في واحتها الصيفية تعود «المساء» إلى أرشيف الأغنية المغربية لتنبش في ذكرياتها، وتكشف بعضا من المستور في لحظة إنتاج هذه الأغاني، من خلال شهادات شعراء وملحنين ومطربين ومهتمين كانوا شاهدين على مرحلة الولادة، شهادات تحمل لحظات النشوى والإمتاع في الزمن الجميل للأغنية، وأخرى تحرك جراح البعض الذين يصرون على البوح للقارئ رغم جرأة البوح وألمه في بعض الأحيان. هي من شذت في زمن عبد النبي الجيراري، وتألقت في زمن نعيمة سميح وعزيزة جلال وسميرة بنسعيد، وهي من سرقت النجومية من أنغام وأصالة وميادة الحناوي في زمن «الفيديو كليبات»، هي رجاء بلمليح التي يحتفظ لها المغاربة بالذكريات الجملية. وعلى الرغم من أن مسار الفنانة المغربية الراحلة رجاء بلمليح انطلق من خلال مشاركتها في مسابقة «أضواء المدينة» التي كان ينظمها المنتج حميد العلوي، الزوج السابق للفنانة لطيفة رأفت، فإن البعض يرى أن المسار الحقيقي دشنته الفنانة الشابة ابنة درب السلطان البيضاوي حينما منحها الموسيقار تأشيرة النجومية من خلال أغنية «يا جار وادينا» التي أدخلتها إلى كل البيوت المغربية والعربية. ويحكي الشاعر محمد حاي وكاتب كلمات أغنية «يا جار وادينا» في تصريح ل«المساء» أن الأغنية التي لحنها الفنان حسن القدميري سنة 1986 خرجت إلى الوجود صدفة، مضيفا: « شاءت الصدف أن أحضر في مهرجان الأغنية المغربية بالمحمدية في نونبر من سنة 1985 من خلال مشاركتي بأغنية «لا تدعني» للفنانة سمية قيصر التي فازت بجائزة الأغنية المكتملة. هذا الحدث جعل الفنانة الراحلة رجاء بلمليح تسأل عن كاتب الأغنية، وبعد معرفة صاحبها أرسلت لي صحفيا يدعى النعيمي كان يشتغل في جريدة «رسالة الأمة»، وضرب لي موعدا مع الفنانة في فيلتها، وحينما التحقت بها، وجدت الملحن حسن القدميري يغني لها بعض الأغاني التي لحنها، فطلبت- بعدما رحبت بي بشكل كبير- أن أقرأ لها بعضا من أشعاري، فأنشدت قصائد «أغار» و «عد إلى الرشد» و«يا جار وادينا» وأغاني أخرى، ولكنها حينما سمعت «يا جار وادينا»، أبدت إعجابها بها دون تردد، مع أن الأغنية لم تكن مكتملة في الكتابة». ويواصل الشاعر محمد حاي رحلة التذكر، بالقول: «حينما ذهبنا للعشاء، طلبت مني رجاء أن أعيد قراءة خمس قصائد من بينها يا «جار يا وادينا»، أخذت مني الكلمات وبدأت تدقق فيها قبل أن تقدمها للأستاذ حسن القدميري ليلحنها، وقلت لها إنني لم أكمل القصيدة، لكن الله لم يخيب ظني، إذ أنني في تلك اللحظة أخذت دفترا من حجم 100 ورقة( مربعات كبار) وأكملت الأغنية في الليلة ذاتها، وبعد مدة جاءني الملحن حسن القدميري ليقول إنه يحتاج إلى أبيات شعرية أخرى لم أسلمها له، وعرفت بعدها أن الأغنية ستسجل في استوديو بوعزة الحيمر رفقة مجموعة من العازفين الكبار». ويضيف محمد حاي أنه بمجرد ما وصل الفريق إلى الاستوديو للتسجيل وجدوا هناك سيدة قال عنها الشاعر الغنائي: «هي امرأة مثقفة فاجأت الجميع بالقول إن الأغنية سيكون لها شأن كبير في مسار الأغنية المغربية، وبعد مدة قليلة من هذه الحادثة، وجدت الراحلة نفسها أمام نجاح كبير في القاعة المغطاة للمركب الرياضي محمد الخامس، ومن فرط تفاعل الجمهور مع هذه الأغنية، يحكي أحد أصدقائي المطربين الذي حضر السهرة أنه بعد انتهائها، وقف أحد المتفرجين وخاطبها:«سير الله يرحم والديك على هذه الأغنية»، هذا الحدث أسعدني كثيرا، فرغم أن الأغنية نجحت، فإن اللحظة التي يتحدث الجمهور عن كلماتك بهذه الصيغة، لا يسع المرء إلا أن يكون منتشيا، وفي لحظة انتشائي لا أتذكر متى وأين ولماذا أنشدت هذه القصيدة ولم أكن أنتظر أن تكون مغناة». وحول تفسيره أسباب تميز هذه الأغنية، يقول محمد حاي: «أعتقد أن مجيء الأغنية في زمن تميزت فيه الأغنية المغربية بالرداءة، كما نعيش ذلك الآن، ساهم بشكل كبير في تميزها، إذا كان الجمهور المغربي متعطشا لسماع أغنية تطربه لحنا وشعرا وأداء، وهو ما اجتمع برأيي في أغنية «ياجار وادينا»، كما أن توظيف اللغة العربية الفصحى جعل لها طابعا خاصا يميزها عن الأغاني المتداولة، هذا فضلا عن التذكير بأن الأغنية وظفت على نحو جيد الإيقاعات الغربية من خلال آلة «السكسفون» الذي ميز هذه الأغنية». وفي الإطار ذاته يعتبر محمد حاي أن أغنية «يا جار وادينا» أوصلت رجاء إلى كل الأرجاء واستطاعت، حسب تعبيره، أن تخترق الأجواء العربية وأن تغنى في العديد من العواصم الأوربية وغنيت أمام الملوك والأمراء. جدير بالذكر أن رجاء التي رحلت السنة الماضية بعد إصابتها بالسرطان تعاملت مع كبار الشعراء والملحنين المغاربة والعرب، من بينهم حسن القدميري وعبد القادر الراشدي وأحمد البيضاوي وعبد الرفيع الجواهري ومحمد حاي... وبعد نجاح أغنية «يا جار وادينا» أصدرت سنة 1987 ألبومها الأول، الذي كان يحمل عنوان الأغنية سالفة الذكر، وضم الألبوم أغاني «أطفال الحجارة» و«الحرية» و«هكذا الدنيا تسامح» و«مدينة العاشقين»، قبل أن تطلق ألبوم «صبري عليك طال» الذي اشغلت فيه مع حميد الشاعري، فضلا عن ألبومات أخرى. في مسارها الغنائي، حصلت رجاء بلمليح التي كانت تحمل الجنسية المغربية والإماراتية على العديد من الجوائز والأوسمة، من بينها شهادة تقدير من مهرجان الأغنية بليبيا وشهادة تقدير من مهرجان القاهرة سنة 1995 وشهادة تقدير من مهرجان الموسيقى العربية بدار الأوبرا المصرية سنة 1995 ... كما منحت لقب سفيرة النوايا الحسنة لدى اليونيسيف سنة 1999، قبل أن تسلم الروح إلى باريها في السنة الماضية. يا جار وادينا .. زاور مغانينا الشوق أضنانا والوصل يحيينا أنسامكم طيب والهمس تطريب والهجر تعذيب إن زاد يفنينا يا جار وادينا هذي روابينا ترجو تدانينا وهذه أيدينا يا جار وادينا الوصل يكفينا عند تلاقينا نرى الرياحينا تغازل الأطيار ..تعانق الأدوار فتشهد الأزهار بعد الهوى فينا