مقال : " في محاولة التاصيل لمفهوم اليسار " ذ . محمد المتوكي " باحث في التاريخ السياسي "
تكتسي عملية نحت المصطلحات و التصنيفات LES TAXIONOMIES أهمية كبرى في حقل العلوم السياسية . لكن من الثابت في قاموس السياسة أن الاحزاب[1] تصنف إلى أحزاب اليسار و أحزاب اليمين ، غير أنه في العقود الاخيرة انضاف تصنيف اخر بظهور أحزاب الوسط .و نعتقد أن الخوض في تحديدات جلية لمفاهيم مركزية كاليسار و اليسار الجديد من شأنه أن يرسم معالم بارزة للمفكر فيه لدى الأكاديميين الفاعلين السياسيين على حد سواء . و من ثمة ممكنات الاختلاف أو التقاطع حولها في تعريفها العام قبل ولوج أركان تطابقاتها المجتمعية و البرنامجية و الادواتية و العلائقية . إن تعريف اليسار أو اليسار الجديد شرطي كما هو عالمي ، فعناصر اليسار يمكن أن توجد فعليا في كل الحركات الاحتجاج غير البروليتارية ، و لكن لا يمكن تصنيف كل تلك الحركات كاليسار و اليسار الجديد . و على هذا الاساس فلابد من وضع هذه المصطلحات تحت المجهر و على ضوء التحديد التاريخي أولا ثم الاديولوجي ثانيا . ü ما ذا يعني اليسار إن مفهوم اليسار ليس تعبيرا دقيقا بل هو صيغة تصنيف سياسي عام . كما يصعب تحديد معنى سياسي دقيق للكلمة . على اعتبار أن القوى التي نسبت إلى اليسار اختلفت عبر العصور . " اليسار" مفهوم غامض في نشْأته - كما يقول "بيكلز" في قاموس العلوم الاجتماعية ، و يعود مفهوم اليسار تاريخيا إلى مخاض الثورة الفرنسية ، ففي الجمعية التأسيسية التي شكلت بعد الثورة – الجمعية الوطنية لاحقا – توزعت التيارات و المجموعات المختلفة في المدرج نصف المستدير لمقر الجمعية من أقصى يمين رئيس الجمعية – الذي كان يجلس قبالة المدرج – إلى أقصى يساره . و كانت القوى الملكية ورجال الدين من أنصار حق النقض المطلق للملك – الذي أعدم لاحقا – يجلسون إلى يمين المدرج في حين كان روبسبيير و اليعاقبة و نوادي الحانقين يجلسون في اليسار [2]. و انطلاقا من هذا التوزيع المكاني ، ذاع تعبيرا اليسار و اليمين و جرت بعد ذلك محاولات لتحديد ماهية كل تعبير بشكل أكثر دقة دون أن يكون بمقدور أحد أن يمنحها دقة كاملة . في المقابل قام أحد الكتاب الاوربيين بتعداد مجموعة من الخصائص التي تميز اليسار حصرها في : ü الايمان بالعلم و العقلانية . ü الايمان بالمساواة بين الافراد و الشعوب ü مناهضة كافة أشكال الاضطهاد و القمع و أنواع التمييز التعسفي . ü الايمان بحرية الانسان – مع اجتهادات لاحقة متعددة لمضمون هذه الحرية – ü التفاؤل بمستقبل الانسانية و العمل على تغيير الاوضاع القائمة المجحفة. ü حب السلام و مناهضة الحروب التي لا تخدم مصالح الشعوب [3]. تطوّرَ استخدام المصطلحين لاحقاً، واتخذت كلمتا «يسار» و«يمين» حياة خارج السياق التاريخي لمنشئهما ، و ميزة اليسار تاريخيا و على صعيد كوني ، و على الاقل منذ النصف الثاني من القرن 19م هو كونه اجتماعيا بالتعريف ، أي أنه وضع في قلب اهتمامه و مبررا لوجوده ، وفق قواعد الانصاف و النضال من أجل ما يراه حلول صائبة لها من منطلق نقد المضاعفات البنيوية أو الظرفية للمسألة الاقتصادية و السياسية و مترتباتها الاجتماعية ، كما إنطرحت و تطورت بتطور النمط الرأسمالي و تعميمه العولمي [4] . و أن تبرز في هذا السياق ، اجتهادات نظرية لحل المسألة الاجتماعية من سان سيمون و برودون و ماركس إلى أخر طراز في الديمقراطية الاجتماعية ، لا يجعل من اليسار صنافة محتكرة بالمؤشرات البيولوجية للمنهل الماركسي أو غيره . و القبول بهذه الاطروحة مغزاه أن اليسار باعتباره قوة ترمي حل المسألة الاجتماعية قد يكون متعدد الهويات المجتمعية على اعتبار انتمائه و سعيه للتعبير عن الحلقة الاضعف ، إنصاف في كل سيرورة اجتماعية ، و على اعتبار هذا التعبير و الانتماء شرط وجوده كيسار ثانيا [5]. فالواقعة التاريخية التي أفضت إلى استخدام مفهومي اليمين و اليسار لها مدلولاتها التاريخية المرتبطة بالبعد الاجتماعي و السياسي ، و الذي يعني بالأساس اعتبار اليسار قوة تدميرية لكل البنى و الاعراف التقليدية المحافظة التي تكبح تطور المجتمع في لحظة نضجه ، و تعمل عكس القوانين الموضوعية للتطور وهناك من يختصره- حركة اليسار- في قوى بديلة ذات طموح تغييري تسعى لإقامة شريعة مغايرة لما هو قائم .[6] و تطور اليسار يؤكد على أنه ليس مفهوما مطلقا أبديا تحصل عليه هذه القوة أو تلك بمجرد التنظير بالعدل و المساواة [7] . بل أنه مفهوم متغير قد تختلف من مجتمع لأخر . و قد نسبت إلى اليسار تنويعة مختلفة و واسعة من القوى السياسية بدءا من بالاحزاب الاشتراكية الديمقراطية ثم الشيوعية في أوربا مرورا بحركات التحرر الوطني ، إلى التيارات التي تفرعت عن الفكر الماركسي : اللينينية و الماوية و التروتسكية و الجيفارية ...إلخ . و بمرور الوقت تغير و تعقد وتشعب استعمالات مصطلح اليسار بحيث أصبح من الصعوبة بل من المستحيل استعمالها كمصطلح موحد لوصف التيارات المختلفة المتجمعة تحت مضلة اليسارية . لا غرو أن كل الدراسات الاكاديمية – خاصة في مجال العلوم السياسية – تتفق على أن اليسار تاريخيا قد اقترنت بنظريات كل من كارل ماركس و فريديك انجلز أساسا ، أو بما تمت تسميتها لاحقا بالاشتراكية العلمية / الماركسية ، و هو ما يجعلها أكثر النظريات تأثيرا في إطار اليسار . و حدد الدكتور محمد حنفي مفهوم اليسار وفق هذه المرجعية انطلاقا من ثلاث محددات : في التصور و في المجال و في التعامل . ü اليسار في التصور : هو الاطار الذي يضم المقتنعين بالاشتراكية العلمية كوسيلة وكهدف، كوسيلة لتحليل الواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي، باعتماد قوانين التحليل العلمي التي ابدعتها المادية الدبلكتيكية والمادية التاريخية باعتبارها قوانين الاشتراكية العلمية التي اكتشفها منظرا الماركسية ماركس وانجلر والتي عمل ويعمل على تطويرها الماركسيون من بعدهما حتى تكون قادرة على مواجهة التحولات التي يعرفها الواقع . ü اليسار في المجال : هو الحزب السياسي الثوري او حزب الطبقة العاملة الذي تسعى إلى جعل الكادحين وكل افراد المجتمع يقتنعون بالاشتراكية العلمية كأيديولوجية للكادحين، ويقود نضالاتهم في افق تحويل ملكية وسائل الانتاجية المادية والمعنوية إلى ملكية للمجتمع ككل وبعد الوصول إلى السلطة السياسية . ü اليسار في التعامل : هو الذي يسعى بممارسته الايديولجية، والتنظيمية والسياسية والنضالية الى الارتباط بالطبقة العاملة وبسائر الكادحين من اجل الدفع بهم إلى امتلاك وعيهم الطبقي الذي يؤهلهم لخوض الصراع الطبقي الذي لا يكون إلا مشروعا، والذي يهدف إلى تحقيق الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية في افق تحقيق الاشتراكية[8] . ماذا يعني اليسار الجديد ؟ يصمم بعض الدارسين على أن تعبير اليسار الجديد مستعار عن مجلة اليسار الجديد THE NEW L EFT REVEIW ، و التي كانت تصدر في بريطانيا منذ عام 1959 ، إلا أن التعبير ظهرا مبكرا عن ذلك كام يؤكد بولشاكوف حيث يرجعه إلى سنة 1955 بفرنسا ، حين عقد اليسار الجديد جمعيته التأسيسية ، و أنشأت بعد ذلك فروع للحركة بالاقاليم [9] . و طبقا لما جاء في أقوال إيفان كريبو أحد زعمائه ، فإنها ضمت المناضلين من كل الاتجاهات : الاشتراكيون ، اليساريون و الشيوعيين و الديمقراطيون و الترتسكيون و التقدميون و محاربوا المقاومة و الاشتراكيون المسيحيون و اخرون انضموا إلى النضال الثوري لأول مرة [10] . تربط الدراسات التي تناولت سياقات نشأة اليسار الجديد بالعالم ، بالقراءات و المراجعات النظرية و السياسية في الحركة الشيوعية التي شابت التجارب الاشتراكية . حيث تعرضت كل الأحزاب الشيوعية تقريبا لعملية تجديد داخلي ثوري خلاق ساعدتها على تحقيق الإنطلاقة التي حققها الحزب الشيوعي في الإتحاد السوفياتي بعد المؤتمر العشرين. فقد طرحت الأحزاب الشيوعية ما علق بها من رواسب التحجر و الجمود العقائدي و عبادة الفرد. و ظهر ذلك في إعادة النظر في برامج هذه الأحزاب و تكتيكها و أشكال تنظيمها, و إرجاع الإعتبار إلى القواعد اللينينية في التنظيم و الحياة الداخلية, و التطلع نحو افاق جديدة في النضال على أساس الظروف الموضوعية في كل بلد . و تزامن ذلك مع ما عاشته المنظومة الغربية من المنظومة الغربية من تناقضات حادة بفعل ظهور تيار مضاد جسدته بشكل واضح الموجة الماركسية التي انتقدت مضمون الحريات الليبرالية ، و اعتبرتها حريات زائفة تخدم أساسا المصالح البورجوازية ، و بشرت بحريات أكثر تقدما على مستوى الاعتراف بحقوق الانسان ، حيث ناهضت مظاهر الحياة الليبرالية ، فنادت بوحدة الحزب بدل الحزبية كما نادت بالمساواة الفعلية بدل المساواة القانونية . إن اليسار الجديد كان في الواقع تجسيدا عن الصراعات التي عاشتها المنظومة الغربية ، و أصبح بالنسبة للدول المستعمرة في العالم الثالث رمزا للتحرر ليس فقط في مرحلة ما قيبل الاستقلال ، بل كذلك مؤشرا هاما على مناهضة النظم القائمة بعد الاستقلال [11] . و ينبغي التأكيد في هذا الصدد أن المنعطفات التي غاص فيها المغرب دولة و أحزاب منذ الاستقلال ، لم تكن معزولة عن المسار العام الدولي الذي اتسمت به هذه المرحلة و المتمثلة بالاساس بجني الحركة اليسارية عموما بالعالم لثمار صراعها في الرد على طروحات المؤتمر العشرين للأحزاب الشيوعية ، و ذلك في سياق احتدام الخلاف بين الصين و الاتحاد السوفياتي . و بالرغم من أن الحزب الشيوعي المغربي لم يكن منخرطا في هذا الحراك الاديولوجي بشكل مباشر ، و هذا ما يفسر أن هذه المراجعات لم تمسه في جوهره ، باستثناء جزء من شبيبته – خاصة الطلبة الذين كانوا يتابعون دراستهم الجامعية بفرنسا – الذين كانوا على اضطلاع بمجريات النقاش الدائر في الاممية الشيوعية . و انخرطت هي الاخرى في مراجعة أدبيات الحزب ، متأثرة بدرجة كبيرة بأدبيات اليسار الفرنسي – الالتوسيرية - ، فعمدت إلى تحويل سياسة الحزب من الداخل في محاولة لتوجيهه إلى يسار حقيقي على مستوى برامجه و مواقفه ، في الوقت الذي أثبت التاريخ فشل هذا الرهان كما يفشل عادة الفيلسوف في وهمه السلطوي ، و طموحه في أن يقود و يوجه العالم ، فيكتشف في الواقع أولوية السياسية على الايدولوجيا كما درج القاموس اليساري تعريف ذلك .
* · [1] - عرفت الموسوعة السياسية الحزب بالقول: "الحزب السياسي هو مجموعة من الناس ذوي الاتجاه الواحد والنظرة المتماثلة والمبادئ المشتركة يحاولون أن يحققوا الأهداف التي يؤمنون بها, وهم يرتبطون ببعضهم وفقا لقاعدة أو قواعد تنظيمية مقبولة من جانبهم تحدد علاقتهم وأسلوبهم ووسائلهم في العمل . ü يمكن الرجوع في هذا الصدد إلى : * · د.عبد الوهاب الكيالي وكامل زهيري: "الموسوعة السياسية" ، الطبعة الاولى ، ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،1974 ، ،ص 228 . [2]- داوود تلحمي ، مقال تحت عنوان » وحدة اليسار الفلسطيني : اية افاق « ، مجلة صوت الوطن ، العدد 34 السنة الثالثة ، يونيو يوليوز 1992 ص :27-28 . [3] - نفسه ، ص : 28 . [4] - مؤلف جماعي ، » وحدة اليسار في المغرب : لماذا و كيف « مطبعة النجاح الجديدة ، الطبعة الاولى ، يونيو 2000 الدارالبيضاء ، ص:8 [5] - نفسه ، ص: 8-9 . [6] - عبد القدر الشاوي، "اليسار المغربي: من المعارضة إلى الاندماج"،مجلة نوافذ، العدد 1999،4، ص43 . [7] - حيضر عوض الله ، » في مفهوم اليسار ....و اليسار الفلسطيني « مجلة صوت الوطن العدد 37 ، السنة الرابعة ، شتنبر و اكتوبر 1992 ، ص : 25 [8] - د. محمد حنفي ، » حول مفهوم اليسار و ما جاوره ...؟ « ، مجلة الحوار المتمدن ، العدد : 1282 ، غشت 2005 ، ص : 1 [9] - ف . بولشاكوف ، » اليسار الجديد إلى أين و مع من ؟ « ، ترجمة مجدي نصيف ، دار الثقافة الجديدة ، 1977 ، ص: 109 . [10] - نفسه ، ص: 110 . [11] - ظريف محمد ، » تاريخ الفكر السياسي بالمغرب : مشروع قراءة تأسيسية « ، افريقيا الشرق ، ص : 40 .