... ومن سيحاكم الأممالمتحدة على ما اقترفته بحق ليبيا والليبيين، ومن سيحاكم فرنسا نيكولا ساركوزي، ومن سيحاكم بريطانيا توني بلير وغوردن براون، ومن سيحاكم إيطاليا برلسكوني؟ هذه الأسئلة مشروعة بعد سقوط نظام العقيد معمر القذافي، حتى لو أنه لا يزال هاربا مختبئا ك«الجرذ» وبعدما تبين كيف كانت ليبيا في ظل حكمه الذي دام 42 سنة، عمد خلاله إلى اكتساب «عداوة» الشعب الليبي أولا، ثم إرغامه على «حبه»، ومن لم يستجب كان السجن مصيره. السجن أم بالأحرى السجون التي انفتحت أبوابها بالقوة بعد هرب العقيد، هي التي يجب أن تحرق ضمائر المؤسسة الدولية، والرئيس الفرنسي، ورئيسي وزراء بريطانيا السابقين مع الأجهزة الأمنية البريطانية. أما الدول الأفريقية التي تهالكت لإرضاء القذافي، فإن السجون التي تربع على رأسها القذافي مستمتعا بتعذيب شعبه، يجب أن تعطي فكرة عما يجري في تلك البلدان. الزنزانات كالتوابيت، الجدران محفور عليها ربما بالأظافر أو بالأسنان عدد الأيام الأولى التي قضاها السجين، كما محفورة دعوات الإنقاذ من الله، قبل أن يغلق السجانون أنبوب الهواء، كي يختنق السجين، بعد ذلك، «يتفضل» السجانون بحمل الجثة ونقلها إلى عنبر لتنضم إلى جثث أخرى، ثم يغلق باب العنبر بباب، كباب خزنة المصارف المركزية مع البراغي الحديدية الغليظة، كي يكسب السجان «تهنئة» من العقيد، عندما يحب أن يطل ويتفرج على الجثث، ويبتسم لتزايد الأعداد. هنا، يبرز دور الأممالمتحدة «اللاأخلاقي»، ففي شهر يناير (كانون الثاني) من عام 2003، انتخبت ليبيا رئيسة للجنة حقوق الإنسان. يومها قيل إن القذافي عاد إلى المسرح الدولي. (هو عاد أيضا عام 2010، عندما ألقى من على منبر الأممالمتحدة خطابه الذي هزأ فيه من العالم كله. ويومها «تألق» الثري دونالد ترامب بتأجير فيلا وحديقة للعقيد وحاشيته). ثارت ثائرة المنظمات الإنسانية لهذه السقطة التي ارتكبتها الأممالمتحدة، خصوصا أن مجرد العضوية في لجنة حقوق الإنسان الدولية توفر للدولة العضو الحماية من أي انتقاد. ثم تبرع سيف الإسلام القذافي بالدفاع عن سجل بلاده «الناصع» في مجال حقوق الإنسان وقال، إن تولي ليبيا رئاسة اللجنة هو «فرصة لإحراج حكومات الشرق الأوسط من أجل تحسين سجلاتها». لكن هذه الفرحة، لم تطل، إذ سحبت الرئاسة من ليبيا، لكن كانت الأممالمتحدة قد سقطت، وأضيفت هذه إلى سجل سقطاتها الكثيرة. من الأممالمتحدة إلى فرنسا وبالتحديد إلى شهر ديسمبر (كانون الأول) 2007، عندما قفز الرئيس ساركوزي فوق كل المحرمات ليستقبل العقيد. يومها وزيرة حقوق الإنسان الشابة من أصل سنغالي «راما ياد» لم تحتمل هذه الإهانة. فقالت لصحيفة «لوباريزيان»: «يجب أن يعرف العقيد القذافي، أن بلادنا ليست ممسحة يستطيع أي زعيم، إرهابيا كان أم لا، أن يأتي ويمسح دم الجرائم التي ارتكبها، عن إقدامه فوق ترابها. ما كان على فرنسا أن تقبل قبلة الموت هذه». ورد ساركوزي أنه تحدث مع العقيد حول حقوق الإنسان! كانت فرحة ساركوزي عمياء، فقد وعده العقيد بصفقة تقدر بنحو الستة مليارات دولار وأنه وافق على شراء 14 مقاتلة «رافال» بعد ست سنوات من تصنيع فرنسا لهذه الطائرة وعجزها عن بيع واحدة منها، وكان المغرب، قبل شهرين من زيارة القذافي تلك، رفض شراء «الرافال» وفضل طائرات ال«إف - 16» الأميركية. هذه الصفقة، وتخلي القذافي عنها، ستكون السبب الذي سيدفع بساركوزي للقيام بالحرب على ليبيا. أما بريطانيا فإنها تشعر ب«الفخر» كونها من أقنعت القذافي بالتخلي عن برنامجه النووي، وفي المقابل سمحت لنفسها بتجاوز كل الخطوط الحمر لاحقا، فكان سيف الإسلام، «الطفل الموهوب» في نظرها، حتى «خربشاته» تحولت إلى لوحات علقت داخل قاعة في فندق «كلاريدجز» الشهير. ثم كانت مراسلات بلير «صديق العائلة» كما وصفه سيف الإسلام. وتحت هذا الوجه البراق كانت تجري الصفقات الأمنية والاقتصادية، وشعرت الأجهزة الأمنية الغربية، بأن جهاز الاستخبارات البريطانية ال«إم. آي - 6» في بيته في ليبيا، فصارت تطلب منه كل ما تريده من القذافي، ووزير خارجيته وأمنه سابقا موسى كوسا! وبهذا اعتقل من اعتقل، وسجن من سجن، ومات تحت التعذيب من مات. على الأقل، بريطانيا ستفتح تحقيقا في كل هذه الأمور، وقد يظهر من يقول لاحقا، «إننا فعلنا كل ذلك من أجل الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا، فهو الذي طلب منا إعادة القذافي إلى المسرح الدولي، لأن القذافي وقف ضد التمييز العنصري». لن يستطيع القذافي تلطيخ شخصية كبيرة مثل مانديلا، أما الآخرون فقد نجح في الكشف عن سقوطهم في فخ جنونه، على الرغم من كل ماضيه الأسود ودعمه للإرهاب في كل مكان في العالم. لقد بدأت لعبة القذافي مع ساركوزي مع قضية الممرضات البلغاريات، ليتبين لاحقا، أن الرئيس الفرنسي افتتح أيام رئاسته الأولى عندما أرسل زوجته السابقة سيسيليا لمرافقة الممرضات اللاتي سجنهن العقيد مع طبيب فلسطيني مدة ثماني سنوات، بتهمة مختلقة وهي أنهن حقن الأطفال الليبيين بفيروس الإيدز، إن فرنسا تدخلت لإنقاذهن من أجل إنقاذ العقيد، وبعدما أجبرت بلغاريا الفقيرة على شطب الديون الليبية وتبلغ فقط 15 مليون دولار. الآن، عادت بلغاريا لتطالب باسترجاع أموالها. بعد إطلاق سراحها، سبقت الممرضة سنيزانا ديمتروفا الجميع بقولها: «مكان معمر القذافي في لاهاي، ويجب أن يحاكم ليس بسبب الجرائم التي ارتكبها ضدنا، بل بسبب الجرائم التي يرتكبها ضد شعبه». ولأن «الفهد لا يغير لون جلده»، اكتشف ساركوزي أنه خدع، إذ أبلغته المصارف الفرنسية أن العقيد على وشك تحويل مليارات اليوروات الليبية إلى المصارف الصينية، ثم أبلغته شركات السلاح الفرنسية، أن العقيد تراجع عن شراء مقاتلات «رافال» الفرنسية ولن يفي بوعوده بتلزيم فرنسيين بناء منشآت نووية في ليبيا. ثم إن شركات النفط الفرنسية تريد حصصا أكبر من النفط الليبي الذي تسيطر عليه شركة «إيني» الإيطالية، ذلك أن رئيس الوزراء الإيطالي سلفيو برلسكوني كان أكثر حفاوة في الترحيب بالعقيد من ساركوزي، فوفر له حسناوات إيطاليات وتعلما معا ال«بونغا بونغا». ثم كان أن هرب نوري مسماري، رئيس بروتوكول العقيد، إلى باريس الذي تلقفته أجهزة الأمن الفرنسية وكان ذلك في شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. بعدها، بدأت الأحداث في ليبيا، ثم طار من يسمي نفسه «الفيلسوف» برنار هنري ليفي، «صديق» ساركوزي وعدو الزوجة كارلا، لأسباب شخصية، إلى بنغازي للقاء «الثوار»، ومن هناك اتصل بصديقه الرئيس طالبا منه الاعتراف بالمجلس الانتقالي كسلطة شرعية، ثم كرت الأمور وتدخل «الأطلسي» الذي لن يغادر قبل أن يضمن إقامته قاعدة عسكرية هناك! الليبيون يطالبون بالقذافي لمحاكمته، وهناك من يطالب بقتله. يجب اعتقاله وإعادته إلى طرابلس الغرب ووضعه في بيت زجاجي مصفح، والتنقل به في كل المدن الليبية كي يرى بعينه هذا الشعب الذي أطلق عليه اسم «الجرذان»، كيف أنه يتنفس وسعيد ويعمل ويبني ويتطلع إلى مستقبل من دون القذافي، ويتكلم ويعيش بحرية. ما جرى مع معمر القذافي يجب أن يكون بمثابة جرس إنذار للرئيس السوري بشار الأسد، وعليه ألا يصدق أن مرافقته لجون كيري وزوجته إلى مطعم في دمشق، وتناول العشاء معا سيحميه أو سيجمل صورته، وعليه ألا يعتقد أن دورا يلعبه في العراق أو في لبنان أو في فلسطين سينقذه، أو أن علاقته بإيران ستغير وجه العالم. ربما يقول إن النفط أودى بصدام حسين وبمعمر القذافي، وهو لا يملك نفطا. هو يعتقد أن الأوراق التي يملكها والتي أشرنا إليها، تكفي كي لا يرحل. إن الموعد مع إيران يقترب، الأذريون بدأوا التحرك، ومن أجل بحيرة أورمية، أكبر بحيرة مالحة في العالم، بدأ التحرك، ثم إن النظام الإيراني بدأ يخاف من مجموعات شباب تتراشق بمسدسات مياه فيطاردهم... وماذا بعد؟