أثار مشروع القانون التنظيمي رقم 02.12 العديد من الإشكاليات السياسية والقانونية التي وصلت أصدائها للصحافة ووسائل الإعلام، إذ كان هذا القانون موضوعا للعديد من التصريحات الصحفية والتصريحات المضادة، بين المعارضة والحكومة حول مدى التنزيل السليم للدستور، أو حتى داخل حزب رئيس الحكومة، حيث اعتبر بعض مسؤولي حزب العدالة والتنمية أن هذا القانون ..." يعطي انطباعا سيئا بعودة الوضع السابق الذي عرف خلطا بين مهام واختصاصات المؤسسة الملكية والحكومة ورئيسها"... "وأنه يثير إشكالا سياسيا يتعلق بالتمييز على مستوى الشكل بين مدير مؤسسة عمومية معين بظهير وآخر بمرسوم، كما سيثير نفس الإشكال السائد حاليا بخصوص القوة المعنوية والسياسية للظهير والتي تجعل بعض الموظفين السامين خارج سلطة الحكومة والوزراء. بعض المتابعات الإعلامية لهذا النقاش وقفت على الكيفية التي تم بها اعتماد مشروع القانون التنظيمي داخل الحكومة، إذ أن السرعة التي تم بها إقراره كمشروع وصلت إلى حد أن وزراء الحكومة أنفسهم أو على الأقل الغالبية منهم لم يطلعوا عليه إلا لدى عرضة في المجلس الحكومي الذي انعقد ساعات فقط قبل انطلاق أشغال المجلس الوزراء الذي سيصادق عليه، البعض الآخر ذهب في اتجاه قراءة تعتبر القانون يجعل المؤسسة الملكية التي تراقب العدالة والجيش والدين، تحكم فضلا عن ذلك مراقبتها للاقتصاد. فيما ذهب جزء من النقاش الأولي الذي رافق عرض هذا القانون كمشروع أمام البرلمان إلى استناد مذكرة تقديمه أمام كل من المجلسين الحكومي والوزاري على "أحكام الفصل 42 من الدستور التي تنص على أن جلالة الملك هو ضامن دوام الدولة واستمرارها والحكم الاسمي بين مؤسساتها، والساهر على احترام الدستور وحسن سير المؤسسات"، حيث اعتبر بعض الباحثين أن هذا الاستناد "يذكرنا بالتأويل التعسفي للفصل 19 من دستور 1996 الذي تم توظيفه لسن مجموعة من التشريعات..." و "يتعارض مع التأويل الديمقراطي للدستور على اعتبار أن المعاني السامية الواردة في هذا النص تبقى مرتبطة بالوظائف التحكيمية والسيادية الكبرى التي يتولاها الملك باعتباره رئيس الدولة". إشكالية أخرى طرحها هذا القانون التنظيمي خاصة في تنزيله لمفهوم المؤسسات والمقاولات الاستراتيجية، تتجلى في الحاجة إلى الأعمال التحضيرية التي رافقت إعداد دستور 2011 لإضاءة العديد من جوانب قراءة هذا النص. قبل استعراض بعض الملاحظات العامة والإشكالية الدستورية التي يطرحها هذا القانون لابد من العودة إلى حضور السلطة التنفيذية داخل دستور 2011 ،وقبل ذلك داخل الحوار العمومي الذي رافق ولادة هذا الدستور. في كون السلطة التنفيذية هي عقدة إصلاح 2011 شهدت مرحلة الإعداد لدستور 2011 تحولات أساسية على مستوى شكل ومضمون الحوار الدستوري قياسا مع المراحل السابقة للحياة السياسية المغربية. وإذا كانت التحولات الشكلية قد تميزت أساسا بانفتاح المسألة الدستورية على حوار عمومي واسع مكن من الانتقال من معادلة دستورية تقليدية هي معادلة الأحزاب / الدولة، إلى معادلة جديدة تضمنت فاعلين جدد ممثلون بالحراك الشبابي والمجتمعي الذي شكلته دينامية 20 فبراير، وبقوى المجتمع المدني بكل آفاقها وحساسياتها،فإنه على مستوى المضمون قد تميزت بالموقع الذي أصبحت تحتلة مقوله "الملكية البرلمانية" والتي تحولت من مجرد شعار استراتيجي للتعبئة لدى اليسار، إلى مطلب مرحلي حاضر داخل النقاش العام وأوساط المجتمع والإعلام، ثم أساسا بذلك الانزياح التدريجي لموضوع و"لعقدة" الإصلاح الدستوري ،من الطابق السفلي للدستور (الحكومة والبرلمان) إلى طابقه العلوي (صلاحيات السلطة التنفيذية). فإذا كان الركن الأساسي للخطاب حول الإصلاحات خلال التسعينات قد تجسد في التأسيس لعلاقة أكثر توازنا بين الحكومة والبرلمان، فإن هذا الركن سيتحول إلى العلاقة داخل السلطة التنفيذية بين الحكومة والمؤسسة الملكية، وإذا كان هذا التحول يجد تفسيره في الدينامية الاجتماعية والسياسية التي عرفها المغرب خلال بداية سنة 2011 والتي مكنت من رفع سقف المطالب الدستورية، فإن خطاب 9 مارس 2011 نفسه قد أكد على هذا التحول، عندما تحدث في المرتكز الرابع للتعديل الدستوري الشامل عن "توطيد مبدأ فصل السلط وتوازنها وتعميق دمقرطة وتحديث المؤسسات وعقلنتها"، من خلال : "حكومة منتخبة بانبثاقها عن الإرادة الشعبية، المعبر عنها من خلال صناديق الاقتراع، وتحظى بثقة أغلبية مجلس النواب... تكريس تعيين الوزير الأول من الحزب السياسي، الذي تصدر انتخابات مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها.. تقوية مكانة الوزير الأول كرئيس لسلطة تنفيذية فعلية، يتولى المسؤولية الكاملة على الحكومة والإدارة العمومية وقيادة تنفيذ البرنامج الحكومي... دسترة مؤسسة مجلس الحكومة وتوضيح اختصاصاته". نعم لقد شكلت مسألة توزيع الصلاحيات داخل السلطة التنفيذية "عقدة" الإصلاح الدستوري لعام 2011، انطلاقا من الرغبة في تجاوز العطب الأكبر للبنيان الدستوري والمؤسسي لبلادنا، عطب "اللامسؤولية" الذي يجعل عديد من المساحات داخل السلطة التنفيذية خارج منطق الرقابة والمسؤولية، ويسمح بما كان الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي قد أسماه عند تقييمه لتجربة التناوب التي قادها، بازدواجية الحكومة / الدولة. السلطة التنفيذية في دستور 2011. لاشك أن فكرة الملكية التنفيذية لم تعد فكرة مهيكلة للهندسة الدستورية لوثيقة 29 يوليوز 2011، لكن من المهم التأكيد كذلك على أن دستور 2011 ليس دستور ملكية برلمانية ينقطع فيها أي تأثير للمؤسسة الملكية على التدبير والتوجيه السياسي والاقتصادي والاجتماعي للبلاد. ذلك أن دستور 2011 قد وقف فيمنتصف الطريق ،اذ اتجه نحو تبني صيغة نظام برلماني ثنائي، مما يجعل واقعيا السلطة التنفيذية مقسمة بين المؤسسة الملكية والحكومة. وتشكل هنا خطاطة المجالات الثلاث (المحفوظ، المشترك، الحصري) إمكانية مهمة لقراءة طبيعة توزيع الصلاحيات التنفيدية الذي تقترحه الوثيقة الدستورية. لقد احتفظ الملك بمكانة كرئيس للدولة مما يكرس سمو المؤسسة الملكية، فالفصل 42 يعتبر الملك رئيس للدولة، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستقرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها،(الذي) يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وعلى احترام التعهدات الدولية للمملكة. كما أن الملك هو ضامن استقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة. هذا الفصل يتحدث لأول مرة في تاريخ الدساتير المغربية عن صفة رئيس الدولة بشكل صريح، ويغير صفة التمثيل الأسمى من التمثيل الأسمى للأمة (دساتير 70-72-92-96) إلى التمثيل الأسمى للدولة، في تناغم مع الفصل الثاني الذي يقر بالسيادة للأمة، التي تمارسها مباشرة بالاستفاءة وبصفة غير مباشرة بواسطة ممثليها. بالنسبة للخطاب الملكي بتاريخ 17 يونيو 2011 فإن هذا الفصل يوضح الصلاحيات السيادية والضمانية والتحكيمية التي يمارسها الملك استنادا إلى المقتضيات المنصوص عليها صراحة في الدستور. أما الفصل 41 والذي جاء نتيجة لتقسيم الفصل 19 من الدساتير السابقة، فينص على الصلاحيات الدينية الحصرية للملك، أمير المؤمنين ورئيس المجلس العلمي الأعلى، وهي صلاحيات توجد بالضرورة ضمن المجال المحفوظ للمؤسسة الملكية، شانها في ذلك شأن التعيينات في الوظائف العسكرية التي تظل اختصاصا خاصا بالملك، القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية (الفصل 53). من جهتها الحكومة فقد منحها دستور 2011 وصفا جد متقدم قياسا مع الصلاحيات التي سبق أن توفرت لها طوال التجربة الدستورية المغربية، منذ أن عمل دستور 1962 على دسترة تبعيتها للملكية على مستوى التشكيل والمسؤولية وعلى مستوى الاختصاصات، ثم ما تعرضت له من تبعية مطلقة للملكية مع إنمحاء سلطة وزيرها الأول مع دستور 1970، حيثلم يعمل دستور 1972فيمابعد سوى على انبعاث دورها المحدود والذي سيتعزز على مستوى المسؤولية مع دستوري 1992 و 1996. لتصبح "حكومة دستور 2011"، حكومة "سياسية" و "منتخبة" ،جراء إنبثاقها من الأغلبية النيابية ،وهو ما يجعل من إكتمال وجودها القانوني والسياسي مرتبطا بلحظة التعيين الملكي ثم بلحظة التنصيب البرلماني، حكومة تتمتع باستقلالية أكبر تجاه المؤسسة الملكية حيث رئيسها يعين من الحزب المتصدر لانتخابات أعضاء مجلس النواب، وهو من يقترح تعيين الوزراء وإعفائهم، ولا يملك الملك حق اعفائه وإن كان يملك بعد استشارته أن يعفي عضوا أو أكثر من أعضاء الحكومة.( وهو ما يطرح سؤالا حول انسجام المنطق الدستوري العام الذي حكم دستور 2011 والذي يتجسد كما جاء في الخطاب الملكي ل 17 يونيو 2011 في مسؤولية الحكومة الحصرية أمام مجلس النواب). على مستوى الصلاحيات فإن التقدم الذي جاء به دستور 2011 يتجلى في الصلاحيات التي تنتمي للمجال الحصري للحكومة، حيث تمارس صلاحيات ذاتية تقريرية تملك فيها الكلمة النهائية، من هذه الاختصاصات نذكر: - تنفيذ البرنامج الحكومي وضمان تنفيذ القوانين (ف 89)؛ - ممارسة السلطة التنظيمية (ف 90)؛ - التعيين في الوظائف المدنية في الإدارات العمومية . - السياسات العمومية (ف 92)؛ - السياسات القطاعية (ف 92)؛ - القضايا الراهنة المرتبطة بحقوق الإنسان وبالنظام العام (ف 92). - المساهمة في الوظيفة التشريعية عن طريق مشاريع القوانين (ف 92)؛ - التعيين في الوظائف السامية في المؤسسات والمقاولات العمومية غير ذات الطابع الاستراتيجي. بين "المجال المحفوظ" للمؤسسة الملكية و"المجال الحصري" للمؤسسة الحكومية، طرح دستور 2011 مساحة تكرس بحق طابع اقتسام السلطة التنفيذية بين المؤسستين المذكورين، إنها المجال المشترك، حيث تملك الحكومة حق التداول (مثلا في السياسة العامة للدولة...) وحق الاقتراح (مثلا في وظائف: وإلى بنك المغرب، السفراء والولاة والعمال، والمسؤولين عن الإدارات المكلفة بالأمن الداخلي والمسؤولين عن المؤسسات والمقاولات العمومية الإستراتيجية)، فيما يعود البث النهائي للمجلس الوزاري الذي يرأسه الملك بمبادرة منه أو بطلب من رئيس الحكومة، كما يمكن للملك أن يفوض لرئيس الحكومة رئاسته بناء على جدول أعمال محدد. الصلاحيات التي تم الاحتفاظ بها للمجلس الوزاري تتعلق بطبيعة استراتيجية،أمنية،ترابية،ديبلوماسية،انها حسب خطاب 17 يونيو 2011، صلاحيات تحكيمية، وتوجيهية، لذلك فالفصل 49 حدد مجموع القضايا والنصوص التي يتداول هذا المجلس بشأنها في: - التوجهات الاستراتيجية لسياسية الدولة. - مشاريع مراجعة الدستور. - مشاريع القوانين التنظيمية. - التوجهات العامة لمشروع قانون المالية. - مشاريع القوانين – الإطار. - مشروع قانون العفو العام. - مشاريع النصوص المتعلقة بالمجال العسكري. - إعلان حالة الحصار وإشهار الحرب. ملاحظات عامة على مشروع القانون التنظيمي رقم 02.1 يعتبر هذا المشروع، خامس قانون تنظيمي يتم إعداده بعد التصويت وإصدار الأمر بتنفيذ دستور يوليوز 2011 وهو القانون المتعلق بتطبيق أحكام الفصلين 49 و92 من الدستور، والذي يرتبط بالتعيين في المجلس الوزاري بالنسبة للمسؤولين عن المؤسسات والمقاولات العمومية الاستراتيجية (ف 49) وبتميم لائحة الوظائف التي يتم التعيين فيها في مجلس الحكومة وتحديد مبادئ ومعاير التعيين في هذه الوظائف (ف 29). تضمن المشروع ستة مواد وملحقين، نظمت المادة الأولى لائحة المؤسسات العمومية الإستراتيجية التي يعين المسؤولون عنها بظهير بعد مداولة المجلس الوزاري، ولائحة المقاولات العمومية الإستراتيجية التي يصادق على تعيين المسؤولين عنها في المجلس الوزاري، وأحالت إلى الملحق الأول الذي يتضمن القائمة الحصرية لهذه المؤسسات والمقاولات. أما المادة الثانية فأحالت على الملحق الثاني الذي يتضمن لائحة الوظائف التي يتم التعيين فيها في مجلس الحكومة، لتحدد بعد ذلك المادة الثالثة مبادئ ومعايير التعيين في الوظائف السامية التي يتم التداول في شأنها في مجلس الحكومة، أما بالنسبة للمادة الرابعة فقد أحالت على نص تنظيمي لضبط مسطرة اقتراح المرشحات والمرشحين لشغل الوظائف السامية، بعد ذلك تعود المادة الخامسة للتعيين الذي يكون موضوع مداولة في مجلس الحكومة لتوضح أنه يكون بموجب مرسوم، وفي حالة المقاولات العمومية فإن مجلس الحكومة يصادق على التعيين بمبادرة من الوزير المعني. المادة الأخيرة تنص على الإبقاء على بعض الأحكام المتعلقة بمعايير ومساطر خاصة للتعيين في بعض الوظائف السامية بمقتضى تشريعات خاصة، شريطة عدم تعارضها مع ما يقره هذا المشروع من معايير ومبادئ في التعيين. الاطلاع على المشروع يوحي عموما بالملاحظات التالية: - إنطلاقا من أن الفصل 49 من الدستور قد أحال على القانون التنظيمي فقط أمر تحديد لائحة المؤسسات والمقاولات الإستراتيجية التي يتم التعيين فيها بعد مداولة المجلس الوزاري باقتراح من رئيس الحكومة وبمبادرة من الوزير المعني، على عكس الفصل 92 من الدستور الذي أحال على القانون التنظيمي إضافة لمسألة تتميم لائحة الوظائف التي يتم التعيين فيها في مجلس الحكومة، أمر تحديد مبادئ ومعايير التعيين في هذه الوظائف، فإن مشروع القانون التنظيمي قد حصر تحديد هذه المبادئ على التعيين في الوظائف السامية التي يتم التداول في شأنها في مجلس الحكومة. وإذا كان هذا الحصر يبدو مطابقا لصريح الوثيقة الدستورية، فإنه أثر على توازن مشروع القانون التنظيمي في بنائه العام إذ مقابل مادة واحدة هي المادة الأولى المخصصة لتطبيق الفصل 49 من الدستور، خصصت تقريبا باقي المواد لتطبيق الفصل 92 (المواد 2 و3 و4 و5، بالإضافة إلى المادة السادسة المتعلقة بكلا الفصلين).ومن ناحية المنطق القانون السليم لابد من التساؤل عن غاية المشرع من تحديد معايير ومبادئ التعيين المتعلقة بالمؤسسات والمقاولات العمومية "العادية" واستثناء تلك المتعلقة بالمؤسسات والمقاولات العمومية "الإستراتيجية"،- المفترض أنها أكثر أهمية-، خاصة مع تنصيص الدستور على عمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية، على تعبئة كل الوسائل المتاحة لتسيير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين على قدم المساواة من الحق في ولوج الوظائف العمومية حسب الاستحقاق (الفصل 31) وعلى سهر الدولة على ضمان تكافؤ الفرص للجميع (الفصل 35) وعلى خضوع المرافق العمومية لمعايير الجودة والشفافية والمحاسبة والمسؤولية وللمبادئ والقيم الديمقراطية (الفصل 154). - تنص المادة الثالثة من مشروع القانون التنظيمي ضمن إطار تحديد مبادئ التعيين في الوظائف السامية التي يتم التداول في شانها في مجلس الحكومة على المناصفة بين النساء والرجال، باعتبارها مبدأ تسعى الدولة لتحقيقه طبقا لأحكام الفقرة الثانية من الفصل 19 من الدستور. وهنا لابد من الوقوف على ملاحظة أنه إذا كان الدستور قد اختار طرح مبدأ المناصفة كغاية وليس كالتزام آني، فإن التنصيص على سعي الدولة لتحقيقه يجعل من القوانين العادية والتنظيمية منها، مطالبة ليس فقط بإعادة التأكيد على مسألة "السعي" ،ولكن أساسا باقتراح صيغ أكثر قابلية لتحقيق أثر واقعي فيما يتعلق بالتنزيل التدريجي لهذا المبدأ العام،و الذي يرتبط بولوج النساء للوظائف السامية مثلا في هذه الحالة. - أحالت المادة الرابعة لهذا القانون التنظيمي على نص تنظيمي يكون من شأنه أن يحدد "مسطرة اقتراح المرشحات والمرشحين لشغل الوظائف السامية، من قبل السلطات المعنية، وتقديم ملفاتهم وعرضها، من قبل رئيس الحكومة على مداولات مجلس الحكومة". وإذا كان أمر إحالة قانون تنظيمي إلى نص تنظيمي ،من الطبيعي أن تثير بعض الأسئلة المتعلقة بالهوية القانونية للقانون التنظيمي وبمجالاته، وهي مجالات بطبيعتها لها مسافة تجاه المجال التنظيمي، فإن التدقيق في صيغة هذه المادة يجعل من هذا النص التنظيمي مطالبا بتحديد مسطرة تتعلق حلقتها الأخيرة بعرض رئيس الحكومة لملفات المرشحات والمرشحين على مداولات مجلس الحكومة، وهذا ما يعني أن هذا النص الأخير سيكون عليه أن يقنن جزءا من عمل ونشاط مجلس الحكومة وهو أمر لا علاقة له بالمبادئ الدستورية العامة المحددة لتراتبية القوانين، بل أن هذا النص التنظيمي سيكون عليه بمقتضى هذه المادة أن يدخل في تماس مع القانون التنظيمي الذي نص عليه الفصل 87 من الدستور، والذي من مهامه تحديد القواعد المتعلقة بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة،وهو ما يجعل هذا المقتضى لا يبتعد عن عيب اللادستورية. في إنزياح مشروع القانون التنظيمي عن خطاطة توزيع الصلاحيات داخل السلطة التنفيذية كما حددها الدستور تتعلق الإشكالية الدستورية التي يطرحها مشروع القانون التنظيمي رقم 02.12 بالحجم الذي جاءت به لائحة المؤسسات والمقاولات العمومية الإستراتيجية (20 مؤسسة و17 مقاولة) ، خاصة عندما نجد أن العديد من هذه المؤسسات والمقاولات من الصعب تصنيفها في خانة الهيئات ذات الطبيعة الإستراتيجية. الجدير بالملاحظة في هذا السياق أن القانون التنظيمي المذكور لم يكلف نفسه أن يقدم التعريف الذي يعطيه لمفهوم "الإستراتيجية" ولا أن يستعرض مؤشرات التصنيف والمعايير المعتمدة لفرز المؤسسات والمقاولات الإستراتيجية عن غيرها. الحكومة من جهتها ومن خلال عرض الوزير الذي قدم مشروع القانون التنظيمي أمام مجلس النواب (لجنة العدل والتسريع يوم 27 مارس 2012) حددت الاعتبارات التي تمت مراعاتها في ضبط لائحة المؤسسات والمقاولات العمومية الإستراتيجية فيما يلي: - الطبيعة الإستراتيجية؛ - الأدوار المحورية التي تضطلع بها في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ - الأوراش الكبرى المهيكلة التي تتولى إنجازها. ومن الواضح أن الأمر لا يتعلق هنا بمعايير دقيقة لمحددات الطبيعة الإستراتيجية الذي على أساسه تختلف مسطرة التعيين في الوظائف السامية داخل المؤسسات والمقاولات العمومية. بالنسبة للحكومة فهذه المؤسسات والمقاولات الإستراتيجية تتوزع على خمسة مجموعات أساسية: - مجموعة عالم الاقتصاد والمالية تضم مؤسسات ومقاولات تنتمي للقطاع المالي، لقطاع الطاقة والمعادن ولقطاع البنيات التحتية؛ - مجموعة الأوراش الكبرى تضم منشئات ذات علاقة بميناء طنجة المتوسط، بضفة أبي رقراق وبحيرة مارشيكا؛ - مجموعة التقنين، تضم مؤسسات ذات طبيعة تقنينية في مجالات الاتصالات والموانئ أو المحافظة العقارية... - مجموعة القطاعات الاجتماعية والثقافية والإعلامية. إن عمق الإشكالية الدستورية يتجلى في كون تمطيط معيار الطبيعة الإستراتجية وعدم تدقيق القانون التنظيمي للمؤشرات الواضحة لهذا المعيار، يجعل جزءا من الصلاحيات ذات العلاقة بالمجال الحصري للحكومة ينزاح إلى المجال المشترك، وهو ما يجعل من هذا القانون يذهب في تجاه تأويل رئاسي للوثيقة الدستورية، التي جعلت المجلس الوزاري محتفظا بصلاحيات ذات طابع إستراتيجي وتوجيهي وتحكيمي، مقابل جعل الحكومة مسؤولة عن تنفيذ برنامجها الحكومي وعن تدبير السياسات العمومية والقطاعية، والتي انطلقت من ربط المسؤولية بالمحاسبة كأحد مقومات النظام الدستوري.. إن تنصيص الفصل 89 من الدستور على أن الحكومة تمارس السلطة التنفيذية وعلى أنها تعمل تحت سلطة رئيسها على تنفيذ البرنامج الحكومي وعلى ضمان تنفيذ القوانين وأنها تمارس الإشراف والوصاية على المؤسسات والمقاولات العمومية،وتنصيص الفصل 102 على خضوع هذه الأخيرة للرقابة البرلمانية، يجعل من العلاقة بين الحكومة وهذه المؤسسات والمقاولات ،هي الأصل، وبالتالي فالاستثناء هو ما تقره المادة 49 عندما تنص على أن لائحة المؤسسات والمقاولات الإستراتيجية التي يتم تعين المسؤولون عنها في المجلس الوزاري، تحدد بقانون تنظيمي. لذلك لابد من التساؤل عما إذا كان منطق الإستثناء ،والمحدودية الذي أسبغه الدستور على هذه المنشئات، يمكن أن يجعل مجموعها يصل إلى كل هذا العدد (37) من المؤسسات والمقاولات، خاصة عندما نطلع على أن البعض منها ذو نشاط محلي لا يرقى إلى الطبيعة الإستراتيجية التي تفترض بالضرورة إشعاعا وطنيا، أو عندما نجد بعض المؤسسات أو المقاولات لا تشكل سوى آليات مؤسسية لتفعيل البرامج الحكومية دون أن يحظى نشاطها بأي بعد إستراتيجي بالنسبة للدولة ولسيادتها الاقتصادية وتوازناتها الاجتماعية، أو عندما يأثر المعيار المالي الذي اعتمد في غالبية اللائحة كمعيار" محدد" على المنطق السليم للتصنيف حيث نجد مثلا "الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي" ضمن خانة المؤسسات الإستراتيجية مقابل "الصندوق المغربي للتقاعد" الذي صنف خارج هذه اللائحة؛ أو" الصندوق المغربي للتنمية السياحية" كمقاولة إستراتيجية مقابل "المكتب الوطني للسياحة "كمؤسسة غير إستراتيجية. في الأخير فإن الجزء الأعمق للإشكالية الدستورية التي يطرحها هذا النص تتجلى في التساؤل عما إذا كان تنزيل هذا القانون التنظيمي قد همش التفعيل السليم للنص الدستوري على حساب الرهانات السياسية للحكومة. لقد تابعنا كيف أن المسؤولين الحكوميين في سياق النقاش السياسي والإعلامي الذي رافق هذا القانون، وعوض الدفاع الموضوعي عن مقتضياته لجؤوا إلى حجة جاهزة، تقول بأن" الحكومة لن تشتغل في إطار التنازع بل في إطار التفاهم مع المؤسسة الملكية".(لما يربط تطبيق الدستور باثارة العلاقة مع المؤسسة الملكية) فهل ستعاني من جديد الثقافة الدستورية من آثار التوافقات السياسية؛ وهل خطابات الثقة يمكن أن تكون بديلا عن احترام التعاقد القانوني الأسمى؟ وهل تدبير العلاقات السياسية مع المؤسسات أسبقية عن تدبير مسلسل تفعيل الوثيقة الدستورية؟