صفحة فنية من الزمن الجميل للأغنية المغربية، طويت أمس بتشييع جثمان الفنان المرحوم عبد النبي الجيراري إلى مثواه الأخير، في مقبرة الشهداء بالرباط، تودعه نظرات التأثر، ودعوات الرحمة من طرف الفنانين الذين كان لهم بمثابة الأب الروحي. ثمة حزن عميق كان يلف ملامح مشيعيه، وهم يسيرون في موكبه الجنائزي في الطريق إلى المقبرة،وحرص الكثيرون منهم، تحت وطأة الإحساس بالتأثر، على أن يستحضروا مناقبه وخصاله، مستعرضين تضحيته وتواضعه، وزهده، وابتعاده عن الأضواء، في الفترة الأخيرة من حياته، بعد وفاة رفيقة دربه، وشريكة حياته. كان بيته مفتوحا في وجه جميع الفنانين،يأكلون ويشربون، ويتعلمون أصول الغناء وفق قواعده وأصوله. ولو تحدثت جدران منزله لأفصحت عن الكثير عن الألحان التي ولدت فيه،وأهداها لأصوات مغمورة سرعان ماحلقت بفضلها في سماوات الشهرة والانتشار. لم يكن الجيراري "يبيع" ألحانه، كما يفعل ملحنو اليوم، مستغلين تعطش الشباب للظهور للغناء، بل كان يمنحها هدية لكل ذي موهبة ، عن طواعية واختيار، مشترطا فقط، جودة الأداء، والتفاعل مع الأغنية بمنتهى الإحساس، لتصل إلى المتلقي. ولعل الكثيرين لايعرفون أن اكتشاف الجيراري للمواهب، لم يكن متوقفا عند أصحاب الأصوات الغنائية، من خلال برنامجه التلفزيوني ، "مواهب"، بل ان دائرة اهتمامه امتدت لتشمل مجالات أدبية فنية اخرى، لاتقل أهمية عن الغناء، مثل الشعر والتشكيل وغيرهما. ويحكي عمر التلباني، الشاعر الغنائى، وكاتب كلمات أغنية " سوق البشرية" للفنان عبد الوهاب الدكالي، أنه لولا عبد النبي الجيراري، ودعمه الدائم له ، لما استمر في مسيرته الأدبية حتى الآن، فقد واجهته بعض العقبات، في البداية لم يكن ليتغلب عليها لو لم يجد قامة في شموخ الجيراري ، يعتمد عليها في تذليل الصعاب. ويحسب للجيراري أنه من الملحنين المغاربة القلائل الذين حببوا القصيد الغنائي إلى الجمهور المغربي وتعويده على السعي إلى الاستماع إليها، من خلال باقة من أشهر القصائد العربية، التي ذاعت على كل لسان، وحفظها الناس كما يحفظ التلاميذ جدول الضرب في مادة الحساب، مع فارق أساسي، هو أنهم كانوا يتلذذون بترديدها، وهم يتذوقون تلك الروائع التي لاتنمحي من البال أبدا. والذين أسعفهم الحظ في التعرف على الجيراري، ومجالسته عن كثب، يعرفون ولاشك مدى تشبعه بالثقافة العربية، واغترافه من ينابيعها الأصيلة، تشهد بذلك مكتبته الأدبية والموسيقية، الزاخرة بأمهات الكتب وأندر التسجيلات الموسيقية. وكما كان مجددا في اختيار اجمل ما في الشعر من إبداعات في الوجدان، كان كذلك، بشهادة النقاد، مجددا في التوزيع الموسيقي، عبر إدخال ألات موسيقية جديدة أعطت للأغنية المغربية نكهة خاصة، وجعلتها تتجاوز الحدود، وتعيش في ذاكرة الأجيال. كان الجيراري موسوعة موسيقية شاملة، وصاحب موهبة فذة في العزف على مختلف الآلات الموسيقية، من العود إلى الكمان والبيانو، وهو أول من جعل نغمات البيانو تتردد في فضاء الموسيقى المغربية، من خلال تلحينه لقصيدة " أذكري" التي أسند غناءها للمطرب الراحل إسماعيل أحمد، وهي في الأصل قصيدة للشاعر محمد بنعبد الله، والد نبيل بنعبد الله، الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية، ووزير الإعلام سابقا، الذي كان حاضرا اليوم إلى جانب الفنانين في الموكب الجنائزي الرهيب. يكفي أن يتذكر المرء عناوين لأغنيات شاعت وذاعت في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، مثل " أنت" لعبد الوهاب الدكالي، و"حسبتك" لعبد الهادي بلخياط، و "لقاء" لسميرة سعيد، وو"رفيقتي" لمحمد علي، وغيرها كثير..كثير، ليلمس مدى عبقرية هذا الفنان. والواقع أن فقدان الجيراري خسارة كبيرة للأغنية المغربية، وهو ماعبر عنه العاهل المغربي الملك محمد السادس، بقوله لأسرته في برقية التعزية التي وجهها إليهم إن "رحيل هذه الشخصية البارزة في المشهد الفني الوطني، لا يعتبر رزءا فادحا بالنسبة لذويه وأقاربه ومحبيه فحسب، وإنما يعد خسارة لا تعوض بالنسبة لأسرة الفن والموسيقى داخل المغرب وخارجه، التي فقدت بوفاته رائدا من رواد الموسيقى المغربية الأصيلة، وفنانا موهوبا، وملحنا مقتدرا". بقيت ملاحظة توقف عندها اليوم اهل الفن،أثناء تشييع الجنازة، وهي أن التلفزيون المغربي لم يتعامل بمهنية أو اهتمام مع رحيل الجيراي، فقد بث النعي في أخر خبر ضمن نشرته الرئيسية ليلة أمس، من دون أن يكلف نفسه مثلا عناء تخصيص برنامج خاص عن عطائه للتلفزيون، او استضافة فنانين للحديث عنه بتوسع وتفصيل.. رحم الله عبد النبي الجيراري، ويجزيه أحسن الجزاء على ماقدمه لفنه ووطنه في تضحية ونكران ذات.