النتيجة الحتمية للتدهور في الأوضاع العربية لا بد أن توصل العرب إلى ما وصلوا إليه وما يعانون منه اليوم من ضياع وتشتت وتشرذم وتفتت وتقزيم لكل منحى من مناحي حياتهم. وما يجري اليوم ليس ابن ساعته ولا هو من نتائج ما يسمى ب «الربيع العربي»، أو على الأقل ليس السبب الوحيد، لأن النظام العربي برمته باطل، ولا يمكن أن يؤدي إلا إلى طريق واحدة لا بديل لها، وهي الفوضى العارمة والضياع الكامل... ظلم وتفرد وديكتاتورية وانتهاكات مستمرة لحقوق الإنسان وقمع للحريات واستيراد مبادئ وعقائد من الخارج وتشويهها والعمل بعكس أهدافها، مقابل غياب خطط التنمية. ونظرة سريعة على الأوضاع الراهنة على امتداد الخريطة العربية تكاد تصيبنا بالرعب، وتدفعنا إلى الحيرة واليأس لما فيها من تناقضات ومؤشرات خطيرة تنذر بتدهور أكبر وبحدوث ما لا يحمد عقباه في حال لم يتم تدارك الأمور ومعالجة أوجه الخلل والمسارعة إلى فتح السبل أمام حوار هادف. ففي مصر مثلاً نجد مشهداً كاريكاتورياً غريباً يؤيد ما ذهب إليه المتنبي في قوله كم بمصر من مضحكات ومبكيات، فهناك رئيس موقت، ورئيس معزول ورئيس مخلوع ورئيس مرشح، وحوار طرشان لن يوصل إلى أي نتيجة، فلا «الإخوان المسلمون» يمكنهم أن يعودوا إلى الحكم لأن «اللي فات مات»، كما يقول المصريون، ولا الحكم الموقت قادر على الانطلاق من دون حل هذه المعضلة. ولا حل إلا بالحوار وتقديم تنازلات ووضع مصلحة مصر أولاً، بحيث يقوم على رفض الإقصاء والاعتراف بالأمر الواقع وعدم «ركوب الرأس» والعناد الذي لن يوصل إلا إلى الخراب ولن يعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل 30 حزيران (يونيو) الماضي، عندما قام الجيش بتحرك سريع لإنقاذ البلاد. فلولا هذا التحرك لكانت مصر سقطت في مستنقع لا خروج منه: انهيار اقتصادي، وشرخ اجتماعي وديكتاتورية من حزب واحد وتفكيك القوات المسلحة في سلسلة قرارات كانت ستتخذ من قبل الرئيس محمد مرسي لعزل القيادات وعلى رأسها الفريق السيسي. ومن جهة ثانية كانت مصر ستخضع لجماعات إرهابية سيطرت على سيناء أولاً، ما كان سيفتح المجال أمام تدهور أمني وصراعات كبرى قد تؤدي إلى تدخل إسرائيل وإعادة احتلال سيناء. وهذا ما يحلم به الصهاينة منذ القبول باتفاقات كامب ديفيد. ولو انتقلنا إلى ما تبقى من فلسطين، القضية المركزية العربية الأساسية والرئيسية، لوجدنا العجب العجاب، فبدلاً من توحيد الصفوف ونبذ الخلافات والتعالي فوق المصالح الشخصية والسياسية والحزبية، أدت الصراعات إلى تقسيم ما هو مقسم أصلاً من فلسطين بين الضفة الغربية وقطاع غزة وبين الفصيلين الرئيسيين «فتح» و «حماس»، فيما العدو يشمت ويعتدي ويسجن ويهوّد ويبني المستعمرات الاستيطانية ويخطط لإعلان نهائي بقيام الدولة اليهودية ومن ثم إلى هدم المسجد الأقصى المبارك لبناء ما يسمى ب «الهيكل". والمبكي لا المضحك، أن نجد في فلسطين رغم المخاطر المحدقة بقضيتها، شروخاً هائلة ومناصب زائفة، ففيها أيضاً -مثل مصر-: رئيس منتهية صلاحيته، ورئيس حكومة مقالة في غزة، ورئيس حكومة غير شرعية ولم تحظ بالثقة وانتخابات مؤجلة، ومجلس وطني منتهية صلاحيته، ومنظمات وفصائل منقسمة ومشتتة ومتنافرة وتقف وراء متاريس دائمة بعد أن نسيت أن عدوها الوحيد في مكان آخر يسرح ويمرح في الأراضي المحتلة، فيما آلاف الأسرى يرزحون تحت نير سجون الاحتلال وملايين الفلسطينيين يعانون من ذل التشتت والمخيمات والفقر والاضطهاد والتمييز العنصري. وهنا أيضاً لا حل ممكناً ولا بارقة أمل في الأفق إلا بنبذ الخلافات وتوحيد الصفوف والتنازل عن كل الشروط والمطالب التعجيزية وبدء حوار فوري وإقامة حكومة انتقالية موقتة تشرف على انتخابات حرة ونزيهة تمهد لقيام حكومة وحدة وطنية. وفي لبنان شرّ البلية ما يضحك، فقد حبا الله هذا البلد الجميل بكل مقومات الحياة وإمكانات النجاح، من موقع وطبيعة وشعب متعلم وطموح وحرية لم تتح لأي دولة عربية أخرى. ومع هذا، فقد عمد هذا الشعب نفسه، الذي يتحمل المسؤولية كاملة أكثر من قياداته، عما وصل إليه، إلى السير في ركاب دعاة الخلاف والفرقة والصراعات الطائفية والمذهبية، فيما يتنافس القادة على الارتهان للخارج. والمشهد الحالي مؤسف وعجيب: رئيس حكومة تصريف أعمال، ورئيس حكومة مكلف ورئيس حكومة منفي ورئيس حكومة منتظر، ومجلس نيابي معطل لم يفتح أبوابه خلال فترة ولايته إلا للتجديد لنفسه لسنة ونصف، ورئيس منتخب يبذل جهده لتوحيد الصفوف وإطلاق عملية حوار بناء من أجل مصلحة الوطن من دون أن يلقى أذناً صاغية من أحد... والحكومة المنتظرة عالقة في سجن الشروط والشروط المتبادلة، هي في مجملها تشكل خطراً على مستقبل البلاد في ظل الأوضاع الأمنية المتدهورة والأوضاع العربية المتفجرة، خصوصاً في سورية. والكل ينتظر «غودو»، الذي لن يأتي إلا إذا شمر اللبنانيون عن سواعدهم ونسوا خلافاتهم ووضعوا مصلحة وطنهم فوق كل المصالح والمطامع والإملاءات الخارجية. فرئيس الحكومة المكلف تمام سلام يحمل كل مواصفات الإنقاذ في هذه المرحلة الحرجة ويمثل فرصة لا تتكرر «لتمرير الأزمات والقطوعات» بانتظار جلاء الأمور في المنطقة وتسهيل عملية إجراء الانتخابات الرئاسية في منتصف العام المقبل، ومن بعدها الانتخابات البرلمانية العامة. وفي حال عدم تحريك الأمور مع اقتراب موعد نهاية ولاية الرئيس ميشال سليمان، فإنه لن يكون أمام اللبنانيين سوى التجديد له لعدة أسباب، أهمها أنه أثبت قدرته على لعب دور الحكم وأن يكون عامل استقرار ورأب الصدع ومعالجة المشاكل الأمنية إضافة إلى نجاحه في امتحان الوطنية والولاء للبنان أولاً وتمسكه بالدستور والقانون ورفض التفريط بالسيادة والحرية والاستقلال. أما في سورية، فما زال حمام الدم والدموع يسيل بعد عامين ونصف العام من القتل والدمار والحروب العبثية والعناد وسياسة الإنكار ورفض تقديم تنازلات من أجل التخفيف من معاناة المواطنين من ملايين اللاجئين إلى ملايين النازحين إلى ملايين الرازحين تحت وطأة القصف والقنص وعذاب الخوف والرعب والفقر وتوقف دولاب العمل عن الدوران. وهنا أيضاً نؤكد أنه لا حل ولا خروج من النفق المظلم إلا بالحوار البناء وتقديم التنازلات والاعتراف بالقوى بالفاعلة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من سورية الحبيبة، وحجب دماء العباد الطيبين. فولاية الرئيس بشار الأسد تنتهي في منتصف العام المقبل ولا أحد يعرف ما سيجري بعدها، لأن هذا الموعد هو الحد الفاصل ونقطة الحسم في الأزمة الدامية. هناك بصيص أمل في عقد مؤتمر جنيف 2 للسلام، لكن الأجواء لا توحي بالتفاؤل، خصوصاً أن المنظمات المتطرفة دخلت على الخط لتخرب كل إمكانات السلام وتبعد المعتدلين عن الساحة. والحقيقة أن لا جنيف 2 ولا جنيف 10 ومئة يمكن أن تحل الأزمة، لأن الحل بيد السوريين أنفسهم لا بيد غيرهم، وبخاصة الدول الكبرى صاحبة المصالح والغايات. ويا حبذا لو تمت الدعوة إلى مؤتمر وطني (وطني حقيقي) يضم كل الأطراف بعيداً من أي تدخلات أجنبية، يكون شعاره «اتقوا الله في وطنكم وارحموا شعبكم النبيل»، بحيث يتم وضع كل الأمور على طاولة الحوار ويتم بحثها بعقل مفتوح ونية صادقة. وماذا بعد في عالمنا العربي المنكوب: في العراق ليلى ومليون ليلى مريضة ولا وجود للطبيب المداوي: صراعات طائفية ومذهبية وتدخلات أجنبية وإقليمية ودعوات انفصالية وأوضاع شاذة فيها حوار طرشان أيضاً معه سياسات عميان: رئيس حكومة متهم بالطائفية والمليشيوية، ونائب رئيس هارب ووزراء ينقسمون بين معزول ومتهم ومجلس معطل ويد الإرهاب تضرب خبط عشواء لا تفرق بين شيعي وسني ولا مسيحي ومسلم ولا كردي وعربي، وهو أمر ينطبق على آفة الفساد التي تشمل الجميع. وفي المغرب العربي المصيبة واحدة، كأن العرب قد اتحدوا للمرة الأولى في تاريخهم، ولكن على الشر لا الخير، فالمشهد واحد بين مشرق ومغرب: في ليبيا لا أحد يعرف من يحكم ومن يدير البلاد. حكومة ضائعة ومجلس تشريعي لا يعمل وولايات تعلن الانفصال وميليشيات قبلية تسيطر على ولايات أخرى وجماعات متطرفة تسرح وتمرح وتنفذ عمليات اغتيال ضد القيادات وتركز على ضباط الجيش والأمن، فيما الثروات تهدر والشعب الليبي كالزوج المخدوع هو آخر من يعلم... ومن يقرر. وفي تونس المشهد مماثل، رئيس جمهورية يحاول أن يفرض وجوده وحكومة بعدة رؤوس تصارع من أجل البقاء ثم تقال أو «تستقال» بعد شد وجذب وأخذ ورد. والصراع على أشده بين جبهة «النهضة» الإسلامية الاتجاه والأحزاب الأخرى والمنظمات والنقابات وعلى رأسها اتحاد العمال. فيما تبرز على الساحة جماعات سلفية وتكفيرية متطرفة توسع نطاق عملها، من الاغتيالات والسيطرة على المساجد والجامعات إلى الشارع لنشر دعواتها، فيما الجيش ينتظر ويراقب وسط دعوات بأن يتشبه بمصر ويخرج منه سيسي تونس. أما السودان، فحدث ولا حرج. فقد فتحت التظاهرات المعارضة لزيادة الأسعار الباب على مصير النظام بعد 25 سنة من الحروب في درافور وغيرها ثم في فصل الجنوب بينما رئيس السودان مطلوب للمحكمة الجنائية الدولية. وأختم بالاعتذار لعرض هذا المشهد الدرامي الذي يجلب التشاؤم ويقبض النفس ويسبب الاكتئاب، ولكن المنطق يفترض أن نشرح الأوضاع كما هي بلا رتوش ولا لف ودوران والبحث عن كلمات منمقة وتوصيف غامض. كما أن الواجب يدفع كل مخلص لقضايا أمتنا أن يضع يده على الجرح ليدل على مواطن العلة ومن ثم يسعى مع كل مخلص إلى أن يدل على معالم الطريق: طريق الصلاح والهداية، وطريق الإصلاح والإنقاذ، وطريق العمل والبناء. والبديل لا نهاية له سوى الخراب التام. "الحياة" اللندنية