متابعات - أكتب هذا المقال من دولة كوستا ريكا في أمريكا الوسطى. وقد يتساءل القراء وما لنا ومال كوستا ريكا؟ ألا يوجد لدينا من القضايا التي تستحق التعليق والكتابة عنها حتى تذهب بعيداً إلى دولة لا تعنينا في شيء ولا تؤثر على قضايانا ولا ننوي زيارتها في المستقبل لا للسياحة ولا للتجارة؟ وللإجابة عن هذا التساؤل لدي أسباب للكتابة من كوستا ريكا وعنها، أهمها أن هناك دروسا وعبرا بليغة أود أن أقدمها للحكام العرب أولا وللشعوب العربية ثانيا، وأعرفهم على نموذج راق للدولة الناهضة في كل المجالات، التي تعمل ليل نهار على سعادة شعبها وتقدمه وترسيخ دولة المؤسسات والاحتكام للشعب صاحب القول الفصل في ما يتعلق بقيادة البلاد، خاصة أن شعوبنا العربية تصارع ليل نهار للإطاحة بنموذج الدولة الطاغية التي يحكمها فرد أو عائلة، ولا تستند إلى قوانين أو مؤسسات أو دستور. وأما السبب الآخر فهو ثقافي بحت. فمن حق القراء علينا، نحن الكتاب، ممن أتيحت لهم فرصة التنقل في هذا الكون أن ننقل صورة صادقة لشعوبنا العربية عن نماذج متقدمة من الدول الراقية الناهضة في كافة المجالات، والمحروم من زيارتها غالبية شعوبنا لضنك في العيش أو لحرية مقيدة أو لصورة ذميمة مخيفة عممها عن العرب أعداء الأمة التاريخيون وحلفاؤهم المحليون من التكفيريين والظلاميين أكلة أكباد البشر ومطلقي النار على أصحاب الرأي المخالف وهادمي التماثيل التاريخية والمقامات المقدسة، حتى أصبح الحصول على تأشيرة أقرب إلى المستحيل لبعض الجنسيات العربية المعنية بالثقافة والعلم والسفر. دولة أكبر من حجمها العبرة ليست في حجم الدولة وعدد سكانها، بل في هامش الحرية والمواطنة المتساوية وسيادة القانون الذي يقف على مسافة واحدة من الجميع وفرص الإبداع المفتوحة بالتساوي وتأمين الخدمات الأساسية والعمل على كل ما يؤدي إلى السعادة لكل أبناء الشعب ومدى استناد القيادة إلى قاعدة متينة من الدعم الشعبي المرتكز على دستور شارك في كتابته ومراجعته وإقراره كافة شرائح الشعب وقياداتها. فقد يكون المواطن في بلد صغير مثل كوستا ريكا أو لكسومبورغ أو أوروغواي أكثر سعادة وفاعلية من مواطن في بلد مثل الصين أو الاتحاد الروسي أو نيجيريا أو باكستان . كوستا ريكا نموذج للدولة الفاعلة الناشطة رغم صغرها، فسكانها نحو أربعة ملايين ونصف ومساحتها ثلاثة أضعاف مساحة الكويت أو أكثر قليلا من نصف مساحة الأردن. استقلت كوستا ريكا عن إسبانيا عام 1821 وترسخت فيها الديمقراطية منذ عام 1949 إلى هذه اللحظة من دون تعثر، وقد عقدت 13 جولة انتخابية في الوقت المحدد، من دون أي تزوير أو عنف أو تدخل أو ضغط. ترأس البلاد الآن السيدة لورا شانشيلا منذ مايو 2010 التي انتخبت لدورة واحدة فقط لمدة أربع سنوات، لا يجوز لها أن تترشح ثانية إلا بعد الخروج من الرئاسة لدورة واحدة على الأقل. ولأن كوستا ريكا دولة مستقرة تماما استطاعت أن تلعب دورا أكبر من حجمها على المستويين الإقليمي والدولي، فقد انتخبث ثلاث مرات لعضوية مجلس الأمن غير الدائمة، ومنحت جائزة نوبل للسلام لرئيسها السابق أوسكار أرياس عام 1987، الذي ساهم في توصل حكومة السلفادور وجبهة التحرير الوطنية إلى اتفاقية سلام أدت إلى انتهاء الصراع هناك ودخول البلاد مرحلة الاستقرار، كما اختارت الأممالمتحدة عاصمة البلاد سان خوزيه مقرا لجامعة السلام. وساهمت كوستا ريكا في إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، وانتخب أوسكار أرياس عضوا في أول مجلس أمناء المحكمة، كما لعبت كوستا ريكا دورا رياديا في إنشاء محكمة حقوق الإنسان لدول أمريكا اللاتينية. وما زالت الدولة من أنشط دول العالم في موضوع حماية البيئة والتنمية الرشيدة، ويصل معدل دخل الفرد إلى12.600 دولار سنويا وتحتل الموقع 62 على مؤشر التنمية البشرية. وأود أن أشارك القراء في ثلاثة مواضيع ذات أهمية كبيرة بالنسبة لنا قد نتعلم منها شيئا لمستقبل دولنا عندما تدخل مرحلة الاستقرار، التي لا تبدو قريبة المنال. دولة بلا جيش قد تكون كوستا ريكا أول دولة في العالم قررت أن تحل الجيش في شهر نوفمبر 1949 بعد محاولة لاستخدام العسكر في انتخابات رئاسية لصالح طاغية لا يريد الإقرار بالهزيمة، مما أدى إلى ما يشبه الحرب الأهلية لمدة 44 يوما ذهب ضحيتها نحو 2000 قتيل. بعد انتصار الشرعية قررت قيادة الجيش والقيادة المدنية أن تحل الجيش وأن تكتفي البلاد بقوات الأمن الداخلي والشرطة، وبالتالي دخلت البلاد مرحلة الاستقرار، لتصبح كوستا ريكا من أوائل 22 دولة في العالم تتمتع بديمقراطية مستقرة منذ عام 1950 وحتى الآن. تحولت ميزانية الجيش الكبيرة إلى الاستثمار في التعليم والصحة لتصل نسبة التعليم في البلاد إلى 98′. وتبلغ نسبة ما تصرفه الدولة على أمن البلاد 0.8′ وهي من أقل النسب في العالم. إن حل الجيش يعكس قرارا تاريخيا غير مسبوق اتخذه الشعب وقياداته السياسية والعسكرية، بأن البلاد ستعيش في حالة سلام دائم مع نفسها ومع جيرانها. ومن ينظر إلى مشاكل أمريكا الوسطى في العقود الستة الماضية يدرك معنى أهمية الاستقرار في هذا البلد قياسا لما جرى في نيكاراغوا والسلفادور وبنما وغواتيمالا. وبالنسبة للصحة فقد تفوقت كوستا ريكا على الولاياتالمتحدة في معدل العمر المتوقع، حيث يصل هنا إلى 79.3 سنة. وقد وضعت مؤسسة الاقتصاديات الجديدة التي تقيس نسبة السعادة على المستوى العالمي كوستا ريكا في المرتبة الأولى في العالم لعام 2009 ومرة أخرى لعام 2012. وقد صنف النظام الصحي في البلاد في مرتبة أعلى من الولاياتالمتحدة، حسب مؤشرات قياس المستوى الصحي المتبعة عالميا، كتحصين الأطفال والخدمات الصحية المقدمة للاطفال والنساء الحوامل، ونسبة أسرة المستشفيات والأطباء قياسا مع عدد السكان. وتخصص كوستا ريكا نسبة 10.9′ من مجموع دخلها القومي للصحة لتحتل بذلك المرتبة 22 في العالم. دولة صديقة للبيئة كوستا ريكا من أغنى الدول في العالم في التنوع البيولوجي، حيث تصل النسبة إلى 5′ من مجموع كافة الثروة البيولوجية في العالم، وهي من أعلى النسب قياسا لحجمها الصغير. وهناك نباتات وحيوانات وطيور عديدة مهددة بالانقراض لولا السياسة الحكيمة التي اتبعتها البلاد في حماية البيئة، حيث تصل نسبة الأراضي المحمية إلى 25′ من مساحة البلاد، وهي أعلى نسبة في العالم، حيث لا يتجاوز المعدل العالمي 13′. وقد انضمت كوستا ريكا إلى كافة المعاهدات الدولية المتعلقة بالبيئة، واستطاعت أن توقف تماما استهلاك وقطع أشجار الغابات بحلول عام 2005. والبلاد موئل لحيوانات غريبة يمكن مشاهدتها أثناء زيارة المحميات الطبيعية، مثل القرود والسعادين الغريبة المهددة بالانقراض، وأنواع غريبة من الضفادع والفراش، حيث تنتشر في البلاد حدائق مخصصة للفراش لحمايتها من جهة ولتصبح مزارا للسياح من جهة أخرى. وهناك 18000 نوع من الفراش و840 نوعا من الطيور تم حصرها في هذه البلاد. وقد تم تصنيف كوستا ريكا الدولة الخامسة في العالم في مؤشر صداقة البيئة والدولة الأولى على مستوى الأمريكتين الشمالية والجنوبية، حسب مؤشر الأداء البيئي لدول العالم. وتحاول كوستا ريكا عبر برنامج طموح أن تكون أول دولة في العالم تتخلص تماما من استخدام المواد الباعثة لثاني أوكسيد الكربون بحلول عام 2021 . ورحلة في الحديقة الوطنية الواقعة في بلدة مانويل أنطونيو قرب مدينة كابوس الواقعة على المحيط الأطلسي في وسط البلاد تفتح لك صفحات من جمال الطبيعة الأصيل وغير المشوه، حيث تشاهد بأم العين القردة الغريبة والطيور الملونة النادرة والأفاعي الصفراء الغريبة والضفادع الضخمة وأنواعا من الأشجار والنباتات الغريبة لا تحصى. لقد تحول الحفاظ على البيئة ثقافة شعبية في البلاد، فلا أحد يقطع زهرة ولا أحد يلقي حجرا على حيوان، ولا أحد يتطوع بتقديم أطعمة للحيوانات البرية التي قد تضر بها، ولا أحد يرمي عقب سيجارة من يده ولو حدث شيء من هذه المسلكيات تأكد أن ذاك الشخص سائح غريب لا يقدر قيمة البيئة والمحافظة عليها. علاقات كوستا ريكا بإسرائيل أذكر في منتصف السبعينات مقالا كتبته صحيفة (هآرتس) الإسرائيلية كسب شهرة واسعة تحت عنوان: "إترك لنا كوستا ريكا يا أبا عمار". وكان المقال تعليقا على عدد الدول التي قطعت علاقاتها مع إسرائيل بعد حرب 6 أكتوبر 1973 المجيدة، واعتراف تلك الدول بمنظمة التحرير الفلسطينية وفتح مكاتب لها مقابل إغلاق السفارات الإسرائيلية، فقد كانت العلاقات الإسرائيلية مع كوستا ريكا جد حميمية. كوستا ريكا كانت من أوائل الدول التي اعترفت بإسرائيل وكان مندوبها في غالب الأحيان يصوت لصالح الموقف الأمريكي الإسرائيلي ومن بين الدول القليلة جدا التي أقامت سفارتها في القدس الغربية، لكن الأمور تغيرت ليس بسبب النشاط العربي، ولكن البلاد خاصة في دورة رئاسة أوسكار أرياس الثانية (2006-2010) مالت إلى التوازن أكثر وأكثر. لقد تم نقل السفارة من القدس الغربية إلى تل أبيب عام 2006 وبدأت تصوت كوستا ريكا لصالح السلام وإقامة الدولة الفلسطينية، وقد كانت من بين الدول ال107 التي صوتت لصالح الاعتراف بفلسطين دولة كاملة العضوية في اليونسكو بتاريخ 1 نوفمبر 2011، كما كانت من بين الدول ال138 التي صوتت لصالح الاعتراف بفلسطين دولة غير عضو في الأممالمتحدة بتاريخ 29 نوفمبر 2012. نستطيع أن نبني على هذا التوازن ونقيم علاقات أفضل مع دولة صغيرة الحجم، لكنها دولة فاعلة على كافة المستويات الإقليمية والدولية. وللعلم فإن الجالية اليهودية في هذه البلاد صغيرة جدا وقد لا يتجاوز عددها الثلاثة آلاف لكنها فاعلة ونشيطة، والنائب الثاني لرئيسة الجمهورية السيد لويس ليبرمان هو من أبناء تلك الجالية الصغيرة. آمل أن تصل هذه الرسالة لأصحاب القرارت السياسية والاقتصادية والبيئية ليمدوا جسورا مع دول أمريكا الوسطى، خاصة كوستا ريكا الدولة الناهضة في كل المجالات، لأنها ببساطة عرفت طريق الاستقرار الذي ما زلنا نبحث عنه في منطقتنا العربية ونستطيع أن نتعلم منها الكثير. --- * أستاذ جامعي وكاتب عربي مقيم في نيويورك