الملك بهذا الخصوص محاولة بعض المقربين من الأمير السطو على أراضي لإقامة تجزئات وضيعات باسمه وتوهيم أصحابها والقائمين عليها أن الأمير هو الذي يرغب فيها، ومنها أرض بلمنصور بالفوارات وأرض أولاد خليفة التي أثارت ضجة كبيرة في فجر السبعينيات وسقط بسببها فلاحون بفعل القمع الدموي الذي أشرف عليه الجنرال محمد أوفقير، وارتبطت هذه القضية بوسيط يدعى "لوموان"، كما انكشفت قضية سطو باسم الأمير ودون علمه تورط فيها الكولونيل بوبكر. كان جل المقربين من الأمير والمحيطين به يتاجرون باسمه، ورغم علمه بتصرفات بعضهم وانكشاف أمرهم لم يسبق للأمير مولاي عبد الله أن كان سببا في إيذاء أحد منهم. وكان الأمير رجلا يهتم بالرياضة والرياضيين، ظل رئيسا شرفيا للفتح الرباطي وقريبا منه جدا منذ نعومة أظافره، إذ كان من مؤسسيه، كما كان على علاقة بجميع الفرق، لاسيما الوداد والنادي القنيطري، وبقي قريبا من العصبة الحرة لكرة القدم التي كان يترأسها بلكورة. وخلافا لما يشاع كان الملك الحسن الثاني يشرك أخاه الأمير مولاي عبد الله في القرارات الكبرى رغم خلافهما في بعض القضايا، لكن الأمير كان على الدوام ينضبط لأخيه الملك ولرؤيته بخصوص الأمور الكبرى، وقد كان حاضرا إلى جانب لالة عبلة والجنرال عبد الحفيظ عندما جاء الجنرال محمد أوفقير إلى القصر الملكي مساء فشل الهجوم على الطائرة الملكية في 16 غشت 1972. لقاء مع رمزي صوفيا كاتب وصحفي: جلسات الأمير تتميز بطابع مغناطيسي خاص رمزي صوفيا، صحفي من المشرق زار المغرب فعشقه وقرر الاستقرار به، باعتبار أنه ظل مقتنعا، قناعة راسخة، أن الحدود بين العرب مصطنعة ولم تكن لتصمد في وجه الوجدان العربي، عرف رمزي صوفيا بملاحقته للفنانين عبر العالم، وفي جعبته ذكريات مع أغلبهم، سألناه عن الأمير مولاي عبد الله فكان جوابه كالتالي: في عام 1975 كانت زيارتي الأولى للمملكة المغربية بمثابة محطة حاسمة في حياتي. فقد حللت بهدف المشاركة في المسيرة الخضراء إلى الأقاليم المغربية الجنوبية، فتحولت زيارتي إلى مقام واستقرار دائمين لي بربوع هذا البلد المضياف. يومها قدمني الأستاذ الكبير ذو التاريخ والباع السياسيين المشرفين: أحمد بن سودة – شفاه الله- الذي كانت تربطني به صداقة قديمة وطيدة عندما كان سفيرا للمغرب في لبنان. قدمني صديقي الكبير للراحل العظيم، مفخرة تاريخ العلويين الحسن الثاني طيب الله ثراه، وكان بصحبته ولي عهده آنذاك سمو الأمير سيدي محمد وصاحب السمو الملكي الأمير عبد الله شقيق الحسن الثاني. وانطلاقا من ذلك اليوم ربطتني صداقة كريمة بسمو الأمير عبد الله الذي كان يتميز بانفتاحه على الآخرين وميله للحضور والمشاركة في النقاشات السياسية والأدبية ومنتديات الفكر والعلم والتاريخ، وأصبحت أتردد على بيته حيث كنا نتحدث في عدد هام من المواضيع المثرية للاطلاع بحكم سعة أفق الأمير الشاب آنذاك. وكانت جلسات الأمير عبد الله تتميز بطابع مغناطيسي خاص بفضل روح المرح والدعابة التي كان الأمير، البالغ التواضع والدماثة، يضفيها عليها فقد كان دائم السعي لإزالة أية حواجز بينه وبين أصدقائه ومقربيه حيث كان الانشراح وروح النكتة الطيبة الهادفة يطبعان لقاءاتنا به داخل بيته. واذكر أن الأمير عبد الله قص علي حكاياته مع الأستاذ أحمد بن سودة الذي كثيرا ما كان يجد نفسه واقعا في مقلب ظريف ينفجر له الأمير ضاحكا، وهكذا حكى لي الأمير : دعاني أحمد بن سودة ذات يوم إلى وليمة غذاء في منزله وكانت ترافقني زوجتي. وبحكم معرفتنا بأدق التفاصيل الحياتية لابن سودة فقد كنت أعرف تماما بأن زوجته هي من أعدت المأدبة من الألف إلى الياء. وبعد تناولنا لطعام الغذاء الذي كان شهيا بفضل مهارة زوجة السيد ابن سودة في الطبخ فقد بادرته بالقول: أريد منك خدمة. فأجابني بسرعة: أنت يا سمو الأمير لا تطلب بل تأمر وأنا أطيع دون تأخير أو تردد. فقلت له: أريد منك أن تتنازل لي عن الطباخ الذي أعد لنا هذا الطعام الممتاز ليعمل في بيتي. فانتفض ابن سودة كمن لدغته عقرب وهو يقول وقد احتقن وجهه:" لقد خدمت عائلة ابن سودة العرش العلوي عبر حقب ودهور. وإذا أردت وأصررت على أخذ طباخي فإن هذا الموقف سيكون بداية حرب بين العلويين وآل سودة لأن الطباخ الذي ترغب فيه يا سمو الأمير هو ... زوجتي". ويسترسل الأمير في حكي نوادره على مسامعي وأنا أكاد أختنق من الضحك، فقد كانت للأمير عبد الله طريقة خاصة في التحدث مع مقربيه تجعلهم يشعرون بارتياح كبير لشخصيته البالغة الجاذبية، المتزنة الأخلاق، الميالة للمرح وإزاحة غيوم الهيبة عن جلساته دون الإخلال بواجب الاحترام لشخصه المميز. وقد قص علي الأمير عبد الله نادرة أخرى جعلت تماسكي يتحول إلى نوبة ضحك مسترسلة، إذ قال لي: عند وفاة صهري والد الأميرة لمياء: الزعيم رياض الصلح، سافرت رفقة وفد مغربي هام للقيام بواجب العزاء في لبنان. وقبيل هبوط الطائرة على أرضية مطار بيروت، قلت لأصدقائي: سوف يستقبلنا الآن أحمد بن سودة – كان يومها سفيرا للمغرب بلبنان- وسوف يكون باكيا منتحبا بوجه محتقن الاحمرار، فاتركوه حتى ينتهي من بكائه وسوف ترون ما سيقع... وبالفعل ما إن وطأت أقدامنا أرضية المطار حتى انفجر بن سودة في البكاء والنحيب بصوته الجهوري وهو يردد عبارات النعي في صهري الراحل، فصمتنا جميعا وتركناه يبكي لمدة ربع ساعة فأمرته بالاقتراب مني، وحكيت له نكتة فانفجر ضاحكا بكل قوة على الفور ورنة ضحكته تتردد داخل القاعة الشرفية للمطار". علاقة مميزة يخص بها الأمير الراحل عالم الفن والأدباء، حيث كان يحرص على تنظيم جلسات دورية ليخوض نقاشات غنية مع المفكرين المغاربة والأجانب الذين كانت تفحمهم سعة اطلاعه ويغادرون الجلسة وقد ازدادوا تقديرا للأمير العاشق للأدب القارض للشعر والحكي المفيد. أما فيما يتعلق بالشأن السياسي، فقد كان الأمير بحكم موقعه كشقيق وحيد للملك الراحل الحسن الثاني، عبارة عن سند له يؤازره ويسد كل الثغرات ما توشك أن تظهر، فقد كانت الثقة كبيرة بين الملك وشقيقه، وكان الأمير يتميز بهدوء كبير يجعله يعاين الظروف والمعطيات بنظرة ثاقبة كثيرا ما كان الحسن الثاني يأخذ منها آراء ونصائح هامة يفتي بها شقيقه المخلص له. وكان الأمير عبد الله يتميز بشيء هام هو بعد نظره في الحكم على الأشخاص حيث كان يحرص على سبر أغوار الشخصيات المحيطة بشقيقه وينصحه بإبعاد بعض الذين يكره الأمير وصوليتهم واستحالة منحهم ثقة المحيط الملكي. و كانت للأمير علاقات متميزة بقادة وأمراء المشرق العربي، تعود أولا لمصاهرته أكبر عائلات لبنان : آل الصلح وعشقه الكبير قضاء الكثير من الوقت بين ربوع الشام، كما كانت له صداقات شخصية كبيرة بعدد من الشخصيات النافذة هناك. ولا زلت أذكر آخر لقاء جمعني به قبيل رحيله بمدة قصيرة، فقد زرته مهنئا عند عودته من رحلة علاجية خارج المغرب، وعندما دخلت عليه وجدته قد فقد نصف وزنه دون أن تبدو عليه أية علامات لرهبة الموت، فقد كان صوته القوي النبرات ونظراته الهادئة تمحو أية إشارة إلى شعوره بدنو أجله، وهو يعلم ذلك كل العلم وداء السرطان الخبيث ينخر جسده دون هوادة. وخلال حديثنا رن جرس الهاتف وكان المتحدث هو الملك الحسن الثاني الذي اتصل للسؤال عن أحوال شقيقه الصحية فطمأنه الأمير بهدوء المؤمنين بقضاء الله وقدره رغم يقينه من سوء حالته.. وخلال جلستنا قال لي الأمير: لقد ورثت منزلا رائعا بالمحمدية عن والدي الراحل محمد الخامس رحمه الله. وكان الشيخ سعد العبد الله ولي عهد الكويت وبعد زيارته لي في هذا البيت قد أعجب بهذا المنزل وطلب مني بيعه له. يومها لم تكن لي أية رغبة في بيعه، أما اليوم فإني أرجو منك أن تتصل بالشيخ سعد وتبلغه رغبتي في بيع البيت المذكور. فقلت له سوف أخبر الشيخ سعد بذلك. ولكن القدر لم يمهل الأمير الشاب الذي لم تكن سنه تتجاوز آنذاك السابعة والأربعين، ولم تتحقق رغبته تلك في بيع بيته بالمحمدية حيث انتقل بعد أيام من لقائي به إلى دار البقاء تاركا الحسرة والحزن البليغين في قلوب الجميع وعلى رأسهم شقيقه الوحيد الملك الحسن الثاني الذي فقد فيه الأخ والسند بعد أن شغل صفة ممثله الشخصي وشغل موقف الناصح الأمين والأخ الصدوق للملك الراحل طيلة عمره. ولن ينسى المغاربة مشهد توديع الحسن الثاني للأمير عبد الله عند أداء صلاة الجنازة على جثمانه، حيث اتكأ الملك في لحظة تاريخية مؤثرة على الصندوق الذي كان يضم جثمان الأمير وبكى طويلا وعندما حاول مقربوه إزاحته باحترام خوفا عليه من الحزن الكبير الذي خلفه رحيل شقيقه، طلب منهم تركه إلى جانب الجثمان العزيز الذي فقد برحيله شقيقا لا شقيق له بعده رحمه الله. وبعد ذلك عاين الجميع وأنا معهم كيف كانت أحوال الملك الحسن الثاني بعد وفاة شقيقه ومدى الحزن الشديد الذي ظل مخيما على محياه، وكلما كان الحديث يتضمن ولو عبارة واحدة عن شقيقه الفقيد، لم يكن جلالته يستطيع التحكم في دموعه المنهمرة أسفا وحسرة على فراقه له. إعداد : إدريس ولد القابلة رئيس تحرير أسبوعية المشعل الأمير الذي كاد أن يصبح ملكا - أسباب التوتر بين الملك الحسن الثاني والأمير مولاي عبد الله -الجزء الأول- الأمير الذي كاد أن يصبح ملكا - أسباب التوتر بين الملك الحسن الثاني و الأمير مولاي عبد الله – الجزء الثاني- الأمير الذي كاد أن يصبح ملكا - أسباب التوتر بين الملك الحسن الثاني والأمير مولاي عبد الله -الجزء الأول- الأمير الذي كاد أن يصبح ملكا - أسباب التوتر بين الملك الحسن الثاني و الأمير مولاي عبد الله – الجزء الثاني-