تلقت أقدم وأشهر حركة إسلامية في العالم العربي (حركة الإخوان المسلمين المصرية)، ضربة موجعة، من أنجع وأنجح حزب إسلامي في العالم الإسلامي (حزب العدالة والتنمية التركي)، فسارعت إلى الرد عليها، متهمة أردوغان بالتدخل في الشؤون الداخلية لمصر. كيف ذلك؟ ولماذا؟ تحدث رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء التركي، وزعيم حزب العدالة والتنمية، الذي يوصف بكونه حزبا ذا مرجعية إسلامي، في مقابلة له مع إحدى القنوات الفضائية المصرية، عن العلمانية، قائلا: "العلمانية لا تعني اللادينية، وإنما تعني احترام كل الأديان وإعطاء كل فرد الحرية في ممارسة دينه"، داعيا إلى وضع دستور لمصر، يقوم على المبادئ التي من شأنها أن ترسي قواعد دولة مدنية حديثة، بالقول: "على من يناط بهم كتابة الدستور في مصر، توضيح أن الدولة تقف على مسافة واحدة من كل الأديان"، واصفا نفسه كالتالي: "أنا مثلا لست علمانيا، لكنني رئيس وزراء دولة علمانية". من حيث المضمون، ما صرح به أردوغان ليس بجديد، فلطالما رددته الحركات العلمانية في الوطن العربي، دون أن يثير حفيظة الإسلاميين، بل إنها تعتبر مثل هذه الدعاوى بمثابة سك اتهام للعلمانيين. فما هو الجديد إذا؟ جدتها، بل خطورتها، تكمن في الجهة التي أطلقتها؛ فصاحبها، يتمتع بشعبية واسعة في الشارع العربي، راكمها بكاريزميته، وحنكته السياسية، بمواقف المتزنة والمتوازنة، بوقوفه في وجه الكيان الصهيوني، ونجاحاته الاقتصادية الباهرة، التي جعلت من تركيا قوة اقتصادية صاعدة تزاحم الدول الصناعية، على مراتب الريادة العالمية، بعد أن كانت ترزح تحت وطأت أزمة اقتصادية مزمنة. إن الحركة الإسلامية، التي أسست لمشروعها السياسي، على أساس مناهضة مشاريع العلمنة في العالم الإسلامي والعربي، التي قادها الاستعمار الغربي، بهدف استغلال مقدرات العالم العربي البشرية والطبيعية، من خلال عقلنة دورة الإنتاج الفلاحية والصناعية..؛ وكذا كرد فعل اتجاه العلمانية التركية، التي أسقطت الخلافة العثمانية على يد كمال أتاتورك، والذي رأت فيه النخب العربية آنذاك، فرصة سانحة للعرب لاستعادة الخلافة من مغتصبيها الأتراك العثمانيين، بقيادة حركات فكرية وسياسية منها: حركة الإخوان المسلمين في مصر، والحركة الوهابية، بقيادة آل سعود، في الجزيرة العربية... لن تنظر بعين الرضا والقبول للرغبة التي عبر عنها أردوغان في تلك المقابلة التلفزيونية، والتي يروم من خلالها إلى تصحيح الكثير من الكليشهات، التي روجت لها البروباغاندا الإسلاموية طيلة سنوات، بإشاعة الكثير من المغالطات الفكرية والمعرفية عن العلمانية، ووضعها في قفص الاتهام باعتبارها حركة "معادية للإسلام"، وتسعى، لا إلى فصل الدين عن السياسة، بل فصل الإنسان المسلم عن دينه الحنيف، سيحرمها من ريع سياسي لا ينضب معينه، تستخدمه لاستقطاب الجماهير المنحازة شعوريا ولاشعوريا للدفاع عن الإسلام. يعرف الإسلاميون أن الديمقراطية والعلمانية وجهان لعملة واحدة، فهي كما تبلورت في أوربا منذ عصر النهضة، تروم تحرير روح وجسد الإنسان الأوربي تحرير روحه من وصاية الإكليروس (رجال الدين) الدينية، وتحرير جسده من تسلط الحكام السياسية، وتفجير طاقاته الإبداعية الخلاقة، من أجل حياة أفضل، له ولأبنائه من بعده. ورفضهم الصريح للعلمانية، وقبولهم العلني بالديمقراطية، يطرح الكثير من الغموض في ما يخص مشاريعهم السياسية الآنية والمستقبلية: فإما أن قبولهم بها (الديمقراطية)، لا يعدو أن يكون تكتيكا مرحليا، لأنهم غير قادرين على التصريح برفضها، للشعبية التي أضحت تتمتع بها لدى الرأي العام العربي، وما الربيع العربي إلا تعبير صريح وواضح عن تطبيع الإنسان العربي معها، عكس العلمانية التي ما تزال تثير فيه الكثير من التوجس؛ أو يقبلون بها (الديمقراطية)، ولكن، في حدودها الدنيا، التي لا تتعدى الاحتكام لصناديق الاقتراع، ورفضها في ما يخص إمكانياتها القصوى، التي تعني الاحتكام إلى العقل، لتدبير، وليس التدخل في شؤون الناس الدينية والدنيوية، وتلك هي العلمانية. وفي كلتا الحالتين، تُطرح قضية قدرة الإسلاميين على التعايش مع باقي الفرقاء السياسيين. عدم قبول الإسلاميين للعلمانية، لا يمكن أن ينتج، في حال وصولهم للحكم، سواء عبر الطرق المشروعة (صناديق الاقتراع) أو غير المشروعة، إلا نماذج للحكم، شبيهة بنظام ملالي إيران، أو طالبان أفغانستان، أو شباب الصومال.. أما الوصفة التي قدمها أردوغان بقوله: "أنا مسلم (لم يقل إسلامي؟!) أحكم في بلد علماني"، فلن يختلف حولها الديمقراطيون، سواء من الإسلاميين أو الحداثيين. صلاح مفيد