تقرأ هذه الأيام بعض المقالات وبعض عناوين اليوميات والأسبوعيات ،فتصاب بالدوران ونوع من الامتعاض لكون أصحابها من مناصري شعار" نصف الكأس الفارغة " أو من مروجي مقالات " التبرهيش " وكتابات" الصعلكة " وناشري كلام "صالونات" الحلاقة ، بل أكثر من ذلك أصبح بعضهم - للأسف الشديد - متخصصا في السوداوية ونشر اليأس وتبخيس كل عمل مهما بلغت درجته من الرقي ،كورش يستشرف المستقبل ويضع لبنات ذلك المغرب الذي نحلم به جميعا وعلى مختلفة المستويات. وتكاد صحافة المغرب تتحول كلها إلى صحافة " الكلب الذي عض رجلا " ، فلا مكان على أعمدتها و ضمن موادها " الإعلامية " سوى الإثارة والبحث عن الاندهاش ، والأدهى من ذلك الترويج للخطاب ألعدمي وخطاب نشر الرذيلة ونشر صور نساء أفلام الخلاعة و البورنو، حيث تتساوى وظيفتها في هذه الحالة مع " الناشطين " المحترفين في مجال الكذب والعدم والردة والنكوص ورفض الديموقراطية ،بدعوى انه لم يكتمل صرحها، ولم تخرج من مرحلة الجنينية والتجريب، وكأن الديموقراطية يمكن لها أن تينع وتكتمل في بلد تتسم فيه المنظومة التعليمية والتربوية بالتعثر الشديد وتستفحل فيه الأمية التي يتسبب استمرارها المزمن في تعطيل المواعيد المرسومة مع النماء والتطور و الديموقراطية. ولعل هؤلاء قد انتبهوا إلى أن التفاؤل لا يبيع الصحف، وإنما التشاؤم هو وقود المبيعات. ففي معاهد الصحافة المغربية والأجنبية يعلمونك أن القطارات التي تصل في موعدها خبر لا يهم أحدا بل لا يصلح أصلا للنشر ، كما أن الكلب الذي يعض رجلا ليس خبرا، بل الخبر هو أن يعض الرجل كلبا أو " تعض الساقطة كلبا "، فذلك يستحق من الصحافي بالغ الاهتمام والمانشيطات بالبنط العريض و الواضح للعيان على بعد أمتار من الأكشاك التي تعرض البضاعة الجرائدية . إنها صحافة تقلب الأولويات رأسا على عقب ، وتتشبث بقشور الاختلالات من أجل نشر السواد، وتتناسى أن أي بلد مهما كان ، ومهما بلغ شأنه، لكي يمر من المنطقة السوداء إلى المنطقة البيضاء، لا بد له أن يمر من المنطقة الرمادية، ويحسن التعامل معها حتى لا يعود إدراجه إلى الخلف، والعتمة التي لن يخلفها بياض. ولم يكتف أصحابنا بذلك فشرعوا في توزيع النقط على الدولة بكل مؤسساتها وعلى الأشخاص والمسؤولين ، بل نصبوا أنفسهم ناصحين وواعظين، فلهم لكل مقام مقال، وهم لا يشق لهم غبار في الأخلاق والسلوك الحسن والمعاملات وفي السياسة الدولية والاقتصاد والدفاع من الأمهات وأبنائهن وكذا التطبيق السليم لمدونة الأسرة خاصة في شقها المرتبط بالطلاق والشقاق ونفقة الأبناء ، لذا لا يبخلون بنصائحهم الشديدة على أهل القرار وصناعه ، ويدقون أمامهم جرس الإنذار في الصغيرة والكبيرة مع قدرة غير مسبوقة على التهويل وجعل الحبة قبة. صحافيون سيأتي يوم - لا محالة قريب - يقدمون في الأكشاك بضاعتهم البائرة بالمجان وينفخون في مزامير " الفوفوزيلا " من اجل ترويجها ،لكن لن ينتبه لهم احد، لأنهم بكل بساطة فقدوا المصداقية لدى الكبير والصغير و تراهم اليوم في كل واد يهيمون ، حيث ينطبق عليهم ما جاء في القران الكريم " سكارى وما هم بسكارى ". ولعل أصحابنا من فرط استعمال أقراص " الضوباج " ،انساقوا وراء نظرية تقول أنه مادام المغرب لم يعد يتوفر على معارضة حقيقية بعد أن تساوت البرامج الحزبية، وبعد أن أصبحت معارضة الأمس جزءا لا يتجزأ من الإدارة، فإنه حري بالصحافة أن تتقمص دور المعارضة وأن تسد " الفراغ" مادامت كل الأحزاب ما هي في الواقع إلا حلقة في سلسلة الأغلبية حتى وإن ارتدت قناع المعارضة المؤسساتية التي لا تخيف أحدا. لكن المشكل هو أن الصحافي الذي يرشح نفسه لهذا الدور،- بعد فوات الأوان وخضوعه للدكاكة - يكون بالضرورة قد تخلى عن دوره كإعلامي ليس خصما وحكما وطرفا في أي قضية، بل وسيطا يمنح الكلمة لكافة الفرقاء على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم و"عشائرهم" الحزبية، فيفرق بين الخبر والتعليق ويمتنع عن الخلط بين الأجناس الصحافية، ويترك هامش تحليل والخلاصات للقارئ، صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في ما يستجد من أحداث، والمعني الأول بها كمواطن وكمعبر عن تقلبات الرأي العام. وكما أن الصحافة التي سادت زمنا بالمغرب واشتهرت بكونها كانت لا ترى سوى ما هو إيجابي وجميل وتتغاضى عن الهفوات والاختلالات، قد فقدت قراءها بفقدان مصداقيتها، فإن مصير الصحافة السوداوية صحافة " الصعلكة" و التبرهيش " سيكون مماثلا لها، إذ أن القارئ – الذي هو طبعا ليس في دار غفلون -سيحصل له إشباع من اليأس والتيئيس، وسيعزف عن اقتنائها أو مطالعتها ولو بالمجان، وسيبحث عن بدائل من خلال صحافة أخرى تحترم ذكاؤه وتحفزه على طرح الأسئلة عوض تلقي أجوبة جاهزة ومعلبة من طرف إعلام نصب نفسه وصيا على البلاد والعباد ،إعلام يحشر انفه في كل شيء يتحرك أمامه ووراءه ... مصطفى ريحان سكرتير تحرير أسبوعية " مجالس "