مسؤول فرنسي رفيع المستوى .. الجزائر صنيعة فرنسا ووجودها منذ قرون غير صحيح    سقوط عشرات القتلى والجرحى جراء حريق في فندق بتركيا    جريمة بيئية في الجديدة .. مجهولون يقطعون 36 شجرة من الصنوبر الحلبي    "حماس": منفذ الطعن "مغربي بطل"    الكاف : المغرب أثبت دائما قدرته على تنظيم بطولات من مستوى عالمي    دوري أبطال أوروبا.. برشلونة يقلب الطاولة على بنفيكا في مباراة مثيرة (5-4)    ماستر المهن القانونية والقضائية بطنجة ينظم دورة تكوينية لتعزيز منهجية البحث العلمي    "سبيس إكس" تطلق 21 قمرا صناعيا إلى الفضاء    الحاجب : تدابير استباقية للتخفيف من آثار موجة البرد (فيديو)    ارتفاع عدد ليالي المبيت السياحي بالصويرة    ربط كهربائي ومعبر جديد.. المغرب وموريتانيا يرسّخان جسور الوحدة والنماء    "البام" يدافع عن حصيلة المنصوري ويدعو إلى تفعيل ميثاق الأغلبية    كأس أمم إفريقيا 2025 .. "الكاف" يؤكد قدرة المغرب على تنظيم بطولات من مستوى عالمي    المغرب يواجه وضعية "غير عادية" لانتشار داء الحصبة "بوحمرون"    تركيا.. ارتفاع حصيلة ضحايا حريق منتجع للتزلج إلى 76 قتيلا وعشرات الجرحى    التحضير لعملية "الحريك" يُطيح ب3 أشخاص في يد أمن الحسيمة    لمواجهة آثار موجات البرد.. عامل الحسيمة يترأس اجتماعًا للجنة اليقظة    الحكومة: سعر السردين لا ينبغي أن يتجاوز 17 درهما ويجب التصدي لفوضى المضاربات    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الانخفاض    تركيا.. يوم حداد وطني إثر حريق منتجع التزلج الذي أودى بحياة 66 شخصا    وزارة التربية الوطنية تعلن صرف الشطر الثاني من الزيادة في أجور الأساتذة    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    مطالب في مجلس المستشارين بتأجيل مناقشة مشروع قانون الإضراب    اتخاذ إجراءات صارمة لكشف ملابسات جنحة قطع غير قانوني ل 36 شجرة صنوبر حلبي بإقليم الجديدة    توقيع اتفاق لإنجاز ميناء أكادير الجاف    مجلس المنافسة يكشف ربح الشركات في المغرب عن كل لتر تبيعه من الوقود    الدفاع الجديدي ينفصل عن المدرب    اليوبي يؤكد انتقال داء "بوحمرون" إلى وباء    فضيل يصدر أغنيته الجديدة "فاتي" رفقة سكينة كلامور    افتتاح ملحقة للمعهد الوطني للفنون الجميلة بمدينة أكادير    هل بسبب تصريحاته حول الجيش الملكي؟.. تأجيل حفل فرقة "هوبا هوبا سبيريت" لأجل غير مسمى    أنشيلوتي ينفي خبر مغادرته ريال مدريد في نهاية الموسم    المجلس الحكومي يتدارس مشروع قانون يتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة    ندوة بالدارالبيضاء حول الإرث العلمي والفكر الإصلاحي للعلامة المؤرخ محمد ابن الموقت المراكشي    المبادلات التجارية بين المغرب والبرازيل تبلغ 2,77 مليار دولار في 2024    الغازوال والبنزين.. انخفاض رقم المعاملات إلى 20,16 مليار درهم في الربع الثالث من 2024    مطالب برلمانية بتقييم حصيلة برنامج التخفيف من آثار الجفاف الذي كلف 20 مليار درهم    تشيكيا تستقبل رماد الكاتب الشهير الراحل "ميلان كونديرا"    انفجار في ميناء برشلونة يسفر عن وفاة وإصابة خطيرة    المؤتمر الوطني للنقابة المغربية لمهنيي الفنون الدرامية: "خصوصية المهن الفنية أساس لهيكلة قطاعية عادلة"    العمراني : المغرب يؤكد عزمه تعزيز التعاون الإستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد تنصيب ترامب    في حلقة جديدة من برنامج "مدارات" بالاذاعة الوطنية : نظرات في الإبداع الشعري للأديب الراحل الدكتور عباس الجراري    ترامب يوقع أمرا ينص على انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية    إيلون ماسك يثير جدلا واسعا بتأدية "تحية هتلر" في حفل تنصيب ترامب    ترامب: "لست واثقا" من إمكانية صمود اتفاق وقف إطلاق النار في غزة    المغرب يدعو إلى احترام اتفاق وقف إطلاق النار في غزة    الإفراط في اللحوم الحمراء يزيد احتمال الإصابة بالخرف    وفاة الرايس الحسن بلمودن مايسترو "الرباب" الأمازيغي    دوري أبطال أوروبا.. مواجهات نارية تقترب من الحسم    ياسين بونو يتوج بجائزة أفضل تصد في الدوري السعودي    علماء يكشفون الصلة بين أمراض اللثة وأعراض الزهايمر    القارة العجوز ديموغرافيا ، هل تنتقل إلى العجز الحضاري مع رئاسة ترامب لأمريكا … ؟    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    دراسة: التمارين الهوائية قد تقلل من خطر الإصابة بالزهايمر    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    ملفات ساخنة لعام 2025    أخذنا على حين ′′غزة′′!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبد النبي الجيراري.. مكتشف المواهب وصانع نجوم المغرب
نشر في هسبريس يوم 22 - 03 - 2008

أطلق سميرة سعيد وعزيزة جلال ورجاء بلمليح وعبد الهادي بلخياط في سماء الشهرة
يعتبر عبد النبي الجيراري، الأب الروحي الحقيقي للعديد من الأسماء والنجوم اللامعة التي تتلألأ حاليا في سماء الأغنية المغربية داخل البلاد وخارجها على السواء. فهو الذي اكتشفها بعد أن كانت مجهولة، لا يعرفها أحد، ومهد لها الطريق نحو مشارف الشهرة والانتشار الفني، في وقت لم تكن فيه الإمكانات متاحة مثلما هو عليه الحال اليوم، في برامج مسابقات الغناء التلفزيونية من المحيط إلى الخليج.
ولم يأت اسم الجيراري، من فراغ، بل بناه صاحبه بعزيمة لا تكل، وإرادة لا تمل. فقد فتح عينيه وسط محيط عائلي، يتسم بالعلم والتثقيف.
وحده عبد النبي من دون سائر أفراد أسرته، اتجه نحو الفن. فقد تفتقت موهبته مبكراً، ورعاها بالتثقيف والصقل اعتماداً على نفسه وعصاميته، إذ كان منذ صغره محباً للموسيقى، متردداً مساء كل جمعة على ساحة المشور السعيد بالرباط، حيث كانت فرقة الخمسة والخمسين الموسيقية التابعة للقصر الملكي تعزف لسكان العاصمة مقطوعات من الموسيقى، في عهد الملك الراحل محمد الخامس، في عقد الأربعينات من القرن الماضي، وكان المغرب آنذاك يرزح تحت نير الاستعمار الفرنسي.
وبالفعل، قادته خطواته ليتعلم قواعد الموسيقى في معهد موسيقي صغير وبسيط، مفتقرا إلى ابسط التجهيزات، حيث كان يجلس على الحصير في غياب المقاعد، في تلك الفترة. ولم يكن المستعمر الفرنسي ينظر بعين الرضا إلى إقبال شباب العاصمة السياسية للبلاد على صقل مواهبهم الفنية.
وكأي طالب متحمس مفعم بالروح الوطنية، شارك الجيراري في المظاهرات الوطنية التي كانت تقام ضد الاحتلال. وفي إحدى المرات كاد يلقى حتفه في «مظاهرة الجامع الكبير» بالرباط، بعد إصابته بجروح وإلقاء القبض عليه. ويسجل له التاريخ الفني أنه أول من أنشأ جوقا موسيقيا عصرياً، أطلق عليه «جوق الاتحاد الفني الرباطي» عام 1945، بمعية رفيق دربه الفنان الراحل عبد القادر الراشدي، الذي سرعان ما انفصل عنه، وأسس هو الآخر، جوق «التقدم»، لتتوالد بعد ذلك أجواق ومجموعات موسيقية أخرى في مختلف المدن المغربية، حتى كاد أن يصبح لكل ملحن مغربي جوقه الخاص.
وكان ضمن الأسماء الفتية التي عايشت لحظة ميلاد جوق «الاتحاد الفني الرباطي» شاب ناشئ اسمه إسماعيل الخطابي، يتردد كثيرا على بيت الجيراري، لتعلم العزف على الكمان، هو الذي أصبح في ما بعد إسماعيل أحمد، المطرب المشهور الذي ولد من رحم المعاناة، بعد أن عاش فترة صعبة في بداية بناء شخصيته الفنية.
أخذ «جوق الاتحاد الفني الرباطي» يحيي سلسلة من السهرات والحفلات الفنية، كان عنوانها البارز والأكبر، هو ترديد الأناشيد الوطنية لبث الحماس في النفوس، وذلك بتنسيق مع رجال الحركة الوطنية في المغرب، كما يقول الجيراري، حيث كان للفن مفهوم واحد ودور واحد، هو النضال ضد الاحتلال.
وانطلاقا من إذاعة «راديو ماروك»، بدأت معزوفات ونغمات جوق الجيراري مثل «سلوى» و«بشرى» و«جمال الريف» تصل إلى المستمعين، فتثير انتباههم بنفَسِها العصري في انصهارها مع مقامات الموسيقى العربية، وخصائص الهوية التراثية المغربية في أصالتها وتنوع إيقاعاتها وزخم تنوعها.
وبموازاة مع ذلك المسار الفني بدأت رحلة عبد النبي الجيراري في البحث عن أصوات جديدة، حتى لا يبقى الغناء وقفا فقط على الملحنين الذين كانوا يكتفون بأداء ألحانهم بسبب ندرة المطربين في ذلك الوقت. ويحسب للجيراري الذي يجيد العزف على العديد من الآلات الموسيقية، أنه أول مَن جدد شباب الأغنية المغربية، وأول مَن أدخل آلة البيانو ضمن معمارها الفني، مما منحها نكهة أخرى ومذاقا فنيا آخر.
وربما سبق الجيراري عصره بانفتاحه على تركيبات وتعبيرات موسيقية لم تكن مألوفة آنذاك في الإذن المغربية، غير أنها سرعان ما فرضت نفسها وأثبتت صواب اختياره الفني وسعيه للتحديث والعصرنة عوض الارتكان للقوالب القديمة. إن ألحانه مثل «ابتسم يا غزال» و«اذكرى» لإسماعيل أحمد، و«رفيقتي» لمحمد علي، و«يا حبيب القلب» و«حسبتك» لعبد الهادي بلخياط، و«كان قلبي هاني» للراحل المعطي بنقاسم، ما زالت محتفظة بقيمتها الفنية المتجددة، وكأنها سجلت بالأمس فقط، وفي كل أغنية من هذه الأغاني التي شاعت وذاعت وانتشرت على الشفاه، وتردد صداها في كل أنحاء المغرب، يبرز وجه الجيراري الحداثي، وإضافته الفنية الواضحة التي تعطي للعمل الغنائي عمقه الأصيل.
وبلغ هذا التجديد ذروته في مسيرته الفنية باختياره لمقاطع من قصيدة «صلوات في هيكل الحب» المطولة لشاعر تونس أبي القاسم الشابي، وصاغها في أغنية سماها «أنت»، واسند غناءها للفنان عبد الوهاب الدكالي، فكانت محطة رائدة في طريق الأغنية المغربية العاطفية المستندة إلى متن القصيد.
ورغم أن للجيراري كل هذا الرصيد الهائل من الألحان التي نالت حظها من النجاح، فإن الصفة التي بقيت راسخة أكثر في أذهان الجمهور، هي صفة مكتشف المواهب وصانع النجوم، من خلال برنامجه التلفزيوني الذائع الصيت في المغرب «مواهب» انطلاقا من سنة 1967.
بحاسته الفنية التي لا تخطئ كان الجيراري يكرس وقته تقريبا كله للبحث عن الأصوات الناشئة، ليتبناها فنيا، ويصقلها بالرعاية والتشذيب بنوع من الأبوة الحانية، قبل أن يفتح أمامها الأبواب والنوافذ بالوقوف أمام الميكروفون، لتنال فرصتها للتألق. فكان يمد يد العون والمساعدة لكل من يشم فيه رائحة الموهبة، ولا يتوقف الأمر عند العطاء الفني، بل انه أحيانا يشمل إيواء صاحب الموهبة في بيته، خاصة إذا كان شابا قادما من نقطة قصية، أو من قرية أو مدينة بعيدة عن الرباط، ولا تسمح إمكانيته بالإقامة في الفندق.
كانت داره بمثابة ناد ثقافي وفني مفتوح في وجه الجميع، من عازفين وموسيقيين وشعراء وأدباء وكتاب كلمات وإعلاميين. كلهم كانوا يلتقون عند الجيراري، فيكرم وفادتهم.
إن أغلب المغنين والمغنيات الذين لمعوا في عقود الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضي،كلهم تخرجوا من تحت جلبابه الذي اتسع للعديد من الأصوات التي يطول حصر أسمائها، بعد أن غدت نجوماً لامعة تحيط بها هالة الشهرة.
لقد كان برنامج «مواهب» أول برنامج في تاريخ التلفزيون المغربي يُعنى باكتشاف الأصوات، ويتبناها ويتعهدها بالرعاية والتوجيه إلى أن يشتد عودها. وعلى امتداد عقدين من الزمن، وبصفة مسترسلة ظل البرنامج فضاء حقيقيا ومشتلا لتفريخ أجيال جديدة من المغنين والمغنيات، تخرجوا في هذه المدرسة التي مدت الأغنية المغربية بحناجر أثبتت جدارتها وقوتها وكفاءتها.
أول خريجة من برنامج «مواهب» هي سميرة بن سعيد، التي احتضنها معد ومقدم البرنامج الجيراري، وهي يومئذ طفلة في ربيعها التاسع. وما زال المشاهدون المغاربة القدامى يتذكرونها من دون شك، وهي في إطلالتها الأولى، تردد مقاطع من أغنية «الأطلال» لأم كلثوم، بعد أن بلغت الحادية عشرة من سنها. وحين كبرت قامتها الفنية أسند إليها غناء موشح من توقيعه، قبل أن يتهافت عليها الملحنون الكبار في المغرب، فغنت لعبد الله عصامي أغنية «كيفاش تلاقينا؟»، فنالت نجاحا منقطع النظير، ولحسن القدميري «وعدي»، ولعبد القادر الراشدي «يا لحن جميل عربي أصيل»، ولعبد العاطي أمنا «رسالة إلى أطفال العالم» في مهرجان الأوروفيزيون بإيطاليا، قبل أن تحلق مهاجرة إلى أرض الكنانة.
أما عزيزة جلال فكانت يوم قدومها إلى التلفزيون سنة 1975، للمشاركة في ذات البرنامج، تلميذة في إحدى المدارس الثانوية بمدينة مكناس، حيث حضرت برفقة أمها وأبيها إلى تلفزيون الرباط، تتعثر في خطواتها، يسبق الخجل نظرات عينيها، لكنها خطفت انتباه الجميع بسرعة، حين وقفت أمام الميكروفون تغني أولا أغنية شريفة فاضل «الليل موال العشاق»، أعقبتها بأداء أغنية أسمهان «ليالي الأنس في فيينا»، باقتراح من الجيراري الذي لمس في حنجرتها كنزا كامنا بين النبرات.
منذ اللحظة الأولى لمشاركتها في البرنامج كان واضحا أنها مطربة حقيقية بكل المقاييس، وهو ما تأكد بالفعل يوم أنشدت لحنا من توقيع مكتشفها الجيراري وكلمات الشاعر المهدي زريوح أغنية «نقلت عيوني هنا وهناك.. شفت الشرق.. وشفت الغرب».
وبنفس الإحساس والاندماج في الأداء، غنت عزيزة جلال لمشاهير الملحنين في المشرق العربي، قبل أن تعتزل الفن، وتتفرغ لحياتها العائلية الخاصة، مخلفة وراءها باقة من الأغنيات العطرة «مستنياك» و«الأول ما تقابلنا» وغيرهما.
كذلك الحال مع المطربة الراحلة رجاء بلمليح، التي حضرت أول مرة إلى استوديو «مواهب» مرفوقة بوالدها، سنة 1978، وشاركت بأغنية «أعطني الناي» للفنانة فيروز من شعر جبران خليل جبران، فأبانت عن وعي وإلمام بقواعد الإلقاء الفني السامي.
كما أن نعيمة سميح أيضا صديقة للبرنامج، ومحمود الإدريسي كذلك من اكتشاف عبد النبي الجيراري أيضا، والملحن محمد بلخياط، ومحمد الإشراقي، وجمال أمجد، ومحمد الحياني يرحمه الله، والمطرب عماد عبد الكبير يرحمه الله، والملحن عبد القادر وهبي، صاحب لحن «ياك اجرحي»، وعز الدين منتصر، وفوزية صفاء، وآمال عبد القادر، ونادية أيوب، وعبد المنعم الجامعي، والبشير عبده، ومحمد الغاوي، الذي شغل في البرنامج في البداية وظيفة المكلف بالتوثيق، والمطرب أنور حكيم، الذي كان مشرفا في البرنامج على فقرة الرسم.
لقد امتد نشاط البرنامج وتوسع ليشمل مختلف أشكال التعبير الأدبي والفني، فكانت هناك فقرة خاصة بالشعر والزجل تحت إشراف الشاعر المعروف المهدي زريوح، بينما كان الشاب أنس نجل الجيراري معداً لفقرة الخط، ومنها انطلق خطاط التلفزيون محمد قرماد. كذلك سعيد الزياني المذيع الإذاعي والتلفزيوني الذي جرب حظه مع الغناء قبل أن يعتزل الفن والإعلام معا.
والصناع التقليديون كانت لهم أيضا فقرة يستعرضون فيها إبداعاتهم على الشاشة الصغيرة. فظهر في البرنامج مخرجون، ومنهم المخرج التلفزيوني شكيب بنعمر، الذي سبق أن ساهم بفقرة فنية قبل أن يتخصص في فن الإخراج، ويبرع فيه.
وتردد أيضا على البرنامج في البداية زجالون وشعراء شباب، منهم الشاعر الغنائي عمر التلباني، كاتب كلمات أغنية «سوق البشرية» لعبد الوهاب الدكالي، الفائزة بالجائزة الأولى في إحدى دورات مهرجان الأغنية العربية بالقاهرة، واللائحة طويلة.
المساهمة في التباري ضمن برنامج «مواهب» كانت تقتضي بعث طلبات خطية لضبط وترتيب المشاركة وفق جدول زمني محدد. وفي حوزة الجيراري الآن كميات من تلك الرسائل التي كتبها إليه أصحابها بخطوط مرتعشة، يلتمسون منه فيها فرصة للظهور وتجريب حظوظهم، وقد وضع كل تلك الرسائل في وثائق منظمة ومرتبة بشكل بديع ضمن أرشيف خاص، يحمل بين ثناياه خفقات الدهشة الأولى، موقعة بالأسماء الحقيقية التي تحولت في ما بعد إلى ألقاب فنية مستعارة. وفي الحقيقة فإن بيت الجيراري متحف حقيقي بكل ما في الكلمة من معنى، يؤرخ لفترة مهمة من تاريخ المغرب الفني.
وثمة ركن خاص بالمواهب، ويتضمن صوراً لمشاهير الفنانين من رفاق الدرب، كما أفسح مكانا للآلات الموسيقية واللوحات والملفات الفنية.
ما أكثر ما أنجزه الجيراري من أعمال فنية واكتشافات صوتية في مسلسل طويل من سماته الأساسية: التضحية والإيثار، والمكوث في الظل بعيداً عن الأضواء ليلمع الآخرون في عوالم الشهرة، حتى ألحانه التي قدمها لهم بالمجان تقديراً لظروفهم المادية في بداية حياتهم الفنية يحجمون الآن عن غنائها في السهرات الغنائية، تنكراً للأيدي البيضاء التي امتدت إليهم، يوم كانوا في أمس الحاجة لمن يتكئون عليه في أول المشوار.
والجيراري نموذج فني نادر في الجدية والاتزان وعفة اللسان وعزة النفس. ورغم قلة الوفاء لدى بعض الفنانين الذين صنع نجوميتهم، ولم يلمس منهم مقابل ذلك سوى الجحود والعقوق والتقصير ونكران الجميل، فإنه يظل محتفظا بكبريائه ونخوته وشهامته، لا يعاتب أحداً، ولا يحقد على أحد منهم، بل انه في قرارة نفسه، كما يقول دائما، يشعر بالفرح، وهو يتابع نجاحهم، إحساسا منه بأن الجهد الذي بذله في صالحهم لم يذهب سدى، فالمواهب بالنسبة إليه، كما يقول أيضا، مثل البذور لا بد من رعايتها لتعطي ثمارها المرغوبة، وها هي البراعم التي كانت صغيرة غدت كبيرة بفضل دعمه وتشجيعه لها ماديا ومعنويا.
لقد أنفق ثروة أهله في سبيل الفن، لذلك يحلو للجيراري أن يصرح أنه دخل التلفزيون بجيب ممتلئ وخرج منه خاوي الوفاض، وعزاؤه الوحيد هو هذا الرصيد المتنامي من المحبة التي يلمسها في عيون الناس لدى لقائهم به.
أحيانا ينتابه الحنين إلى تلك الفترة التي كان يأتي فيها إلى الاستوديو متأبطا دفتر تسجيل الملاحظات وتنقيط المساهمين من أصحاب الأصوات الناشئة لمتابعة مراحل تطورهم الفني، ومدى تجاوبهم مع توجيهاته وإرشاداته، حين كانوا يقصدونه من جميع أقاليم المملكة المغربية، بغية التباري في ما بينهم في إطار من التنافس الفني الشريف.
ووعيا منه بمعاناة وظروف هؤلاء الوافدين من الأقاصي البعيدة، ممتطين صهوات أحلامهم، أصبح البرنامج، بقيادة الجيراري، هو الذي يتوجه إليهم، متنقلا بين المدن والولايات إلى أن وصل إلى عيون الساقية الحمراء في رحاب الصحراء المغربية، لتسجيل حلقات حية من عين المكان.
وفي عز وذروة ذلك النجاح الباهر، صدر فجأة قرار إداري عبثي سنة 1985 في التلفزيون، يقضي بتوقيف البرنامج وإعدامه إلى الأبد، من دون أي مسوغ منطقي أو سبب موضوعي، ومن دون كلمة شكر، لا لشيء سوى لإفساح المجال لبرنامج آخر بالفرنسية في قناة مغربية بعنوان «موزيكا» تذيعه الفرنسية جاكلين، سرعان ما أحجم المشاهدون عن متابعته لفراغه من أي مضمون وخوائه شكلا ومضمونا، بينما ظل برنامج «مواهب» حيا في الذاكرة، من خلال الأصوات التي اكتشفها، وما زالت تملأ الأسماع طربا.
ورغم حفلات الاحتفاء التي تقام على شرفه في بعض المهرجانات تقديرا له واعترافا بجميله، فإنه في نظر العديد من متتبعي الحركة الفنية في المغرب لم ينل بعد ما يستحقه من تكريم حقيقي يرقى إلى مستوى ما بذله من تضحيات، وما قدمه من أصوات أغنت حقل الغناء والإنشاد في المغرب. ومن اللحظات التي لا تنسى تلك الأمسية التي أقيمت في يونيو 2000، ضمن الدورة السادسة لمهرجان الرباط، حيث انحنى المطرب المغربي المعروف عبد الهادي بلخياط ليقبل بكل احترام وتقدير، يد عبد النبي الجيراري، تحت أنظار الجمهور في قصر التازي، وسط عاصفة ملتهبة من التصفيق.
ويرتبط الجيراري كثيرا بالأرض. ويبدو أنه ورث عشق الطبيعة من والده. ولعله يجد في امتداد سهولها متنفسا له، ومصدراً لإلهامه الفني. ومن أجوائها صاغ لحنا للمطرب المغربي الشاب البشير عبده، من خلال قصيدة جميلة للشاعر التونسي أبي القاسم الشابي يتغنى فيها بالصباح، ويردد أصداء أغاني الرعاة في الوهاد والسهول: «أفيقي يا خرافي وهلمي يا شياه».
ويحب الجيراري القرية بكل ما فيها من إنسان وحيوان وزرع وشجر وطير، لذلك يتردد بين الحين والآخر على البادية. وأحلى اللحظات لديه هي التي يجلس فيها مع الفلاحين البسطاء الذين يكن لهم محبة خاصة، ويرتاح إلى صحبتهم، لما يرمزون إليه من صدق وصفاء ونقاء، بعيدا عن تلوث أخلاق المدينة.
عن الشرق الأوسط اللندنية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.