اللغة و الهوية مدخل الجزء الرابع من تازة الخالدة الى كازا العامرة كما أشرنا اليه في الحلقات السابقة ،همنا الوحيد و نحن نعالج الموضوع الشائك الممثل في الربط العضوي بين اللغة و الهوية هو كيف نحل عقدة التطور الحضاري المحجوز ، عبر ثورة ثقافية تعبد لنهضة حضارية أكيدة. و ذلك بالتنوير الفكري و تعميمه عبر دينامية الابداع في كل الميادين مع اطلاق أوراش البحث و الاستثمار في الانسان ليصبح عضوا مستقلا بذاته و مبدعا . هذا ليس بالبكاء على أطلال مركب المخيال الماضوي. بل بالتطلع في كل خطوة يخطوها نحو المستقبل المشرق الذي يضعه في مقدمة الشعوب و الأمم و ليجد لنفسه بذا موطن قدم حر في هذا العالم الذي لا يرحم الضعفاء. من هنا نعي أيضا ان طرحنا منذ بدايته ، لا يراوح نغسه داخل حلبة النقاش العقيم ، هل الدجاجة أعطت البيضة أم البيضة ولد الدجاجة. ما معناه هل الهوية المغربية مرجيتها الثقافة الأمازيغية أم الثقافة العربية ، بينهما معا الدجاجة و البيضة. و كما وضعنا في الحلقة السابقة مدخلا بينا عبره الظاهر التبسيطي عندما تقرأ رسالة الغفران ، أما في الباطن فتحمل فكرا عبقريا زعزع الموروث الغيبي الذي فتح نوافد النور العقلي . و ليسمح القاريء الكريم ان أخدنا حيزا من وقته و نحن نجول به عبر الموروث المخيالي لمدينة تازة الخالدة و منظورنا لمستقبل الدارالبيضاء العامرة. و هذا يعني لو تشبث فقط أحدنا بمنطقته أو مدينتها بشكل قطعي ، جعل منها وسط الكون و المبتدأ و الخبر في كينونة و وعيه الذاتي. ان خلود مدينة تازة خلود الزمان و المكان و لقد كان يفتخر أهلها و لا زالوا بالتعبير الشائع بينهم ” من مدينة تازة الى قرية فاس”. كنت في السابق أجد هذا التعبير مبالغا فيه ، و أرجع هذه العبارة كون الانسان لما يحب شيئا يبالغ في تمجيده. لكن و لبضعة أيام و أنا بين أهل هذه المنطقة المجيدة و المهمشة و الصامدة أبدا ، في وجه من أراد السيطرة عليها عنوة . خاصة الحكم المركزي الذي جسدته مدينة فاس لحقبة طويلة و منها المقولة الشهيرة المشار اليها أعلاه. حيوية أهل المنطقة و رزانة ساكنة المدينة بعدوتيها العليا و السفلى، وكذا جاذبية الجبال و التلال التي تميزها يجعلك تراجع التاريخ و تخاطب الواقع. ينسى الكثيرون أن مدينة تازة من أقدم المدن المغربية. و قد قال عنها الرومان و عن منطقتها ، أنها بوابة موريتانيا أي المغرب الأقصى. و بقي الحال بالنسبة لكل من يريد السيطرة على الحكم المركزي بالمغرب الى أن حل المستعمر الفرنسي، حيث سمى منطقة تازة بثغر المغرب، أي باب مدخلة كالفم بالنسبة للجسد. و تازة هي عاصمة الشمال الطبيعية و بها اختلطت كل الأقوام التي عمرت المغرب عبر الحقب. 1 – تازة الخالدة من الناحية الجغرافية من تفحص منطقة تازة و جدها تربط جبال الريف و جبال الأطلس أي بمثابة العنق بين الرأس و هو الشمال و الجسد و هو باقي المناطق. و الأهم في هذا أن المنطقة تشكل في تكوينها الاجتماعي و اللغوي جوهر الموروث الثقافي المخضرم للمغرب. فهناك أمازيغ الشمال في منطقة الريف و جبالة المستعربة. و جنوبا أمازيغ الأطلس المتوسط. و شرقا أمازيغ زناتة. و غربا قبائل أمازغية عربت عبر اختلاطها بقبائل احياينا العربية خاصة بنو هلال و بنو سليم التي أتى بها السعدين خلال القرن السابع عشر من مناطق الغرب حيث استقروا منذ عهد الموحدين. و ذلك لمواجهة و سد الطريق أمام بني وطاس الزناتيين الذين بعد ازاحتهم عن فاس استقروا بتازة كعاصمة لهم. ثم و هذا ما تغافله العديد من المؤرخين، أن تازة كانت دائما مكان أمان لكل من يستقر بها ، مثل ما حصل بالنسبة للأندلسيين مسلمين و يهود بعد نكبتهم. و قد وصفها حسن الوزان الملقب بليون الافريقي ، في حديثه عن المدن و البلدان التي زارها عبر رحلاته اثر خروجه من غرناطة مع من أخرجوا منها عام 1492. قال حسن الوزان أن المنطقة من أجمل ما رأت عيناه و أن تازة من أرقى المدن التي زارها و أن أهلها من أنبه القوم الذين تعرف عليهم. الأمر الذي أكده البك العثماني الذي زار المغرب منتصف القرن التاسع عشر قادما من الجزائر. و لا نغالي أن قلنا كل من وصف منطقة تازة أسهب في وصف طبيعتها المتنوعة الجذابة مركزا على حيوية و ذكاء أهلها. أنهم يحبون العمل و يحسنون المعاملة و أنهم وديعين و أن نسائهم يجمعن بين الحزم الجمال. و يقال حسب الرواة و جل الروايات من صنع الخيال، أن طارق بن زياد من موالدها و أن الخليفة الأموي هشام ابن عبد الملك أمه من بنات منطقة تازة . و هو الأمر كذلك بالنسبة لجعفر المنصور ثاني خلفاء بني العباس و المؤسس الحقيقي لدولتهم ، أن أمه كانت أمازغية من مواليد منطقة تازة و هي بذا جدة هارون الرشيد. أقول هذا كتعبير ميثولوجي عن نخوة أهل تازة. لذا تجدهم أكثر المغاربة حبا للحرية ، فانطلاقة عبد الكريم الخطابي الحقيقية لم تتم الا بعد أن ناصرته قبائل منطقة تازة حيث جعلها عاصمة الجمهورية الناشئة لقبائل الريف الحر. و جمهورية قبائل الريف تعني مجمل المنطقة الشمالية و ليس محصورة على الريف الحالي. فمن عاصمته تازة العز، انطلقت جنود الأحرار تحت امرة القائد الموهوب محمد بن عبد الكريم الخطابي تقاوم المستعمر الاسباني و الفرنسي. بداية القرن العشرين قام الداعية للسلطنة المهندس امحمد الزرهوني الملقب بحمارة ، أنه الابن الأكبر للسلطان الحسن الأول و الذي كان يركب حمارا كإسوة بتواضع عمر بن عبد العزيز. أما عن المقاومة و جيش التحرير فحدث و لا حرج . ان طال لصاحب هذه السطور العمر دون للتاريخ منطقة تازة المجيدة. 2 – كازا العامرة البهيج في مدينة البيضاء أنك ما أن تنزل بها حتى تحتضنك بلجتك التازية أو الصحراوية أو أية نغمة أخرى . و هي بذا تجسيدا حضاريا للمغرب الراهن. تشخص كل أنماط العيش و التعايش لمجموع المغاربة من أي هب و درب جاؤوها. و ليس المغاربة فقط ، فهي منفتحة على كل الثقافات و تندمج في العصر الحديث بكل طاقاتها المتفاعلة. و من يريد الحديث عن الهوية المغربية ، ما علية سوى زيارة البيضاء العالية. فهي تمثل المجهر الطبيعي الذي يمكنك أن تشخص منه واقع الهوية المغربية من كل جوانبها الثقافية و الاجتماعية. فاذا كانت تازة تشخص التاريخ المشترك للمغاربة كونها بوابتهم فان البيضاء تجسد حاضرهم و منه مستقبلهم. هي قاطرة العمران و التغيير الحداثي و أنها المدينة التي يرتاح لها كل زائر و يحس للوهلة الأولي أنه أحد أهلها. هي ذي اللهوية المغربية في تجسيدها الواقعي. (يتبع)