عادت السلطة إلى نفس الممارسات التي ظن الجميع أنها ذهبت مع عهد الحزب الواحد، بحيث عادت آلة الترهيب إلى قطاع الإعلام لحمل رجال مهنة المتاعب على ممارسة "الرقابة الذاتية"، ليس على الأخبار التي يريدون نشرها، بل في منعهم من التعبير عن "الرأي" المخالف لتوجهات السلطة الحاكمة. ويعد هذا السلوك الجديد من الخطورة بمكان، لكون ممارسته لم تقتصر على وسائل الإعلام التقليدية (صحف مكتوبة)، بل شمل أيضا التعبير في وسائل التواصل الاجتماعي مثل "الفيسبوك" وغيرها. ورغم أن التقرير الأخير لمنظمة "محققون بلا حدود"، قد وضع الجزائر في مرتبة غير مشرّفة عالميا، من حيث حرية الصحافة بعد تدحرجها بثلاث مراتب في ظرف سنة واحدة (المرتبة 122 في 2012 إلى 125 في 2013)، غير أن ذلك لم يحرج السلطة في شيء من هذه العودة للوراء، بالرغم من أن الجزائر حققت مراتب أحسن منها في منتصف التسعينات. وتنظر السلطة ربما إلى مثل هذا التراجع في مجال حرية الصحافة بمثابة "انجاز" تحققه، رغم أنه أضحوكة تضاف إلى أكذوبة تحقيق الإقلاع الاقتصادي، رغم ما صرف عليها من ملايير الدولارات. كيف لا يكون هذا تحرشا وتضييقا على الصحفيين والمدونين الممارس من قبل السلطة مع سبق الإصرار والترصد، وقد اختير له ظرف زمني له أكثر من دلالة، بحيث نزلت "الآلة" العقابية والتهديدات، عشية اليوم الوطني للصحافة الذي أقرته السلطة في 2013، لكن ليحتفل به لأول مرة، ليس بتحرير الإشهار وفتح الفضاء السمعي البصري ومنح مزيد من الحرية لمهنة المتاعب والوسائط التكنولوجية الأخرى، وإنما من خلال عودة تكميم أفواه الصحفيين وسجن المدونين، وربما إعادة لجان القراءة، خصوصا بعدما اتهم بيان وزارة الدفاع بأن هناك "تحاملا" إعلاميا على المؤسسة العسكرية. والغريب في الأمر، أن المتابعات المسلطة من قبل السلطة الحاكمة على الصحف والصحفيين والمدونين، لم تعد تقتصر على تهم القذف والشتم، وهي التهم المعمول بها كالعادة عالميا ضد الصحفيين، بل انتقلت التهم إلى متابعة الصحفيين ب"تهديد النظام" و"المساس بالأمن الوطني" وتهديد استقرار البلاد، وغيرها من القوالب الجاهزة التي ينتظر "لبسها" لأي صحفي، حتى وإن كان يشتغل في جريدة حائطية، وهو ما حدث خلال مرض الرئيس، حيث منعت صحف من الصدور وفرض حصار على المعلومات وصمت كل مؤسسات الدولة، وكأن معرفة صحة الرئيس ليست حقا من حقوق المواطن في الإعلام. هذا السلوك يؤشر إلى "تغول" السلطة بشكل مخيف وغير مسبوق في عصر تسميه "تنفيذ الإصلاحات السياسية". لكن عندما تقول منظمة "محققون بلا حدود"، إن ما أعلنت عنه الحكومة الجزائرية من إصلاحات وقانون للإعلام مجرد "حبر على ورق"، ففي ذلك أكثر من دليل أن السلطة التي لا تستطيع التقدم إلى الأمام لا تصاب بالتكلس فحسب، بل تريد صحافة بلا طعم ولا ورائحة، لتبقى هي في الكرسي. فهل بعدما "صحرت" هذه السلطة الحياة السياسية وكسرت الأحزاب والمنظمات، جاء الدور الآن على ما تبقّى من ثمار انتفاضة 5 أكتوبر 88، وهي الصحافة المستقلة والخاصة؟