منذ سنتين تقريبا ومباشرة بعد خروج معتقلي العدل والإحسان الإثني عشر من السجن، كتبت مقالا بعنوان "هل تنجح العدل والإحسان في إدماج معتقليها؟"، و كان المقال حينها نابعا من تهممي البالغ بمصير هؤلاء المعتقلين الذين قضوا ما يناهز العقدين في الزنازن، لإدراكي ومن واقع التجارب المحلية والإنسانية في المغرب، وفي غيره من الدول التي عاشت تجربة "العدالة الانتقالية"، أن أكبر تحد يمكن أن يواجه المجتمعات التي عرفت تحولات أعقاب فترات طويلة من تفشي انتهاكات حقوق الإنسان هو إعادة الإدماج السياسي والاجتماعي والاقتصادي للمعتقلين والمعذبين والمنفيين والمنتهكين، خاصة في مراحل ما يسمى بالانتقال الديمقراطي، إذ أنه لا يكفي استصدار قرار سياسي أو قضائي بإطلاق سراح المعتقل أو عودة المنفي ليطوى الملف، فالقضية بالغة الحساسية والتعقيد، حيث لم تتمكن دول عديدة خاضت التجربة منذ أواخر الثمانينات وحتى الآن، في أمريكا اللاتينية وشرق أوروبا وبعض دول إفريقيا من التغلب على آثار تلك الفترات البشعة النفسية والمادية، وهو تحد أدركته المنظمات الحقوقية مبكرا لهذا انتهجت مقاربة شمولية لضمان انتقال ديمقراطي حقيقي في الدول التي اختارت أن تقطع مع ماضيها غير المشرف في مجال حقوق الإنسان، ومن ضمنها المغرب، الذي دشن مسلسل المصالحة وطي صفحة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي عاشها في الفترة من 56 إلى 99، في إطار ما سمي بتجربة الإنصاف والمصالحة، لكنه للأسف لم يتبنى مقاربة شمولية مرتكزة على الأسس الأربع، التي تم التأكيد عليها في قرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، ولجنة الأممالمتحدة المعنية بحقوق الإنسان والمركز الدولي للعدالة الانتقالية وغيرها من الهيئات الدولية، بل تعامل معها بمنطق سياسوي وبشكل انتقائي وليس حقوقي مما أفرغها من محتواها الأساس الذي هو تحقيق "الديمقراطية والسلام"، وجعل المغرب يعود تدريجيا إلى تكرار نفس الانتهاكات، بل يتراجع بشكل سريع عن ما حققه من مكاسب في مجالي الحريات العامة وحقوق الإنسان، وتتلخص هذه الأسس الأربع كما نصت عليها الوثائق الدولية في: 1- اتخاذ خطوات عملية لمنع انتهاكات حقوق الإنسان، ويشمل هذا إجراء تحقيقات قضائية مع المسؤولين السياسيين والفعليين عن ارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان، مع حفظ الذاكرة العامة للضحايا، ونشر الوعي الأخلاقي بشأن جرائم الماضي، وإشاعة ثقافة حقوق الإنسان. 2- مباشرة تحقيقات بشأن الانتهاكات، وتشكيل لجان رسمية لتقصي للحقيقة تغطي الفترات الرئيسية للانتهاكات، وتعد تقارير عنها، وتتقدم بتوصيات لمنع تكرارها في المستقبل. 3- معاقبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات؛•مع خطط لإصلاح أجهزة الأمن وتحويل المؤسسات العسكرية والشرطية والقضائية، وغيرها من مؤسسات الدولة المتعلقة بها، من أدوات للقمع والفساد إلى أدوات نزيهة لخدمة الشعوب. 4- الالتزام بتقديم تعويض لضحايا الانتهاكات من خلال برامج التعويض أو جبر الضرر التي تدعمها الدولة، وتسهم في جبر الأضرار المادية والمعنوية المترتبة على انتهاكات الماضي، بتوزيع تعويضات مادية مالية أو رمزية كالاعتذارات الرسمية ورد الاعتبار إلى الضحايا. وبالاحتكام إلى هذه المقاربة الكونية المنصوص عليها في القانون الدولي، نجد أن المغرب لم يحترم كل التزاماته، فالمسؤولون المباشرون على تلك الانتهاكات لم يعاقبوا ولم يقصوا عن تدبير الحياة العامة، بل حتى لم يحاكموا محاكمات رمزية، وبرامج جبر الضرر والتعويض لم يتم تعميمها بشكل شفاف وواضح، بالإضافة إلى مجموعة من الملفات التي لا زالت عالقة كالاختفاء القسري، ولهذا كان من الطبيعي أن نجد أن هناك تكرارا ممنهجا لهذه الانتهاكات في حياتنا السياسية، فهناك حالات من الاختطاف والتعذيب وخرق القوانين، وليست قضية معتقلي العدل والإحسان إلا حلقة من حلقات هذا المسلسل. ففي الوقت الذي ظن فيه جميع المتابعين أن هذا الملف طوي إلى غير رجعة بعد أن استهلكت أهدافه السياسية من الطرفين، عاد مجددا إلى الواجهة بعد إقدام جهات مجهولة في الدولة وبطريقة غير مفهومة وغير مبررة على منع المعتقلين السابقين من الالتحاق بوظائفهم، فبعد أن تم تعيينهم وحصلوا على قرارات التعيين وشواهد العمل وأرقام التأجير، بل وجاءتهم حتى رسائل التعيين في مناطق مختلفة، لكن ودون سابق إنذار وبشكل مفاجئ يمنعون من الالتحاق بوظائفهم مع بداية الدخول الدراسي بتعليمات فوقية بسبب –كما قيل- عدم استيفاء الشروط القانونية والنظامية، وهنا لنا أن نسأل مع المعتقلين السابقين كما جاء في بيانهم "من المسؤول عن كلّ هذا؟هل الجهات المشرفة على دراسة الملفات لم تكن في وعيها؟هل سلطة الوزارة الأولى لا تتعدى العبارات المقررة في الدستور الجديد؟هل اختلت موازين وزارة المالية وهي المشهود لها بالتشدد في دراسة الملفات وأنّها لا يمكن أن ترخّص لملف إلاّ بعد فحص دقيق؛ حتى تقرّ بالمناصب المالية ثم تتراجع بعد ستة أشهر؟هل المخزن لا زال مصرّاً على فوضى التعليمات مقابل منطق القانون الذي يتبجح به؟" أسئلة مشروعة ومحرجة لنا -ولمن يبشرون بمغرب جديد في ظل دستور ديمقراطي وحداثي متقدم- كنا في غنى عنها، فالناس قضوا ما كتب الله عليهم في السجون عقابا على جريمة سياسية ينكرونها هم جملة وتفصيلا، ويشهد على تلفيقها حقوقيون ومحامون وسياسيون وإعلاميون، جريمة وقعت في مرحلة تميزت بشد حبل كبير بين العدل والإحسان ونظام الحسن الثاني، وفي ظروف إقليمية ودولية معقدة جدا، ورغم أن محاكمتهم شابتها خروقات لا تعد ولا تحصى، ورغم أن ملفهم طاله التهميش والإقصاء مرات عديدة، فهم رضوا بقدرهم ولم يطالبوا بإعادة المحاكمة، ولم يطالبوا برد الاعتبار، ولم يطالبوا بجبر الضرر أو التعويض، ولم يستفيدوا من برامج التأهيل وإعادة الإدماج، وكلها حقوق تكفلها لهم المواثيق الدولية والنظام الأساسي لهيئة الإنصاف والمصالحة، واكتفوا فقط بالمطالبة بالحق في الشغل الذي يكفل لهم العيش الكريم والاندماج الفعلي في المجتمع بعد غيبة دامت 18 سنة، وهو أمر لم يتم إلا بعد قرابة سنتين من الإفراج عنهم، حيث تم إدراجهم ضمن اللوائح التي أعدتها الوزارة الأولى في سياق توظيف حاملي الشواهد العليا. المؤكد أن ملف المعتقلين الاثني عشر استنفذ أغراضه السياسية المتمثلة أساسا في تركيع وابتزاز العدل والإحسان، وإجبارها على القبول بالتفاوض في فترات سابقة، وهذا للأسف ما لم يفهمه من اتخذ قرار منعهم من وظائفهم، فنحن إما أمام عقليات ما زالت تعيش في الماضي وتتعيش على ملفات الأرشيف، وإما أن شيطان الانتقام يتلبس بعض مسؤولي الدولة المفلتين من العقاب، الذين يجهضون كل محاولات المغاربة في الحرية والديمقراطية والمصالحة مع ذواتهم وتاريخهم، وإما أننا أمام خطإ إداري في التقدير نتمنى معالجته سريعا، فلا يصح لا عقلا ولا قانونا ولا إنسانيا أن يعاقب أي شخص على جريمة مرتين، هذا إن اقترفها فما بالك إن لم يقترفها.وإذا كانت العدل والإحسان قد نجحت في إدماج معتقليها باعتبارهم منتمين لها، فعلى المغرب أن ينجح في إدماج أبنائه فالوطن فوق الجميع وقبل الجميع وأب الجميع. هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.