ترجم عالم اللاهوت والناشط في مجال الحوار بين المسيحية والإسلام، الدكتور ماركوس كنير مؤخرا كتاب لحبابي « الشخصانية الإسلامية » إلى جانب نصوص أخرى، إلى اللغة الألمانية، وهي أول ترجمة لهذا الكتاب المركزي في مسيرة لحبابي الفلسفية إلى اللغة الألمانية، ترجمة من شأنها أن تسلط الضوء على الأفكار والمفاهيم الأساسية لأحد أهم الفلاسفة المسلمين في القرن العشرين، وتبرز من جهة أخرى راهنية هذه الفلسفة في كل حوار بين الأديان وخصوصا بين المسيحية والإسلام. سيد كنير، نشرتم مؤخرا في دار هردر للنشر المرموقة ترجمة علمية لكتاب لحبابي « الشخصانية الإسلامية » ونصوصا أخرى. كعالم لاهوت مسيحي، يهتم بالحوار بين الأديان، تهتمون منذ سنوات بفلسفة لحبابي، لماذا لحبابي؟ وهل مازالت لفكره أي راهنية؟ ماركوس كنير: لما تعرفت على فكر لحبابي منذ ما يقرب من ثلاثة عشر عاما، كنت أبحث عن رؤية فكرية إسلامية، عملت على تدشين حوار بين صورة الإنسان في الإسلام والأنثروبولوجيا الغربية المعاصرة. وبدا لي أن بحث مفهوم « الشخص »، والذي يعتبر مفهوما غربيا ومسيحيا بالخصوص، في سياق إسلامي، من شأنه أن يقدم دفعة قوية للحوار حول صورة الإنسان في المسيحية والإسلام. لحبابي يقوم في « الشخصانية الإسلامية » بدراسة مفهوم الشخص إنطلاقا من مصادر إسلامية، لكنه يعتمد من جهة أخرى على رموز الفلسفة الشخصانية في الغرب، وخصوصا إمانويل مونييه (19051950) وجان لاكروا (19001986) وفيلسوف الحياة هنري برغسون (18591941). إننا نتحدث هنا عن سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، والتي طور فيها لحبابي فلسفته وهي الفترة نفسها التي كان فيها لفكر مونييه ومجلة إيسبري التي أسسها تأثيرا كبيرا داخل وخارج فرنسا. اليوم حلت خطابات أخرى محل الفلسفة الشخصانية، لكن التفكير في الإنسان ك « شخص » ازداد كثافة مقارنة بالعقود السابقة. ويبدو لي أن ما تنبأ به بول ريكور قبل ثلاثين عاما تأكد اليوم: »الشخصانية تموت، لكن الشخص يعود من جديد ». فهناك مفاهيم أخرى ترتبط بهذا المفهوم، لها أهمية كبيرة في التعبير والتحليل الأخلاقي للحياة الإنسانية وأعني مثلا الكرامة والحرية والمسؤولية. وأعتقد بأنه ليس من باب الصدفة أن تكرر مرار مفهوم « الشخص » في المنشورات الأخيرة لجامعة الدول العربية حول حقوق الإنسان، مثلا في المنشور الصادر عام 2004. لكن السؤال المطروح: هو كيف يمكننا إدراك هذا المفهوم من وجهة نظر إسلامية؟ إن راهنية لحبابي تتمثل في قيامه بالتعبير عن مفهوم إسلامي للشخص منح للمصادر الإسلامية عن صورة الإنسان بعدا كونيا، وسمح بمقارنتها بمفاهيم أخرى متعلقة بالشخص. إن الإنسان، حسب لحبابي، ليس ما نحن عليه ولكن ما يتوجب أن نكونه؟ إنه الهدف المعياري النهائي لسيرورة الشخصنة. أي دور يلعبه الآخر في هذه السيرورة؟ ماركوس كنير: إن سيرورة الشخصنة عملية معقدة، تناولها لحبابي بالدرس في كتابه الأول « من الكائن إلى الشخص »، الصادر في باريس عام 1954. إن الشخصنة تتحقق على مستوى أبعاد مختلفة، وتتميز بواقع أن الأنا المشخصنة هي دائما أنا مرتبطة. فهي تجد نفسها في مد زمني وأفق مكاني، في عالم لغوي وعاطفي، وفي عالم للقيم والإلتزام. إنها الأبعاد التي تجد الأنا نفسها أمامها. وهي تؤثر بها أيضا دون أن تحدد هذه الأبعاد بشكل نهائي. لأن الأبعاد تتشكل بدءا « مع » و »في » علاقتنا بالآخرين. فالزمن كتاريخ لا يتشكل إلا حين تعيش الأنا هذا الزمن، كزمن مشترك مع الآخرين وتجربه كزمن ما برح يتقدم ويتحول. والآفاق تتشكل، حين تتحدد الأنا مكانيا في علاقتها بالآخرين. والمسألة نفسها تصدق على حياتنا الداخلية والروحية وعلى أحاسيسنا. إن الأنا أو الشخص يتجاوز نفسه في هذه العلاقات مع الآخرين، إنه يمضي لما هو أبعد من ذاته. وهذا ما يعني بأن الآخر حاضر دائما في كل تكوين للشخص. إن المطلب الداعي في سياق عالم القيم إلى ضرورة تجاوز الشخص المستمر لوجوده الإنساني، يجد أصله في سيرورة التجاوز الذاتي التي يساهم فيها الآخرون. هذا عن النظرية. أما الأسباب التاريخية والواقعية التي دفعت لحبابي إلى تحليل عملية التشخصن، فهي أزمة الهوية التي عاشتها شعوب المستعمرات وخصوصا مثقفي هذه الشعوب. لقد كان للنظام الإستعماري نتائج وخيمة على شخصه وعلى الكثيرين مثله، يقول لحبابي. فبدلا من أن يعيش جيله اللغة والتواصل والحياة الروحية كمجالات للتشخصن، عانى هذا الجيل من غياب اللغة والتواصل ومن إحساس بالفراغ الداخلي. لقد تساءل لحبابي لوقت طويل، ما إذا كان شخصا، مثله مثل الأوروبيين. وهذا يؤكد بأن دور الآخرين في عملية الشخصنة والأنسنة، لا يخلو من إشكال. الشخصانية تبدأ، يقول لحبابي، « حين يرفض الشخص قيم الخضوع والطاعة ويعترف بالعقل والروح كقيمة أعلى من غيرها ». لكن ألا يتناقض هذا التأكيد على العقل مع حديث لحبابي عن « إنسانوية مع الله »؟ كنير: لم يقل لحبابي في أي عمل من أعماله بتناقض العقل والعقيدة. ومثل الأشخاص الذين يستعملونه، يجد العقل نفسه في سياقات معطاة مسبقا. وأحد هذه السياقات بالنسبة للحبابي، السياق الديني. والعقل يلعب هنا كما في سياقات أخرى دورا مركزيا: إنه يسمح للشخص بفهم السياق الديني، وما يعنيه ذلك من إيمان بالله وأوامره إلخ.. لكن لحبابي يفرق في وضوح بين الفهم والتفسير، فالفهم، في هذا السياق، كشف عن عقلانية خاصة بالإيمان الديني. وهناك ثلاث نقاط مرتبطة بهذه السيرورة: أولا: عبر فهم الأشخاص لعقيدتهم، تتحول هذه العقيدة نفسها إلى مجال لسيرورة الشخصنة. ثانيا: يقوم الشخص بمساعدة الآخرين على فهم عقيدته وعبر ذلك يحولها إلى جزء من الأفق الروحي المشترك. ثالثا: دينامية العقيدة مرتبطة بفهمها. فالأشخاص المؤمنون يتجاوزون ذواتهم في تفكيرهم العقلاني المستمر بعقيدتهم ويطورون بذلك ذواتهم ومعها عقيدتهم. إن الجملة التي سقتها للحبابي في سؤالك يتوجب فهمها في هذا السياق. إنه لا يتحدث عن عقل منفصل عن السياق الديني، بل عن عقل يشرح هذا السياق ويساهم في ديناميته. وفي لغة أخرى، يتوجب أن يكون « الإجتهاد »، أو إعمال العقل، منهج تعاملنا مع الدين. وبذلك ينتقد لحبابي قيم التقليد أو الاستسلام لاجتهاد السلف. فوحدها « الشهادة » ، شهادة « لا إله إلا الله »، القائمة على العقل، من تملك قيمة شخصانية في رأي لحبابي. وبفضل مفهومه الدينامي عن العقل يحتل لحبابي داخل هيرمينوطيقا القيم مكانة مهمة، تجمع بين المصادر الثقافية والدينية للقيم وصلاحيتها الكونية. وفي ظل سيرورة التجاوز، يصبح بالإمكان فهم القيم ذات الطابع الثقافي في أفق تقاليد قيمية أخرى، ويمكن حينها امتحان قدرتها على أن تصبح قيما لكل البشر. ولهذا فإن لحبابي بعيد عن كل شكل من أشكال الأحادية أو المركزية الثقافوية. « التحرر » أحد أهم المفاهيم في فلسفة لحبابي. كيف يمكننا فهم هذا المفهوم في سياق « الثورات العربية » الراهنة؟ كنير: إني أوشك أن أقول بأن « التحرر » هو أهم مفهوم في فلسفة لحبابي، لكنه مفهوم يتضمن أبعادا مختلفة. ففي مقدمة كتابه « من الكائن إلى الشخص » يؤكد لحبابي بأن التحرر يعني تحكم الفرد بغرائزه وشهواته. ففي بحث الإنسان عن علاقة متوازنة ين العاطفة والفهم، يدخل في سيرورة للتحرر من الإكراهات الطبيعية. هناك تأويل آخر لهذا المفهوم نجده في كتابه الصادر في باريس عام 1956: »الحرية أم التحرر »، أي في العام نفسه الذي حصل فيه بلده المغرب على استقلاله. فانطلاقا من نقده لتيار فلسفي أوروبي، يختزل الحرية في بعدها الذاتي، يؤكد لحبابي بأن الشخصية الإنسانية، في انخراطها داخل سياقات مختلفة، تهدف أيضا إلى تحقيق حريات مختلفة، وليس فقط الحرية الذاتية، بل أيضا الاقتصادية والسياسية. ولا يمكن اختزال هذه الحريات في فهم ثابت، يمكن للأشخاص امتلاكه مرة وإلى الأبد. بل إن الحريات نفسها مرتبطة بسيرورة التحرر، بشكل يدعو، وبعد تحقيق الحريات الفردية، إلى الانخراط في حركات تحرر جديدة تتعلق بالسياقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وعبر ربط الحريات بسياقات محددة، يتجاوز لحبابي الفهم الفرداني للتحرر، فهو يفهمه كسيرورة، يتشارك فيها الأشخاص في نضال من أجل قيم مشتركة. إن الكفاح الحالي في شمال إفريقيا والشرق الأوسط من أجل حقوق الإنسان والحقوق المدنية، يسلط الضوء من جديد على أهمية فكر لحبابي. ففهمه للشخصانية كتجاوز لماهو قائم وللأشخاص كفاعلية تحريرية يتوافق مع رغبة الكثير من الناس، الذين ضحوا بأنفسهم من أجل الحريات، وعلى رأسهم محمد البوعزيزي، هذا الشاب القادم من سيدي بوزيد في تونس، والذي أطلق الثورات العربية وهو يقدم في يأس على إحراق نفسه. فالبوعزيزي عانى من البنى السلطوية التي امتهنت كرامته وقتلت الشخص بداخله ، والبوعزيزي طلب التحرر، وحتى وإن لم يحققه لنفسه، فأتمنى أن يكون قد حققه للكثيرين. لقد وصف لحبابي في مؤلفاته الأخيرة، وهو يطور ما أسماه بفلسفة للعالم الثالث، البنى النيوكولنيالية ونتائجها على هذا العالم، في الوقت نفسه الذي أكد فيه بأن كل إنسان، شخص لا يمكن اختزاله أو تجاوزه، ومن ميزات الشخص الإنساني البحث عن الحرية والكرامة، وخصوصا في المجتمعات المسلمة. إننا نقف اليوم شهودا على هذا البحث المضني عن الحرية والكرامة في شمال إفريقيا والشرق الأوسط. أجرى المقابلة رشيد بوطيب مراجعة: لؤي المدهون حقوق النشر: موقع قنطرة 2011