لم يكن فوز دونالد ترامب بالرئاسة أمرا خارج دائرة التوقعات خصوصا مع انسحاب الرئيس جو بايدن من سباق الانتخابات واضطرار الحزب الديمقراطي للدفع بنائبته كامالا هاريس أو بالأحرى سكرتيرته، مرشحة الصدفة، كبديل عنه في وقت متأخر بعد احتدام الحملة الانتخابية للظفر بالبيت الأبيض، مما رفع من أسهم المرشح الجمهوري والذي استثمر أيضا عددا من الملفات الداخلية والخارجية أهمها الحرب الصهيونية على قطاع غزة وعلى لبنان التي عجز الكيان العبري عن حسمها، الشيء الذي عقد أوضاع إدارة بايدن وفتح باب المزايدات عليها حول مدى نجاعة دعمها لحليفها "الشرق – الأوسطي". عودة ترامب إلى البيت الأبيض تقلل من التكهنات حول سياساته المرتقبة بحكم أنه لم يكن حديث العهد بمنصبه، فهو معروف سلفا لدى ناخبيه ولدى الرأي العام المحلي وحتى العالمي إضافة إلى أنه لم يبد أي تغير أو تراجع عن مواقفه السابقة مما يجعله واضحا، وما يعزز هذا الأمر شخصيته الصريحة حد الوقاحة والعجرفة التي يصعب أن تخفي شيئا، والمعطى الوحيد الذي يسترعي الاهتمام هذه الأيام هو اختلاف الوجوه داخل الإدارة الأمريكية وكيف ستؤثر في تفاعلها مع طوفان الأقصى وتبعاته المتصاعدة على المنطقة لا سيما مع سيل الوعود التي أطلقها الرئيس المنتخب هنا وهناك للدفاع عن أمن "إسرائيل"؟ حماسة دونالد ترامب لدعم إسرائيل لا تخفى على أحد، فهو عراب صفقة القرن الرامية لتصفية القضية الفلسطينية، والذي تسبب في أكبر موجة تطبيع مكنت الكيان الصهيوني من أن يتسيد على دول عربية كبرى ويخضعها لإرادة مسؤوليه، وهذا ما جعل البعض يعتبر أن فوز ترامب مصيبة تستحق أن نفتح بيوت عزاء أمامها متجاهلين ما اقترفته أيادي الديمقراطيين من إجرام فاق كل التوقعات، وذلك بمشاركة مباشرة في الحرب الإرهابية على غزة ومن يدعمها عبر تقتيل أطفالها ونسائها وشيوخها وتدمير بنيتها التحتية كل هذا بأطنان من الأسلحة والمتفجرات الأمريكية. فماذا يمكن أن يضيف ترامب على هذا المشهد المغرق في دمويته؟ وهل بعد دمار حرب نتنياهو – بايدن على غزة من دمار؟ الواقع أن الإجرام بلغ ذروته في غزة بعد أن عاث فيها الصهاينة فسادا وتخريبا وهو في طريق تزايدي في لبنان سواء حكم الديمقراطيون أم الجمهوريون، والوسائل المعتمدة لإنفاذه توشك على الاستنفاذ ولن يجد ترامب أوراقا تصعيدية غير تلك التي استخدمها سلفه إلا إن أراد توسيع دائرة الصراع، مما سيخفف الضغط عن الجبهتين الرئيسيتين ويشرك فاعلين آخرين، وتلك خطوة ستكون مكلفة للغاية للأمريكان وللأنظمة الخاضعة لهم والتي لن يرغب فيها الرئيس الأمريكي الذي أظهر براغماتيته في عدد من الوقائع الماضية، كما في حادثة اغتيال قاسم سليماني أو في الاتفاق مع طالبان حول انسحاب قواته من أفغانستان. المتأمل في التاريخ السياسي للولايات المتحدةالأمريكية يدرك أن وجوه رؤساء أمريكا أو حتى انتماءاتهم الحزبية لم تكن هي العنصر الحاسم في صياغة سياساتها ومواقفها الكبرى، وأن الظرفية المعاشة وإكراهاتها الدولية والمحلية وتفاعلات المجتمع والنخب السائدة من رجال المال والنفوذ معها هي التي تحول الصقور منهم إلى حمائم والعكس أيضا، ولا يتبقى للرئيس غير الصورة الدعائية التي تريد الولاياتالمتحدة أن تقدم بها نفسها أمام العالم، فيصبح آنذاك مجرد مدير لحملة علاقات عامة فإن تضررت صورة أمريكا جراء إفراطها في العنف وفي ممارساتها الخشنة يتم الدفع بمن يخفف من حدة عنفها، دبلوماسيا، وإن أحس الرأي العام ومن يتحكم في توجيهه بضمور وتراجع في النفوذ أتوا بوجه استعراضي من أجل استعادة الهيبة والردع كما هو الحال مع دونالد ترامب. قد نفهم مناهضة وصول ترامب لسدة الحكم فيما مضى فقد كان لدينا حسب اعتقاد البعض ما نخسره، أما اليوم ومع ولوغ النخبة الأمريكية الناعمة في الدماء العربية والإسلامية، فإن المؤكد أن هذه الأوهام قد زالت إلا إن أصر البعض على الحفاظ على صورة أمريكا أكثر من الأمريكان أنفسهم، ذلك أن المرحلة الراهنة تنسجم مع عنف ترامب اللفظي وعدوانيته، وأمريكا بإعادتها له إلى البيت الأبيض يتصالح ظاهرها مع باطنها بعد أن نزعت عن خطابها السياسي والإعلامي غطاء الحقوق والحريات وانحازت إلى لغة القوة والمصالح، فبذلك نتخلص من تلك الازدواجية الخادعة التي يستل المجرم فيها السكين وهو يذبح ضحيته من الوريد إلى الوريد مبتسما في وجهها ومطبطبا عليها.