الراغب حرمة الله يعبر عن إعتزازه بالمكانة التي يوليها جلالة الملك لأبناء الأقاليم الجنوبية    فؤاد عبد المومني.. ينشد التغيير في قنينة "الدوليو"    مواجهة ثانية بين "الأسود" و"الظبيان" لتحقيق مزيد من الاطمئنان..    الشرطة السويدية تفتح تحقيقا يطال كيليان مبابي بتهمة الاغتصاب    كيوسك الثلاثاء | الأمطار تحسن تدريجيا مخزون المياه في السدود    بنعلبي: تراخيص استيراد النفايات غير الخطيرة تخضع لمساطر إدارية دقيقة    قمة خليجية – أوروبية غدا وتناقش ملفات سياسية وأمنية واقتصادية    تشغيل الشباب.. بنسعيد: "استفادة حوالي 30 ألف شاب وشابة من برنامج في مجال التكوبن"        أسعار النفط تسجل تراجعا طفيفا خلال التعاملات الآسيوية        طقس الثلاثاء.. أمطار وزخات رعدية في أغلب مناطق المملكة    بو القنادل: توقيف ثلاثيني يدير ورشا لتزوير النقود    إيداع شخص تهجم على الموكب الملكي بالرباط في مستشفى للأمراض العقلية    إصلاح قطاع الصحة في المغرب : تحديات وأفاق    نزار بركة: إطلاق صفقات تهم 71 مقطعا طرقيا و69 منشأة فنية    أدوار النساء القرويات في المغرب .. معاناة مضاعفة وجهود تفتقد الاعتراف    "حوار" يناقش مستقبل الجالية بهولندا    تناول كمية متوسطة من الكافيين يوميا قد يقلل من خطر الإصابة بألزهايمر (دراسة)    غلوري توقف بنصديق ل10 أشهر بعد ثبوت تعاطيه للمنشطات    كأس أمم إفريقيا 2025 بالمغرب.. الجزائر تحجز بطاقتها إلى النهائيات رفقة الكاميرون وبوركينافاسو    جوزيب بوريل يجدد التأكيد على "القيمة الكبيرة" التي يوليها الاتحاد الأوروبي للشراكة الاستراتيجية مع المغرب        أزمة دبلوماسية بين الهند وكندا بعد اغتيال زعيم انفصالي في فانكوفر        آيت الطالب يعلن عن قائمة جديدة من الأدوية التي سيتم خفض أسعارها            إصابة لامين جمال تربك حسابات برشلونة قبل قمتي بايرن ميونيخ وريال مدريد    بعد 10 سنوات زواج...طلاق فرح الفاسي وعمر لطفي    رئيس مجلس الشيوخ البرازيلي: بلادنا تتطلع إلى الارتقاء بعلاقاتها مع المغرب إلى مستويات أعلى        عجز الميزانية بالمغرب يتراجع إلى 26,6 مليار درهم عند متم شتنبر (الخزينة العامة للمملكة)    نشرة إنذارية: زخات رعدية قوية مصحوبة بحبات البرد وبهبات رياح مرتقبة اليوم الإثنين    تحذير من أمطار عاصفية هذا اليوم    دولة إفريقية تعلن تسجيل أول حالتي إصابة بفيروس جدري القردة    دارون أسيموغلو وسيمون جونسون وجيمس روبنسون يفوزون بجائزة نوبل للاقتصاد لعام 2024    ماريا نديم تظهر لأول مرة مع مولودها وتكشف عن إحساسها بالأمومة (فيديو)    هذا موعد الدورة المقبلة من مهرجان موازين إيقاعات العالم    "لوموند": المغرب لديه "أكبر مسرح" في إفريقيا كلف بناءه 200 مليون أورو لكنه مغلق    فيلم "تيريفاير 3" يتصدر شباك التذاكر    دراسة: تناول كميات طعام أقل قد يكون له تأثير إيجابي على متوسط العمر المتوقع    ترتيبات جديدة تنظم "إسعاف السفر"    حزب الله يستهدف ثكنة في وسط اسرائيل    دراسة: الذكاء الاصطناعي ساعد في اكتشاف آلاف الأنواع من الفيروسات    السلاح النووي والصراع بين إسرائيل وإيران يدقان ناقوس الخطر في المنطقة    رحيل المفكر اللبناني مصطفى حجازى صاحب كتاب "سيكولوجية الإنسان المهدور" عن عمر ناهز ال 88 عاما    توقيف شخص مسلح قرب تجمع انتخابي لدونالد ترامب    قتلى وجرحى في غارات إسرائيلية على مركز توزيع أغذية في جباليا    المعهد المغربي للتقييس يخلد اليوم العالمي للتقييس    قتلى وإصابات خلال قصف حزب الله لإسرائيل    من التصيد إلى الاحتيال .. هكذا تحمي نفسك في العالم الرقمي    أعراض داء السكري من النوع الأول وأهمية التشخيص المبكر    الملك محمد السادس: المغرب ينتقل من رد الفعل إلى أخذ المبادرة والتحلي بالحزم والاستباقية في ملف الصحراء    أربعاء أيت أحمد : جمعية بناء ورعاية مسجد أسدرم تدعو إلى المساهمة في إعادة بناء مسجد دوار أسدرم    الزاوية الكركرية تواصل مبادراتها الإنسانية تجاه سكان غزة    القاضية مليكة العمري.. هل أخطأت عنوان العدالة..؟    "خزائن الأرض"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محاكمة الإبداع علامة مسجلة على الإفلاس
نشر في لكم يوم 20 - 12 - 2010

لا بأس في البداية من تحديد مناسبة هذا الكلام الذي سيأتي، فإن الكتابة إذا تعينت دواعيها بالواضح لا بالمرموز أعان ذلك على فهم مقاصدها وإصابة مراميها التي فيها ما يعم وما يخص راهن الأمة المأزوم.
ومناسبة الكلام هو ما جرى في الأيام القليلة المنصرمة من جر واحدة من قصائد الشاعر الإسلامي المغربي الأستاذ منير الركراكي القيادي في جماعة العدل والإحسان المعارضة للمثول أمام قاضي التحقيق في مسلسل لا يريد أّن ينقضي من ملاحقة شعر هذه الجماعة ونثرها حقيقتها ومجازها فكرها وفنها، وقد تذكرت عند سماعي النبأ قصة محاكمة قصيدة "عواء" "Howl"للشاعر الأمريكي إروين ألن غينسبيرغ حين قرأها زميله الشاعر لورنس فيرلنغتي في خمسينيات القرن الماضي والتي جاءت إدانة وصرخة في وجه الطوفان العبثي للرأسمالية الأمريكية التي أغرقت العالم في الجنس والمخدرات والحروب، ولأهمية الدلالة الرمزية للحادثة فقد نقلت فيلما سينمائيا من مدة قصيرة، وأذكر أنه من لحظات الاحتفاء غير المعهود من هوليود بموضوع اللغة الشعرية، في حوار المدعي العام وأستاذ جامعي مشهد يطلب الادعاء العام بكل علياء القانون وسطوته أن يشرح الأستاذ مقطعا من القصيدة رهن الاعتقال، فيجيبه الأستاذ الجامعي بأدب جم: "سيدي، إن الشعر لا يمكن أن يُترجم إلى نثر. وهذا هو السبب في كونه شعرا". لينتهي الفيلم بعد صراع درامي طويل بانتصار الشعر وإعلان براءة الشاعر.
وبالنظر إلى الأفقين المحددين ،كما يقرر الفيلسوف أبو يعرب المرزوقي، التاريخي الذي هو العين الراهنة منه في لحظة من لحظات التاريخ الروحي للأمم والوجودي الذي يصوب منظور الفكر إلى الأشياء فيمكنها من الرؤية الحافزة للإبداع فإن استدعاء القصائد لردهات المحاكم علامة تجارية مسجلة على الإفلاس.
إذ من علائم الإفلاس الإنساني في أنظمة الاستبداد ظهور آفتين مزمنتين، لكل واحدة منهما مقدمات وحصائل وخطط تحتاج للتشريح.
أما الأولى من علائم هذا الإفلاس: فتعطيل العقل الجماعي، وذلك أن من شأن هذا التعطيل أن يريح صناع الاستبداد وتجاره ومحيطه من المساءلة والنقد، لأن الناس في مجتمعات الاستبداد يستحيلون إلى دهماء سائمة بفعل عمليات التخدير الثقافي المركز الذي ترتفع فيها أصوات الناعقين والناعقات والمطبلين والمطبلات والراقصين على الجراح والراقصات.وهذا التعطيل يكون في نظرنا من طريقين:
الأول تنمية المواسم التي يستقيل فيها العقل المبدع ونعني بذلك مواسم الخرافة والشعوذة التي تطورت فلبست لبوس الحداثة، ويرعى هذه الخطة في الراهن سدنة الأمن الروحي وكهنة الشأن الديني ممن قضت رسوم السياسة عنايتهم بطقوس الاستبداد ببخورها وصلواتها ورقاها التي لا ترى غاية من وجودها فوق حماية أمن "الرعاة القديسين" إلا بأن تدفع عنهم بتعاويذها "شياطين" المعارضة، فهي بذلك خادمة لشرط التخدير بالدين في تنويم المجتمع وحفظ "استقراره".
والطريق الثانية إشاعة الرعب في أوساط العامة، ذلك أنه من شأن هذا الأمر ركون الناس إلى من يصنع الخوف خوفا من بطشه واتقاء لطيشه، فلا يرون الخلاص إلا في لزوم الصًغار والعبودية بالاختيار، وذلك لكثرة ما يحيق بالناس من انتشار المخبرين والعيون بكل مكان، فتصير السلطنة لهم، ويرتفع مقام الوشاية حتى لا يكون ذو المنزلة إلا من حذاقهم وأحدهم بصرا وأخسهم سمعا وأنقلهم لوشوشات الناس وأكثرهم حرصا على الخدمة والولاء لأرباب التسلط والاستبداد، فتستحيل الدولة مع الزمن إلى دولة بصَّاصين حشاشين كما صار الأمر في دولة المماليك، ويصير أعلى طرق الحياطة في الدولة هو نقل الأخبار كما أوصى أبو جعفر المنصور ابنه المهدي.
ومع فقدان ملكة العقل الجماعي هذه ينطمس النقد فلا يعود له بقاء ولا وجود، وتصبح المجتمعات الخرساء أشبه بسجون مفتوحة كما يقول خالص جلبي أو قل معي مصحات عقلية ليس فيها إلا ممرضون لصوص يحقنون كل ساعة كميات من الخدر عبر البرامج الهابطة ونشرات الأخبار الميتة في الأجساد التي فقدت كل إرادة للتغيير، يوهمون الناس أنهم يحسنون صنعا، وآنئذ تنقلب المفاهيم في الأذهان لأن ضابطها ،أي العقل،الذي بيده إحكامها قد دخل في سبات أبدي، ليترك لمنطق الاستبداد الجنوني أن يفعل فعله في الناس فلا يروا غير واقع الحال إمكانا لعيشهم، ويستلذوا مع مرور الوقت القيود والأصفاد يساقون بها حليا لأعناقهم.
والثانية من علائم هذا الإفلاس إفساد الروح، من خلال الحرب على الإبداع الحي، وذلك بجر هذا الإبداع لساحات القضاء فتفشو في دنيا الناس محاكم التفتيش، في الوقت ذاته الذي تفسح المسارح والمراتع للإبداع الميت الذي تتعرى فيه الأجساد في واقع مكبوت جنسيا وسياسيا خدمة للاستمناء والإلهاء الذي يضعف العقول والأجساد، وليس من شك في أن هذا الوضع المنحط دليل على ثلاث علل لا رجاء في الشفاء منها إلا بزوال أسبابها المنشئة لها أي نسق الاستبداد برمته.
أما العلة الأولى: فتسطح الوعي، وهو نتيجة حتمية لغياب الحس النقدي الذي يوشك أن يمنع الناس من تمييز الحق من الباطل والواقع من الخيال، ولا شك أن تسطح الوعي هو علة العلل ورأسها، وشاهده في محاكمة القصائد معاملته للإبداع الفني معاملة البيانات والبلاغات السياسية، والشاعر "كائن" في قصيدته كما يقول النقاد لا في شرحها أو قراءاتها وتعاليقها مهما تباينت.
أما العلة الثانية: ففساد الذوق، وهو نتيجة حتمية لغياب الحس الجمالي الذي يوشك أن يمنع الناس من تمييز الجميل من القبيح، وفساد الذوق من ضعف الإيمان، فإن الإيمان العظيم يورث الذوق العظيم، وشاهده من نازلتنا الانشغال بما لا تقوله القصيدة أي بتقصيد الإبداع وتقويله بدل الإنصات لنبضاته ودفقه وجماله، فالقصيدة ما إن تحصر في قراءات مغرضة حتى تضيع نقوشها ويؤخذ أصحابها بالظنة ويعاقبوا بالشبهة وتُحَمَّل أمراض القراء ونزواتهم كما يصف الناقد الإيطالي أمبرتو إيكو.
أما العلة الثالثة: فانقلاب القيم، وهو نتيجة حتمية لغياب الحس الأخلاقي الذي يوشك أن يمنع الناس من تمييز الخير من الشر والتملق من الإخلاص وتلك علامة على موت القلوب وخراب الضمائر، فيكثر عندئذ المتملقون باسم الوطن المنقلبون على الأخلاق والدين، ومعلوم أنه من لا خير له في دينه لا خير له في وطنه كما يقول المنفلوطي في نظراته، ومن كان بنقضه عهد الوطنية غادرا فاجرا ، فهو بنقضه عهد الله أغدر وأفجر، والعدالة للإنسان أفضل الأوطان، فمن لم يحرص عليها فأحرى به ألا يحرص على وطن السقوف والجدران.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.