في واحتها الصيفية تعود «المساء» إلى أرشيف الأغنية المغربية لتنبش في ذكرياتها، وتكشف بعضا من المستور في لحظة إنتاج هذه الأغاني، من خلال شهادات شعراء وملحنين ومطربين ومهتمين كانوا شاهدين على مرحلة الولادة، شهادات تحمل لحظات النشوى والإمتاع في الزمن الجميل للأغنية، وأخرى تحرك جراح البعض الذين يصرون على البوح للقارئ رغم جرأة البوح وألمه في بعض الأحيان. «القمر الأحمر»، «ميعاد»، «قطار الحياة»، «متاقش بيا»، «الشاطئ»، «مامنكش جوج»، «يا محبوبي»، «الصنارة»....هي أغان من ذكريات عبد الهادي بلخياط وذكريات من تاريخ الأغنية المغربية في مختلف محطاتها، تركت وتترك في ذهن متلقيها الذكريات ويحتفظ كتابها وملحنوها بالأسرار المرافقة لميلاد هذه الأعمال الإبداعية الفنية المنتمية إلى الزمن الجميل للأغنية المغربية. حينما يسمع المغاربة أغنية في « قلبي جرح قديم» للفنان عبد الهادي بلخياط، يتذكرون الموال الأمازيغي الشهير الذي يستهل به بلخياط أغنيته، موال أمازيغي امتزجت فيه الإيقاعات بالكلمات العربية، موال يجمع بين ذكريات بلخياط والزجال والمطرب فتح الله لمغاري. يقول فتح الله لمغاري نبشا في تاريخ أغنية «جرح قديم»: «هذه الأغنية تابعت فيها المسار الذي دشنته في مواويل أغنيتي «يا رجال الله» و«دابا ترجع ليا» وتواصل مع أغنية «ياما ياما» للطيفة رأفت، هي أغنيتي، وإذا أراد عبد الهادي أن يدرجها باسمه، فلندعه، المهم أنني بصمت على لمستي الخاصة، والتاريخ يدل على ذلك، هي أغنية لها معي الكثير من الذكريات». «ذكريات- يضيف فتح الله لمغاري تبتدئ في سنة 1968 «حينما كنت مسافرا رفقة عبد الهادي بلخياط إلى مدينة «فاس» وقد حكى عبد الهادي هذه الحكاية في أحد أحاديثه للتلفزيون، كنا في الطريق إلى العاصمة العلمية ومررنا على طريق الخميسات، وقلت له: آجي تسمع «المزوكي»، واكتشف هذا الإيقاع الذي يمكن أن يستثمر في أحدى الأغاني، هذا الموال يتغنى به الأمازيغ عن الطبيعة بين الجبال، ومن ثمة انطلقت الأغنية التي يحفظها المغاربة، هي الأغنية التي مطلعها: ماهاهاهاها... نار شعلت وزاد لهيبها، شغلت بالي بتعذيبها، فينك يا طافي النار... في قلبي جرح قديم ياني آجا ماداواه...ما لقيت رحيم ومالقيت طبيب يا ناس مخصص دواه...صابر نتسنى والصبر غيرو ما نلقاه....». حكايات لمغاري مع أغنية «جرح قديم» التي لحنها الراحل عبد الرحيم السقاط لا تنتهي، فقد حكى صاحب أغنية «يا رجال الله» أنه في إحدى الزيارات المتعددة التي كان يقوم بها العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ للمغرب، شاءت الصدف أن يكون حاضرا أثناء أداء عبد الهادي بلخياط لأغنية «جرح قديم» فلم يقو على الاستماع للموال سالف الذكر ولم يقو على سماع كلمات ولحن وأداء الأغنية، فبقي مشدودا للأغنية وأعجب بها أيما إعجاب، كما عبر الملحن المصري الشهير بليغ حمدي، الذي كان لمغاري يستضيفه باستمرار في بيته، عن إعجابه بهذه الأغنية. ويعتبر الفنان فتح الله لمغاري أن أغنية «جرح قديم» تعد من أهم الأغاني في تاريخ الأغنية المغربية واستطاعت أن تصمد لعدة عقود، وكانت نوذجا لاشتغال لمغاري مع بلخياط الذي تكرس في أغنية «الصنارة» التي لحنها محمد بنعبد السلام، ويعد فتح الله لمغاري المزداد سنة 1940 في فاس- برأي العديد من المهتمين- ذاكرة للأغنية المغربية. عاش فتح الله لمغاري منذ طفولته في أجواء فنية وتشبع بها، بعد نيله شهادة بكالوريا عام 1958، التحق بالمدرسة الإدارية ليصبح من أطر «BRPM»، وشغل هذا المنصب إلى حين تقاعده عن العمل. وبالموازاة مع ذلك، كان نشاطه الفني غزيرا، إذ كتب للعديد من الأسماء المغربية، من بينها الدكالي، بلخياط، لطفية رأفت، نعيمة سميح، كما أهدى فتح الله لمغاري أجمل ما أنتجت الأغنية المغربية، ومن بين أغانيه هناك «كأس البلار» و«خسارة فيك يا غرامي» و«اللي بنيتو الرعد داه» التي تعتبر من كلاسيكيات الأغنية المغربية، فضلا عن أغان شهيرة، من بينها: «رجال الله»، «الله يكمل رجاك»، «أنا فعارك فارقني»، «فاينك الحبيب»، «راه خلاني ميمتي»، «أولاد النبي»، «ضاعت لي نوارة»، «الله مانتا معانا».... وعلى الرغم من المسار الفني الطويل للفنان فتح الله لمغاري شعرا وأداء، إلا أن النتيجة لم تكن لتقنع الفنان الذي ختم تصريحه ل«المساء» بالقول: «لقد حاولت أن أكون وفيا للمغرب، لبلدي الحبيب، إلا أن المقابل لم يكن في مستوى التضحيات التي بذلتها، «هادي بلادي وفيت ليها، لكن البعض لم يقدر ما قدمنا»، وصرنا مهمشين، إلا من مبادرات خاصة واستثنائية لا تمحو ما نعانيه من تهميش ونكران الجميل». نار شعلت وزاد لهيبها، شغلت بالي بتعذيبها، فينك يا طافي النار... في قلبي جرح قديم ياني آجا ماداواه...ما لقيت رحيم ومالقيت طبيب يا ناس مخصص دواه...صابر نتسنى والصبر غيرو ما نلقاه....».