في الوقت الذي أفرزت فيه الانتخابات الأمريكية أوباما رئيسا لولايته الثانية والأخيرة، رغم عدم تنصيص الدستور الأمريكي على تحديد عدد المرات التي يحق للرئيس أن يتولى فيها الرئاسة، وإنما ذلك مجرد عرف دستوري ارتأى جورج واشنطن أن يهديه للنظام السياسي الأمريكي برفضه الترشح للمرة الثالثة، وبقي هذا العرف قائما إلى يومنا هذا (باستثناء فترة حكم روزفلت حيث ترأس الولاياتالمتحدةالأمريكية ثلاث مرات نظرا لظروف الحرب العالمية). نقول أنه في الوقت الذي تؤسس فيه الأنظمة السياسية لمبادئ وأعراف تدعم بها النظام الديمقراطي، فإن النظام السياسي المغربي، بمختلف تجلياته، مستمر في إفراغ الدستور- غير المجمع عليه أصلا – من محتواه الايجابي. فالمتتبع للشأن الدستوري المغربي لا يسعه إلا أن يستغرب ويستنكر حالات خرق الدستور وعدم تطبيق مضامينه، كما يستنكر التنازلات المتكررة عن الصلاحيات التي يتيحها الدستور، والتي يقدم عليها جل المسؤولين، إن لم نقل كلهم، وهم المفترض فيهم السعي إلى احترام شكليات القانون فضلا عن مضمونه وروحه. لقد حدث هذا قبل الدستور الحالي (غير الدستوري) ويستمر بعده. الكل يتذكر تعيين السيد أبو درار رئيسا لهيئة لوقاية من الرشوة من قبل الملك رغم أن المرسوم المحدث للهيئة ينص بالحرف على أن تعيين رئيس هذه الهيئة من صلاحيات الوزير الأول. فالمادة 3 من المرسوم رقم 2.05.1228 الصادر في 13 مارس 2007 ينص على أن «الهيئة تتألف من جمع عام ولجنة تنفيذية وكتابة عامة، وترأسها شخصية مشهود لها بكفاءتها وحنكتها واستقامتها يعينها الوزير الأول لمدة 6 سنوات غير قابلة للتجديد». وشخصيا، أتذكر أن شخصيات من حزب العدالة والتنمية استنكرت هذا التعيين مطالبة باحترام الدستور والقانون، وفي هذا الصدد جاء مقال الأستاذ عبد العالي حامي الدين المعنون ب"احترام الدستور والقانون" المنشور بجريدة المساء بتاريخ 10-09-2008. والذي تساءل فيه عن « كيف يتم تجاوز منطوق القانون ولا يحرك أحد ساكنا؟ هل يمكن أن يقع هذا في بلد ديمقراطي؟ ما الذي منع الوزير الأول من مباشرة عملية التعيين المخولة له قانونا؟ ولماذا زهد في ممارسة اختصاصاته القانونية وصلاحياته الدستورية؟ هل هناك عوائق سياسية غير معلنة تحول دون ممارسته لصلاحياته؟ ما هي؟ وما هي طبيعتها ومن يقف وراءها وما هي الآليات المعتمدة لتصريفها؟». وهي نفس الأسئلة التي سنطرحها اليوم على من يتنازل عن صلاحياته في تعيين رؤساء مجموعة من الهيئات الدستورية، وتركه ذلك للملك في غياب أي نص دستوري أو قانوني؟ ولماذا سكت المدافعون عن القانون ودولة القانون عن الخروقات المتعددة للدستور وآخرها الصمت عن وضعية الشرود التي يعيشها مجلس المستشارين، والتي يسهم من خلالها هذا المجلس في خرق الدستور والقوانين وإهدار المال العام؟ لقد تطرقنا في دراسات سابقة لبعض الخروقات الدستورية وسنتطرق في هذه الدراسة لمسألة تعيين رؤساء هيئات الحكامة. تطرح مسألة التعيينات الأخيرة في صفوف العديد من المؤسسات الحيوية، مجموعة من الإشكالات الدستورية، فعلى الرغم من أن الدستور المغربي الجديد دخل حيز التنفيذ لمدة تجاوزت السنة، إلا أن بعض التعيينات جرت على ضوء الدستور القديم، كما أنها لا تتماشى ومبادئ الدستور الجديد. وكان التعيين الأخير لإدريس جطو (وقبله تعيين أمينة لمريني رئيس للمجلس الأعلى للاتصال السمعي-البصري، وهناك إجراءات من أجل تعيين المجلس الاستشاري للشباب) من ضمن التعيينات التي ناقضت قاعدة ربط المسؤولية بالمحاسبة وهو ما يضرب في العمق فكرة التنزيل الديمقراطي للدستور. فهل يكفي تنصيص الدستور على أكثر من 10 مؤسسات ونعتها بهيئات الحكامة لكي نبرز ديمقراطية نظام الحكم؟ أم أن العبرة بمضمون تلك المؤسسات وبالروح والقيم التي تسودها والمرجعية السياسية والفسلفية التي تؤطرها؟. فتعيين السيد إدريس جطو في منصب رئيس المجلس الأعلى للحسابات جرى بناء على الفصل 30 من الدستور القديم والذي ينص على أن «الملك هو القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية، وله حق التعيين في الوظائف المدنية و العسكرية كما له أن يفوض لغيره ممارسة هذا الحق» وكان من الطبيعي أن يأتي تعيين رئيس المجلس الأعلى للحسابات متوافقا ومنطق هذا النص، إذ أن المجلس مؤسسة مدنية ومن البديهي –حسب الدستور القديم- أن يعين الملك رئيسها. ولكن الدستور الحالي لم يختص الملك بالتعيين في جميع الوظائف المدنية، وإنما حدد ذلك بنصوص الدستور أو أحاله على النصوص التنظيمية ولم يستثني أي مؤسسة من ذلك أو وظيفة. فبالرجوع إلى النص الدستوري نجد في الفقرة الأخيرة من الفصل 49 «التعيين باقتراح من رئيس الحكومة، وبمبادرة من الوزير المعني، في الوظائف المدنية لوالي بنك المغرب، والسفراء والولاة والعمال، والمسؤولين عن الإدارات المكلفة بالأمن الداخلي؛ والمسؤولين عن المؤسسات والمقاولات العمومية الإستراتيجية. وتحدد بقانون تنظيمي لائحة هذه المؤسسات والمقاولات الإستراتيجية»، فالدستور حدد بالاسم المؤسسات التي يعين فيها الملك باقتراح من رئيس الحكومة أو أحال تحديد المؤسسات الإستراتيجية للقانون التنظيمي الذي يشرعه البرلمان، فضلا عن الوظائف العسكرية والدينية التي أعطى الدستور الحق للملك حق التعيين فيها بشكل متفرد ودون اقتراح من رئيس الحكومة كما هو منصوص عليه في الفصول 41 و42 من الدستور، ورئيس المحكمة الدستورية ونصف أعضائها، والمصادقة على تعيين القضاة ورئاسة السلطة القضائية، وكل ما يتعلق بمجلس الوصاية. وبالعودة أيضا إلى القانون التنظيمي رقم 02.12 المتعلق بالتعيين في المناصب العليا، لا نجد من ضمن هذه المناصب رئيس المجلس الأعلى للحسابات أو هيئات الحكامة، وبالتالي فإنه لا يوجد أي نص قانوني يمنع رئيس الحكومة من تعيين رئيس المجلس الأعلى للحسابات ورؤساء مؤسسات الحكامة أو يعطي للمك الحق في تعيينهم دون الرجوع إلى المجلس الوزاري. فأن يتم اعتبار هذه المجالس «دستورية» ويستغل الفراغ القانوني لسحبها من مجال التعيين الذي يختص به رئيس المجلس الحكومي أو المجلس الوزاري باقتراح من رئيس الحكومة، فذلك محض اجتهاد صب في إضافة هذه الهيئات إلى مجمل المؤسسات التي أقر الدستور صراحة اختصاص الملك بتعيين رؤسائها، علاوة على المؤسسات التي حددها القانون التنظيمي (39 مؤسسة)، وهو اجتهاد وظف سكوت الدستور عن جهة تعيين مؤسسات الحكامة لصالح ضمها للائحة المؤسسات المعينة من قبل الملك. وهم ما يمكن انتقاده من عدة أوجه قانونية. أولا : إن الهيئات المنصوص عليها في الباب 12 المعنون ب«الحكامة الجيدة» والتي خصصت لها الفصول (161-162-163-164-165-166-167- 168-169-170) هي على التوالي، المجلس الوطني لحقوق الإنسان ، الوسيط، مجلس الجالية المغربية بالخارج، الهيأة المكلفة بالمناصفة ومحاربة جميع أشكال التمييز، الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، مجلس المنافسة، الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، المجلس الاستشاري للأسرة والطفولة، المجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي. والتي لم يحدد الدستور طريقة تشكيلها ولا كيفية تعيين رئيسها، وإنما ترك ذلك للقانون، حيث نص الفصل 171 على أن «يحدد بقوانين تأليف وصلاحيات وتنظيم وقواعد تسيير المؤسسات والهيئات المنصوص عليها في الفصول 160 إلى 170من هذا الدستور، وكذا حالات التنافي عند الاقتضاء» وهو الأمر الذي لا يمكن أن نستنتج من خلاله، بأي حال من الأحوال، أن رؤسائها يعينون من قبل الملك. بل إن تعيينهم من قبل رئيس الحكومة أو باقتراح منه هو ما يتوافق وروح الدستور بناء على مبدأ «ربط المسؤولية بالمحاسبة»؛ ثانيا: إن ارتكاز بعض القراءات على مسألة استقلالية هيئات الحكامة الواردة في الفصل 159 من الدستور، لضمها للمؤسسات المعينة بمسؤولية الملك، لا يعدو (الارتكاز) أن يكون مجرد رغبة في إفراغ الدستور من محتواه والابتعاد عن مفهوم التنزيل الديمقراطي للدستور، ومخالفة للمبدأ الدستوري القاضي بربط المسؤولية بالمحاسبة. فالاستقلالية مطلوبة في جميع المؤسسات سواء كان التعيين فيها من قبل الملك أو من قبل غيره. إذ أنها (الاستقلالية) لا تعني عدم التعيين من قبل رئيس الحكومة أو غيره، وإنما تفهم في المجال الاداري والسياسي بما هي قدرة على إنجاز الأعمال بغض النظر عن الضغوطات الخارجية أو الداخلية، واحترام القوانين المنظمة للمهمة الموكولة للشخص أو للمؤسسة دون خضوع لجهة التعيين. أما إذا أراد البعض فهم استقلالية الهيئات بما هي استقلالية عن جهة التعيين فهذا ما يقبله عقل ولا قانون. فهل يعني هذا أن كل رئيس معين من قبل الملك محصن، بالضرورة، ضد أية ضغوط؟ أم أن كل رئيس مؤسسة معين من قبل رئيس الحكومة هو غير مستقل بالضرورة؟ فماذا نصنع حيال المؤسسات التي سيعين مسؤوليها رئيس الحكومة كالجامعات والأكاديميات.... فهل سنتهمها بعدم الاستقلالية؟ وماذا عن وزارة الداخلية، مثلا، التي يرأسها زعيم حزب سياسي ومع ذلك تناط بها مهمة السهر على أمن المغاربة بل والإشراف على العملية الانتخابية المسيسة بالطبيعة؟؛ ثالثا: إن عدم تمكين مؤسسة رئاسة الحكومة من حق تعيين رؤساء هيئات الحكامة، فضلا عن أنه يضرب في العمق المحاسبة السياسية عبر صناديق الاقتراع، فإنه يحرم هذه المؤسسة من أدوات تنفيذية من شأنها مساعدتها على القيام بالمهام الموكولة إليها. فمحاربة الرشوة ورعاية حقوق الإنسان والنهوض بالتعليم والإعلام والسهر على شؤون المهاجرين المغاربة... وغيرها من المهام، هي من مسؤولية الحكومة التي ستحاسب عنها عبر صناديق الاقتراع في أول انتخابات؛ رابعا: إن اللوم يوجه أيضا إلى رئاسة الحكومة التي تنازلت عن صلاحياتها، بله وكرست هذا التنازل من خلال إجراءات قانوينة وسياسية ويتجلى ذلك بوضوح في المخطط التشريعي الذي أشرفت عليه الحكومة (الأمانة العامة)، ويتعلق الأمر بالاجتهاد الفريد الذي سيدخل بموجبه الديوان الملكي إلى قاعات البرلمان. فرغم أن مؤسسات الحكامة الواردة في الدستور جاءت تحت عنوان واحد ودون تمييز، إلا أن الحكومة أو بالأحرى الأمانة العامة ميزت بينها في المخطط التشريعي ، دون ذكر أو إشارة إلى المعايير والمقاييس التي تم الاستناد إليها من أجل هذا التمييز. إذ قسمت هيئة الاشراف على مشاريع القوانين التي تمس هذه الهيئات على أربع جهات وهي: الديوان الملكي (مثاله، مؤسسة الوسيط )؛ رئاسة الحكومة (مثاله، هيئة المنافسة)؛ لجنة خاصة (مثاله، الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري)؛ الوزارة المعنية (مثاله، الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة). فهل ينتقل أعضاء الديوان الملكي إلى البرلمان من أجل مناقشة المشاريع التي أعدوها سواء داخل اللجان أو بالجلسات العامة، وهل من سند دستوري لذلك؟؛ من هنا، وجب احترام روح الدستور ونصوصه، والابتعاد عن المهام التنفيذية التي هي من صميم عمل الحكومة، وإلا فإنها غير مسؤولة قانونيا وسياسيا أمام الشعب عن أعمال تلك المؤسسات، وإنما تتحمل مسؤوليتها الجهة التي عينت رؤسائها. ومن تم تصبح لدينا سلطة تنفيذية برأسين حيث تضيع فرصة المحاسبة وتتوزع المسؤولية بين أكثر من طرف ويتيه المواطن وتفسد الادراة ويعم اليأس. وأما النتائج فلا داعي للتذكير بها، فهي أصبحت معروفة لدى الجميع. باحث في القانون الدستوري وعلم السياسة هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.