مهما تعددت الروايات واختلفت تفاصيل الشهادات عن حالة وفاة حميد الكنوني، وقبلها حالة فدوى العروي، ولا ننسى قصة المعطلين أمام المؤسسة التشريعية، فإن الحقيقة المتواترة الثابتة والمرعبة لَمَّا تصبح رموز السلطة تمارس الحكرة حتى الموت أو تحمل المَحْكُورَ على التفكير فيه. ليس هناك شك أن المحكور اختار فعل حرق ذاته، لكن هذا لا ينفي أن الحكرة هنا قاتلة تدفع الإنسان قَهْراً للاحتجاج حَرْقاً بعد أن تَحُولَ المنافذ والمداخل التي يعتبرها مشروعة دون حقوقه أو استعادتها، لأنها تكون قد سدت سداً. ولذلك تتحوَّل هذه الرموز، بذاتها وكينونتها، إلى القانون الذي يفيض بالسلطة المُشَخْصَنَةِ والسيطرة والتحكم في رقاب الناس، ولها (أي الرموز) أن تمتلك مصائر العباد فتختار لهم وتقضي بما تشاء، وتتصرف في شؤونهم كيف تشاء، وهو ما يجعل السلطة هنا شيئاً قابلاً للامتلاك مقصودة في ذاتها ولذاتها وتنبع من اختيارات فردية، وليست محايثة عن الأشخاص والرموز والعلاقات الاجتماعية والمعرفية والاقتصادية. وهكذا تنتفي سلطة القانون، ويصبح الإنسان أمام قانون رموز السلطة المُشْبَع بالخروقات والانتهاكات والمُتجاوز للحقوق والمُشَرْعِن لكل ألوان المعاملة المُحَقِّرَة والمُهِينة والحاطة بالكرامة الإنسانية فعلاً وقولاً. ولن تجد أي قاموس، في أي زمان أو مكان ومهما تعددت مجلداته وتنوَّعت مادته المهينة، يزخر بمخزون الحكرة مثلما لدى رموز السلطة المشخصنة. ولنلاحظ هنا أن هذه الحكرة الحارقة والقاتلة تتنافى مع المفهوم الجديد للسلطة الذي رأى النور قبل 12 عاماً (12 أكتوبر 1999)، ولا يفتأ أن يكون لازمة الخطاب السياسي والحقوقي للسلطة، دون أن تُترجم مقتضياته على الأرض بالمحافظة على الأمن الاجتماعي للمواطن الذي يعيش ظروفاً صعبة والقرب من هواجسه ومشاغله، وهو ما يتطلب ملامسة ميدانية لمشاكله وإشراكه في إيجاد الحلول المناسبة والملائمة وتسخير جميع الوسائل لضمان كرامته. لكن يبدو أن المسألة لا تتعلق بإنتاج المفاهيم، وإنما بتغيير الذهنية الأمنية السلطوية التي تفيض بالعلاقة العمودية المشخصنة، حيث لا معنى للمؤسساتية إذ تُمارس السلطة من فوق باتجاه التحت بكل مخزون الحكرة الذي تحمله. بينما تكمن روح المفهوم الجديد للسلطة في العلاقات الأفقية التي تجعل السلطة مقصدية وليست ذاتية. لا يمكن أن نعزل هذا الواقع الذي تُمْتَهَن فيه كرامة المواطن أثناء احتكاكه اليومي والمباشر برموز السلطة وأجهزتها عن المحيط السياسي والإعلامي والثقافي والاقتصادي، إذ تبدو هذه الصورة اليومية انعكاساً لسلوك السلطة الذي يفيض هو الآخر بالحكرة في علاقتها بالفاعلين السياسيين، والمخالفين لها في الرأي، وبعض المثقفين والفنانين المغضوب عليهم. وربما تكون البَهْدَلَةُ، والسَخْسَخَة المُذِلَّة، التي عاشها الاتحادي طارق القباج، عمدة مدينة أكادير، بمناسبة تجديد الولاء والبيعة للملك مثالاً "ساخناً وطازجاً" عن علاقة السلطة بممثلي الشعب، إذ تعرض الرجل للإهانة مستخلصاً بمرارة الدرس متأخراً "إن التغيير يقتصر على الشكل دون المضمون". ويمثل ما سُمِي ب"الردة السياسية" التي أعقبت الخروج عن المنهجية الديمقراطية أوضح أساليب الحكرة السياسية والسلطة المشخصنة التي تفرض اختياراتها على الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وتابعنا كيف زُجَّ ببعض السياسيين في السجن، بل ومصادرة حقهم في العمل السياسي الحزبي قبل أن يقول القضاء كلمته في سياق ظروف بات الجميع يعرف خلفياتها. هذه الحكرة اكتوى بلظاها الجسم الصحفي الذي أصبح "حائطاً قصيراً" يمكن أن يُحَاكَم رجالاته بقانون السلطة حتى وإن شُرِّع ووجد هناك قانون الصحافة. أما الحكرة التي تمارس في الحقل الثقافي والميدان الفني فالشواهد كثيرة ولا تحصى. ولا يمكن لهذه الحكرة أن تستمر طويلاً، لأنها تولِّد مخزوناً دفيناً من السخط والحنق قد يشتعلان في أي وقت ودون سابق إنذار عندما يشعر المواطن، في ربوع أجمل بلد في العالم، أن الظلم الذي تعرض له الكنوني والتجاوز على حقوقه يمثل اعتداء عليه ويدعوه لإدانته.