في بلادنا العربية الإسلامية، غالبية اللادينيين، وفي مقدمتهم الحاقدون، إديولوجيا وعقديا، على الإسلام والإسلاميين، كانوا دائما، سرا أو علانية، متحالفين أو متفاهمين أو منسقين مع الأنظمة الاستبدادية في مختلف أشكالها وصورها. ومواقف اللاإسلاميين، بمختلف مشاربهم وتياراتهم، من الانقلاب العسكري الفاضح الذي تم في مصر يوم 3 يوليوز2013، قد بلغت من الدناءة واللؤم والافتراء والتلفيق والإشاعات والمغالطات مبلغا لا أظن أن أحدا قد وصله من قبل. ورغم هذه المواقف المخزية التي فضحت اللاإسلاميين على مرأى ومسمع من العالم كله، فإن القوم، فيما نرى ونسمع، لم يعد لهم "وجهٌ" يدعوهم للحفاظ على مائه، ولا أخلاق تمنعهم من التمادي في غيهم وبغيهم، ولا مبادئ وقيم ومروءة تقف بهم عند حدود الإنصاف والعقل لا تتعداها. لقد جرّد الكتَبَة-ومنهم طارئون مبتدئون في صناعة الكتابة- أقلامَهم للدفاع عن الانقلاب العسكري اللئيم في مصر، وكأنهم أُنشِئوا إنشاء للدفاع عن الباطل، وتسويغه للناس، مهما بلغت حججهم في فراغها وضحالتها وحقارتها وسفاهتها ولاشيئيتها؛ المهم هو أن ما وقع في مصر حق ما بعده حق، وأنه الصواب بعينه، وأنه استعادة ل"شرعية الشعب"، التي اختطفها "الإخوان"، وأنه الجنة بعد جحيم "حكم المرشد". والحقيقة التي باتت معروفة للجميع، هو أن هؤلاء الكتبَةَ-البالغون منهم والمراهقون- إنما يفعلون ما يفعلون، لأنهم يرفضون الإسلاميين، ويودون لو تنشق الأرض فتبلعهم عن بَكْرَة أبيهم، حتى يتخلص وجه الأرض منهم. والمتابع للإعلام الانقلابي، في مصر، الذي بات ينقل رأيا واحدا فقط، وهو رأي العسكر ومواليه، بعد أن أسكت الانقلابيون الجبناء اللؤماء كل الأصوات المعارضة بإغلاق جميع المنابر التابعة أو التي يشتم منها التعاطف مع الإسلاميين ومع الشرعية الديمقراطية الوحيدة التي كان يمثلها الرئيس محمد مرسي، الذي ما يزال، إلى اليوم، في عداد المخطوفين، لأنه لا أحد من الناس يعرف شيئا عن مصيره بعد الانقلاب عليه- المتابع للإعلام الانقلابي، والقنوات الخاصة في المقدمة، لا بد أن تتملكه الدهشة والمرارة بسبب ما يرى ويسمع من هذا الإعلام، الذي عاد في رمشة عين إلى ما كان عليه أيام الطاغية مبارك؛ فلا ترى ولا تسمع إلا البهتان والتلفيق ونقل ربع الحقيقة، وتزوير ثلاثة أرباعها الأخرى، هذا إلى جانب خطاب التحريض والإقصاء والكراهية والحرب على كل ما له علاقة بالإخوان المسلمين، وكأنهم ليسوا مواطنين مصريين، وكأنهم لم يفوزوا في الانتخابات بالأغلبية، وكأنهم لم يكونوا على رأس ضحايا نظام مبارك المستبد الفاسد، وكأنهم غرباء لا يريدون بمصر وأهلها إلا الشر!! ما يزال أنصار الانقلاب يجدون الجرأة للحديث عن الحرية والديمقراطية، وهم-كما يظهر من مواقفهم وأقوالهم- من أشد الناس عداء للحرية والديمقراطية، لأنهم لا حرية، عندهم، ولا ديمقراطية، إلا إذا كانت ضد الإسلاميين. وما يزالون يتحدثون عن الدولة المدنية بلا حياء، وهم-كما بينَتِ الأحداث بعد انقلاب 3 يوليوز- من أشد الناس رفضا ومعارضة للدولة المدنية الحقيقية، ومن أشدهم دفاعا عن الدولة البوليسية الاستبدادية الاستئصالية، لأنها الدولة التي لا يكون فيها للإسلاميين وجود إلا في المعتقلات والمنافي والحصار وغيرها من صور الظلم والمنع والقمع. وما يزالون-بلا حياء- يتحدثون عن الانتخابات، وهم يقبلون بوقاحة لا نظير لها أن ينصب الانقلابيون رئيسا على هواهم، يأمرونه بما يريدون وما يشتهون، وأن يُفرض على الناس "إعلان دستوري"، حرر بليل، لم يطلب فيه رأيهم، لا باستفتاء ولا بغيره، وكأنه "قرآن منزل". وقد قبلوا قبل هذا أن يقوم العسكر بتنحية الرئيس الشرعي المنتخب بالقوة، وإعلان "خارطة طريق"، على مزاجهم، فيما يخص سير الدولة ومستقبلها السياسي. يتحدثون، بلا حياء، عن الانتخابات، والدنيا كلها تعلم أن الإسلاميين في مصر، بعد ثورة 25 يناير2011، فازوا في خمسة انتخابات، منها الاستفتاء على الدستور، التي حقق نسبة قبول تعدت الستين في المائة. ثم جاء الانقلابيون، ومن ورائهم الديمقراطيون المزوَّرون، فجمدوا العمل بالدستور الشرعي، وحلوا مجلس الشورى، وأوقفوا العمل بكل ما له علاقة بالشرعية الدستورية الديمقراطية، وفرضوا شكلا جديدا/قديما من الحكم يقوم على الهوى والاستبداد والمنع والقمع. وبلا حياء دائما، ما يزالون يتحدثون عن التعدد وعدم الإقصاء، والعالم كله قد علم وسمع وشاهد، طيلة الفترة التي قضاها محمد مرسي في الرئاسة، أن الحريات، بمختلف مظاهرها، قد بلغت حدا غير مسبوق، إلى درجة أن الرئيس المنتخب أصبح، في منابر كثير من المعارضين، موضوعا للتجريح الشخصي، وللهمز والغمز، بل موضوعا للافتراء والطعن بالباطل، ومع كل هذا لم يصدر عن الرئيس، ولا عن حكومته، قرار بالمنع أو القمع أو الإغلاق. بل يحسب للرئيس أنه أسقط كل العقوبات الحبسية في حق الصحافيين، ومن هؤلاء من بلغ مستوى كبيرا في الحقارة والدناءة، في التطاول على شخص الرئيس بما يتصور ولا يتصور من الإشاعات والافتراءات والاتهامات الباطلة والتجريحات الساقطة. ومع ذلك، لم يكن من الرئيس المنتخب، ولا من حكومته، رد فعل قمعي أو عقابي انتقامي. وحتى الحالات التي كانت الحكومة تلجأ فيها إلى القضاء، فإن هذا القضاء، في الجزء الموالي لعهد مبارك ورموزه، كان يقوم بتبرئة المتهمين، إلى درجة الفضيحة والعار، التي ستظل تلاحق أولئك القضاة المتحيزين ضد مؤسسات الدولة الشرعية، وحكومتها وسائر أجهزتها وإداراتها. ويكفي أن تنظر اليوم، في ظل الانقلاب الغاشم، ما يفعله هذا القضاء المتحيز للانقلاب والانقلابيين بالمعارضين، وخاصة من صفوف جماعة الإخوان المسلمين. وقد يكون الغد أسوأ من اليوم إذا ما تمادى الانقلابيون في غيهم وبغيهم، وأصروا أن يرجعوا بالمصريين إلى الوراء، إلى زمن القيود والسدود، وهيهات هيهات. لقد أصبح كل شيء مباحا في محاربة الإسلاميين والبغي عليهم، وإن كانوا قد فازوا، ديمقراطيا، بالأغلبية من أصوات الناخبين، في ظروف ظللتها الحريات المطلقة والإعلام المفتوح. وبلا حياء دائما، يتحدث بعض الكتبة الموالين للانقلابيين، الذين باتوا يقتلون معارضيهم بدم بارد، كما حدث في مذبحة "الفجر" أو "الساجدين"، حينما أطلقت قوات الانقلابيين النار على المعتصمين في صلاة الفجر، فسقط منهم أكثر من خمسين شهيدا- قلت يتحدث بعض الكتبة المعادين للإسلاميين- ومنهم ملحدون مناضلون يبغضون الإسلام ويسعون بكل جهدهم لئلا تقوم له قائمة في بلاد المسلمين- عما يسمونه "شرعية الشارع"، وهم يقصدون من خلال اللف والدوران واللعب بالكلمات "شرعية الغوغاء" والفوضى وتمزق النسيج الاجتماعي وسيادة "قانون الغاب". وهذا الكلام عن "شرعية الشارع" بات بديلا عندهم عن شرعية الانتخابات، التي فشل فيها معارضو الإسلاميين أن ينالوا ثقة غالبية الناخبين، فلم يقبلوا بالنتيجة الديمقراطية التي حكمت عليهم، بكل نزاهة وشفافية وعدل، بأنهم أقلية، وأن عليهم أن يكونوا ديمقراطيين حقيقيين، وأن يمارسوا دورهم في المعارضة السياسية الحقيقية أيضا، ويستعدوا للجولة القادمة من الانتخابات، ليختبروا أنفسهم مرة أخرى، وليعرفوا من خلال الصناديق وحدها قدرهم وحجمهم ووزنهم الشعبي الحقيقي. محمد البرادعي، مثلا، سقط في الانتخابات، أي أن غالبية الشعب رفضته، وها هو ذا اليوم-ويا للمذلة والعار- وفي ظل حراب العسكر، يعين نائبا للرئيس/الدمية الذي أتى به الانقلابيون على هواهم. أليست هذه فضيحة لهؤلاء الذين يسمون أنفسهم ب"الديمقراطيين الليبراليين"، والديمقراطية والليبرالية عند قومهما الأصلاء بريئة من البرادعي وأمثاله من السياسيين الفاشلين، الذين يحبون أن يأتوا إلى الكراسي عبر الدبابات وسفك دماء المواطنين، وبئس ما يحبون. الشارع اليوم، وخاصة في الدول التي تصل فيها نسب الأمية والفقر إلى أرقام قاسية، يسهل إثارته وتحريضه وتخديره واللعب بإرادته بالإعلام المتحيز الفاسد، والمال السياسي الحرام، والإشاعات والتأليبات وتحريك النعرات، وغيرها من وسائل الحشد والتجميع والتأليب، فضلا عن توظيف المجرمين وأصحاب السوابق الجنائية، وهم بمثابة جيش احتياطي في مصر، يسمون بالبلطجية، كان نظام الطاغية حسني مبارك-وما يزال أتباعه وفلوله وذيوله- يعتمد عليهم اعتمادا رئيسيا وحاسما في إدارة معارك الشوارع والتجمعات الجماهيرية. وما من نظام ديكتاتوري استبدادي في الدنيا إلا وله "بلطجيته". وقد خبرنا، عندنا في المغرب، بلطجية النظام المخزني في عدة مناسبات، في "عهد تازمامارت" الماضي، و"عهد تازمارة" الحالي. فإن كان المعارضون الموالون للانقلابيين يزعمون أن ما يقرب من ثلاثين مليونا من المصريين مع انتفاضتهم ضد حكم الرئيس المنتخب محمد مرسي، الذي يصفونه-استهزاء وطعنا وإدانة-ب"حكم المرشد"، فماذا كان يمنعهم-إن كانوا ديمقراطيين حقيقيين كما يدعون- أن ينتظروا الانتخابات التشريعية، التي كانت على الأبواب، فيثبتوا، ديمقراطيا، وبالانتخابات الحرة الصافية من غبش الغش والتزوير والسطو وأعمال البلطجة، أنهم باتوا أغلبية شعبية، ومن ثَمَّ بات من حقهم أن يشكلوا الحكومة ويبدأوا في تنفيذ برامجهم في مختلف القطاعات؟؟ إن كان هؤلاء الديمقراطيون المزوَّرون يدعون أن معهم كل هذه الملايين من الشعب، فلماذا سارعوا إلى الدخول تحت راية الانقلابيين، وباتوا لهم بوقا في كل المناسبات والاتجاهات؟ لقد كتبت في أكثر من مناسبة أن من أكبر عقد المعارضين للإسلاميين، في مصر وفي غير مصر، أنهم يعانون من هاجس يلازمهم ليل نهار، وهو شعورهم بأنهم سيظلون دائما أقلية في مواجهة الإسلاميين في أي انتخابات، ومن ثَمّ فإن المخرج السليم والمريح عندهم هو التشويش والتأزيم والعرقلة حتى لا تكون هناك انتخابات، أو أن تجري انتخابات بلا إسلاميين، أو أن يَفرضوا أنفسهم على الناس بالدبابات والقمع والمنع وسائر صفات الدولة الديكتاتورية ومميزاتها، وهذا هو ما يقع في مصر اليوم؛ أغلبيةٌ شرعية منتخبة تتم تنحيتها بالقوة، وأقليةٌ فاشلة خاسرة تأتي على ظهر الدبابة، ويقدمها الإعلام الفاجر الجبان على أنها المتحدثة باسم الشعب!! أي ظلم هذا، وأي انحطاط، وأي سقوط؟؟ و"إنا لله وإنا إليه راجعون". ولا بد في الأخير من تحية خاصة إلى كل المناضلين الشرفاء، من كل المشارب والإديولوجيات والاتجاهات، الذين لم يترددوا في إدانة الانقلاب العسكري على الشرعية الديمقراطية في مصر-وإن كانوا في إديولوجيتهم ومعتقدهم ضد الإخوان المسلمين- وعبروا، بلا لبس ولا روغان، عن موقفهم الواضح ضد كل الأساليب التي تريد أن ترجع بنا إلى ما قبل زمان الربيع العربي، وما يزالون يناضلون، كل حسب زاوية نظره واختياره واجتهاده، من أجل الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، التي تكون فيها الكلمة الأولى والأخيرة للشعب من خلال انتخابات نزيهة، يتمتع فيها جميع المواطنين بكل حقوقهم وكامل حرياتهم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.