في واحتها الصيفية تعود «المساء» إلى أرشيف الأغنية المغربية لتنبش في ذكرياتها، وتكشف بعضا من المستور في لحظة إنتاج هذه الأغاني، من خلال شهادات شعراء وملحنين ومطربين ومهتمين كانوا شاهدين على مرحلة الولادة، شهادات تحمل لحظات النشوى والإمتاع في الزمن الجميل للأغنية، وأخرى تحرك جراح البعض الذين يصرون على البوح للقارئ رغم جرأة البوح وألمه في بعض الأحيان. من أكثر الأغاني المغربية التي أثارت الجدل بسبب المنع الذي تعرضت له من طرف لجنة مراقبة الأغاني، أغنية «حكاية خربوشة» التي صودرت في الأسواق مع بداية التسعينيات بصوت المطربة حياة الإدريسي. «حكاية خربوشة» من تأليف محمد الباتولي صاحب روائع «كان يا ما كان» و«مونبارناس» والتي أبدع في جمع مشاهدها الرائعة وفق إيقاعات «العيطة» و«الحوزي» و«الحضاري» و«المرساوي» الملحن سعيد الإمام، بالاعتماد على توليفة من الأنغام والمقامات العربية والمغربية الأصيلة ك«الصبا» و«البياتي» و«الحجاز» و«الكرد». أغنية دخلت التاريخ من بابه الواسع، بعد أن تم منعها من الدخول إلى خزانة الإذاعة، وتم جمع الشريط من الأسواق مع تهديد الشركة المنتجة ومنْع الملحن والمؤلف من الظهور في البرامج التلفزيونية مدة غير يسيرة من الزمن. حول قرار منع الأغنية يقول سعيد الإمام في تصريحه ل «المساء»: «مع توالي الأحداث السياسية التي عرفتها بلادنا منذ بداية السبعينيات والثمانينيات، وعلى ضوء اختلاط مفهوم السلطة بالإعلام، أصبح الشيء شبه الطبيعي أن يتشكل داخل الإذاعة نموذج للأغنية الدينية، أو ما يطلق عليه عبثا الأغنية الوطنية وأيضا الأغنية العصرية. وشيء شبه طبيعي أيضا أن تستفيق «الشرذمة» التي كانت تتحكم في دواليب الموسيقى والغناء في دهاليز الإذاعة من غفوتها وتلوح بسياطها كلما اقتربت منها رياح الإبداع والتغيير والخروج عن النمطية المفروضة على الفنانين، فأغنية «حكاية خربوشة» هي نبش في ذاكرة تاريخ أحد رجالات السلطة الذي واجهته امرأة بعنفوانها وصمودها، وهي أيضا بحث في الإيقاعات المغربية الصرفة». «وأتذكر، يقول سعيد الإمام، أن الراحل عبد القادر الراشدي حين استمع إلى الأغنية من طرف أحد عازفي الجوق الوطني أصر على أن يحضر التمارين قبل التسجيل النهائي، وفعلا قام مندهشا وطلب من أفراد الجوق الوطني القيام، وقال بصوت مرتفع وهو يعانقني: «أنا عبد القادر الراشدي، أشهدكم أن هذا الشاب سيكون خليفتي إن شاء الله... الله يعطيك الصحة أوْلدي..». «لكن الفرحة بهذا الإنجاز لم تكتمل يضيف سعيد الإمام بعد أن منعت من لقاء تلفزيوني مع المخرج محمد اقصايب بسبب تسييس القضية من طرف لجنة الرقابة. وبعد ارتفاع الأصوات المنددة بخنق حرية التعبير، وذلك في كافة المنابر الإعلامية، وتضامن المثقفين ورجالات المسرح والفن عبر الصحف الوطنية، تم استقبالي من طرف مدير الإذاعة الوطنية الذي تبرأ من الأمر وأطلعني على محضر اللجنة المكتوب باللون الأحمر: «أغنية تسيء لرجل سلطة»، وأكد لي أنه حين جاء لتحمل المسؤولية بمديرية الإذاعة كانت هذه اللجنة تمارس عمل «الرقابة» المنوط بها. وهنا لا بد أن أفتح قوسين لكي أعيد إلى الأذهان التذكير بأن الحرس القديم الذي كان يتحكم في شؤون الموسيقى والغناء اكتسب فاعليته بواسطة فرض الحصار على المبدعين الحقيقيين في إطار جو سياسي موبوء، وهو السبب الرئيسي في عدم ظهور جيل جديد يحمل المشعل بشكل عادي». «ومن الذكريات الجميلة التي أحتفظ بها مع ولادة هذه الأغنية أن علاقة قوية ربطتني خلال تلك الفترة بالمطربة ذكرى محمد التي جاءت إلى الدارالبيضاء رفقة الإعلامي التونسي المعروف عبد الحميد الربيعي، حيث مكثت أزيد من شهر قبل أن ترحل إلى القاهرة، وكنا نقضي جلسات سمر مع المطربة نعيمة سميح التي تشبعت وأحست بقوة الأغنية، وطلبت مني أداءها مهما يكون الثمن، غير أن التزامي الأخلاقي والمهني والإنساني مع مطربة كانت في بداية الطريق، وهي حياة الإدريسي دفعني إلى رفض طلب نعيمة سميح التي لازالت تعبر لي عن أسفها لهذا القرار كلما التقيت بها. أما ذكرى محمد، فكانت تبكي كلما سمعت الأغنية، ولطالما رددت مع حياة الإدريسي بحضور نعيمة سميح: «قول للقايد.. بزاف عليك الحب». يا ما.. يا ما عرفوا الناس فالحب غزوات انتصر فيها الحب وانهزم وبين الغزوة والغزوة قطع الزمن مسافات حكم فيها القدر وحسم حكايات.. عاشتها ناس وحكاتها ناس لناس ورواها الزمن وختم