اعتبر العديد من الكتاب والمثقفين التونسيين، رحيل المفكر المغربي والعربي محمد عابد الجابري خسارة كبرى للفكر الحداثي التنويري العربي، محيلين على ماخلفه من إنتاج فكري غزير. وقد حفلت مختلف الصحف والمنابر الإعلامية التونسية طيلة هذا الأسبوع بالمقالات والتحليلات التي تتناول عطاء الجابري في مجال العلم والمعرفة. وفي هذا السياق أبرزت الكاتبة الصحفية آمال موسى، في مقال بجريدة (الصباح) أن "النقاط الجديرة بالاحترام كثيرة في تجربة المفكر المغاربي العربي محمد عابد الجابري، وذلك بدءا من عمق المشروع الفكري الذي أرساه وصولا إلى إخلاصه لذلك المشروع ، حتى أنه قضى حياته وهو يفكر إلى آخر رمق، متجاهلا المرض وأوجاعه". وأضافت، أن رحلة الجابري في الفكر وفي نقد العقل العربي كي يؤسس لدعوته إلى إعادة ابتكار العقل العربي، لم تكن يسيرة وسهلة كما قد يوهم بذلك شيوع اسمه وذيوع صيته كعلم من أعلام المهتمين بالتراث الإسلامي وببنية العقل العربي ومحدداته. من جانبه اعتبر محمد الحداد، وهو أستاذ وصاحب كرسي اليونسكو للدراسات المقارنة للأديان بإحدى الجامعات التونسية، أن للجابري فضلا كبيرا في الدراسات التراثية، حيث أنه فتح أفق القارئ على تنوع المدونة التراثية وثرائها، وخلص التقليديين من أسر النص التراثي كما خلص الماركسيين من نزعة الإسقاط عليه. وأضاف أن "للجابري علينا دينا لا ننساه وفضيلة لا ننكرها، كونه صالحنا مع النص التراثي"، مشيرا في هذا السياق إلى كتبه الأساسية الأولى في التراث، مثل (نحن والتراث) و(تكوين العقل العربي) و(نقد العقل العربي). أما الباحث عبد الكريم بن حميدة، فقد أبرز بدوره في مقال بجريدة (الوطن)، أن المفكر الراحل يعتبر "مناضلا حقيقيا دون أن يدعي هو ذلك"، مشيرا إلى أن أكثر كتبه التي خلفت دويا هائلا في الأوساط الأكاديمية والثقافية عامة، تلك التي اعتبرت "نقلة قيمة في علاقتنا بتراثنا، بل نقلة هامة في تاريخ حركة النهضة الثقافية العربية، التي يعد الجابري أحد ممثليها البارزين". وأضاف أن كتبه حول العقل العربي حققت نجاحا كبيرا بفضل المنهج العلمي الصارم الذي فرضه على نفسه، والتزامه بقواعد البحث العلمي في تعامله مع واحدة من "أكثر قضايانا حساسية وإثارة للجدل"، وهي التراث. واعتبر مهدي مبروك، الباحث في علم الاجتماع، في مقال ب(الصباح)، أن الثقافة العربية تفقد برحيل الجابري "معلما هاما من معالمها"، مشيرا إلى أن فرادة الجابري تكمن في "قدرتة الاستثنائية" على الجمع بين حقلين من المعارف لطالما مثلا عند غيره مصدر فصام وتوتر، وهما الثقافة الغربية والثقافة العربية. وقال مهدي مبروك إن الجابري كان "يحلق بجناحين دون أن يرتهن لأحدهما على حساب الآخر" ، معتبرا أن الراحل كان يمتلك قدرة استثنائية على ملامسة قضايا اجتماعية وسياسية تعيشها النخب وحتى قطاعات واسعة من الفئات الاجتماعية دون ان يتنازل عن مفاتيح المعرفة الرصينة والمتأنية، وهو القادم من متن التجريد الفلسفي، وذلك على خلاف العديد ممن عاصروه الذين اكتفوا بترديد المدونات النظرية المجردة في إعادة "حماقة عاجزة عن إخصاب الفكر أو إغنائه أحيانا". وخلص مهدي مبروك إلى أن الجابري كان يؤمن بقدرات الأمة الأمة العربية على استعادة مشروعها النهضوي الذي أفنى فيه جل عمره. من جانبه كتب الكاتب الصحفي نور الدين باالطيب في جريدة (الشروق) أن الجابري، الذي يعد واحدا من كبار المفكرين العرب، قدم للمكتبة العربية مجموعة كبيرة من المؤلفات في تجديد الفكر العربي ونقد بنية العقل العربي وهو المشروع الكبير الذي خصص له الراحل الجزء الأهم من حياته. وقال، إن المسيرة العلمية والفكرية لمحمد عابد الجابري كانت محل "تقدير" من الرئيس زين العابدين بن علي الذي منحه الجائزة المغاربية للآداب سنة 2002 بمناسبة اليوم الوطني للثقافة في تونس تكريما لإنتاجه الفكري. وأضاف أنه بوفاة محمد عابد الجابري، الذي كان من الشخصيات العربية التي تحظى بتقدير دولي كبير في المنظمات الأممية مثل اليونسكو ، تفقد الثقافة العربية واحدا من فرسانها الكبار الذين سعوا إلى تأسيس نظرية العقل العربي. وتحت عنوان "عندما يتوقف العقل العربي عن النقد" ، قال الكاتب الصحفي التونسي صالح عطية، الذي كانت تربطه علاقة وطيدة مع الراحل، إن الجابري لم يكن مجرد مؤلف أو مفكر عادي، بل شغل الأوساط الجامعية والفكرية والثقافية والسياسية، وملأ الدنيا العربية بمؤلفاته التي كانت تؤسس لمنهجية، وتضع رؤية جديدة، و"تمأسس" لعقل مختلف عن العقل الماضي، بتعقيداته ومكبلاته، ومتمايز عن العقل الحديث والمعاصر برهاناته وارتباطاته ب"الآخر" الغربي. وأضاف أن الجابري نجح في أن يجمع في سعة لافتة للنظر، بين الفكر العربي والإسلامي منذ "عصر التدوين" إلى غاية اللحظة الراهنة، والفكر الغربي في تطوراته المختلفة، في هضم نادر، مكنه من أن يكون "منتجا" فعليا لثقافة فاعلة، وفكر لم يكن بوسع أجيال من المثقفين العرب، القفز عليه أو تجاهله، رغم تعدد مشاربهم الفكرية والإيديولوجية. وخلص صالح عطية في مقاله ب(الصباح) إلى القول إن عابد الجابري "قد يكون بعث لتجديد عقل الأمة وكيفية نظرها للأمور..، مثلما أن للأمة من يجدد لها أمر دينها كل مائة عام".